- 13 شباط 2025
- مقابلة خاصة
بقلم : حسين العسكري*
لقد أعطت التصريحات العبثية التي أطلقها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب متبوعة بـ الإهانات التي وجهها بنيامين نتنياهو الى بعض الدول العربية المهمة، نقول أعطت فرصة للدول العربية لطرح خطة بديلة واقعية وإنسانية متوافقة مع القانون الدولي لإنقاذ الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية وحل القضية الفلسطينية وإحلال السلام والتنمية في منطقة غرب آسيا (تسمى خطأ الشرق الأوسط). لكن هذا الأمر يحتاج الى ضمانات وتعاون من قوى دولية أهمها الإدارة الأمريكية ولكن ليس وحدها. لقد صعدت الصين وروسيا ودول البريكس التي انضمت اليها مصر والإمارات وإيران وأثيوبيا هذا العام والعديد من الدول في الجنوب العالمي اقتصاديا وعسكريا وسياسيا اليوم. وقد اعترف وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو مؤخرا بأن زمن الاحادية القطبية قد ولى وحل محله عهد تعدد الأقطاب. يجب استغلال هذه الحقيقة التاريخية من قبل الدول العربية ليس لضرب الغرب بالشرق وإنما لبناء الجسور عبر الدول العربية بينهما.
أولا، لا بد من التمسك بحل الدولتين وحق الشعب الفلسطيني في تأسيس دولته وعاصمتها القدس الشرقية على الأراضي الفلسطينية وفقا للقرار الأممي 242 لعام 1967 والمبادرة العربية للسلام لعام 2002. ولكن لكي تكون هذه الدولة مستدامة فلا بد من وجود سياسة اقتصادية للإعمار والتنمية وتعويض الشعب الفلسطيني وأجياله الناشئة عن المآسي والأهوال التي واجهها لحد الأن.
لا بد أولا من فتح بوابات الإغاثة الإنسانية بشكل فوري لتفادي موت مئات الألاف من الفلسطينيين في غزة بسبب الجوع ونقص المناعة والأمراض المعدية بسبب تلوث المياه وانعدام خدمات الصرف الصحي والرعاية الصحية. ربما هذا ما تعول عليه الحكومة الإسرائيلية المتطرفة في دفع الشعب الفلسطيني إلى الخروج من غزة طوعا. يجب أن نتذكر ما حصل في العراق بعد عاصفة الصحراء في عام 1991، حيث قتل ما يقارب المليون عراقي نصفهم من الأطفال ليس في القصف الأنجلو أمريكي وإنما بسبب تبعات تدمير البنى التحتية الأساسية والحصار الاقتصادي بسبب سوء التغذية وانتشار الأمراض.
خطة الواحة
أما بالنسبة للخطة طويلة الأمد فنحن سعداء بالتصريحات التي أطلقتها الحكومة المصرية حول وجود خطتين سوف يتم تداولهما مع الدول العربية قبيل القمة القادمة نهاية هذا الشهر. وبما أننا لا نعلم تفاصيل هذه الخطط، فإننا نود طرح جملة أفكار ضمن ما نسميه “خطة الواحة” وهي فكرة أطلقها عالم الاقتصاد الأمريكي الراحل ليندون لاروش في السبعينات وتبني أسسها على مفهوم “السلام عبر التنمية” حيث لا سلام بدون تنمية ولا تنمية بلا سلام، وحيث يجب ان تسير المسألتان بالتوازي.
هذا ما لم يحصل في اتفاقية أوسلو، حيث تم إهمال المقررات الاقتصادية في الملحقين الثالث والرابع وإن لم تكن كافية وتم التركيز على الحلول السياسية فقط. كان هذا ما دفع لاروش إلى تنبؤه بفشل اتفاقية أوسلو بالإضافة إلى تحذيره من دور اليمين المتطرف الإسرائيلي وداعميه من الحركات الصهيونية المسيحية في الولايات المتحدة وبريطانيا في تدمير أي أسس للسلام واغتيال وسجن المنادين به من الجانبين.
تتمثل خطة الواحة بمعالجة مشاكل نقص المياه والتصحر في المنطقة ونقص البنى التحتية الأساسية الحديثة للتنمية، ونقص القدرات الزراعية والصناعية بالرغم من وجود الثروات الطبيعية والموقع الجغرافي والثروات المالية والبشرية في المنطقة الموزعة بلا تساوي في المنطقة. ترى الخطة مسألة إعادة الإعمار في غزة وفلسطين والمنطقة كلها (خاصة سوريا ولبنان والعراق واليمن) في سياق أكبر. حيث لا يمكن إيجاد حلول لمشاكل محلية أسبابها كونية وعالمية.
تبدأ الخطة في شكلها الجديد الذي تم تطويره من قبل هذا الكاتب وزملاؤه في معهد شيللر العالمي في العامين الأخيرين في سياق مبادرة الحزام والطريق أو طريق الحرير الجديد وترابط البنى التحتية لمنطقة غرب آسيا واستغلالها كجسر بين آسيا وأوروبا وأفريقيا من جهة والمحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسط من جهة أخرى. يتم ذلك عبر بناء ممرات تنمية في كل المنطقة مكونة بالدرجة الأساس من خطوط النقل مثل سكك الحديد والطرق السريعة، وأنابيب نقل المياه والطاقة الكهربائية والنفط والغاز، وبناء مناطق زراعية وصناعية ومدن جديدة على جانبي ممرات التنمية هذه التي سوف تمتد إلى فلسطين (من الأردن إلى الضفة الغربية وإلى غزة والبحر المتوسط ومنها إلى مصر)
المياه والزراعة:
تهدف الخطة أولا إلى حل مشكلة نقص المياه وتخلف الزراعة وانتشار التصحر. لا يمكن الاعتماد على كمية المياه المتوفرة طبيعيا في المنطقة وخاصة الجولان وجنوب لبنان والضفة الغربية والتي تستحوذ إسرائيل على معظمها، حتى وإن تم تقسيمها تقسيما عادلا فرضيا. توجد حاجة في المنطقة كلها إلى زيادة كمية المياه المتوفرة أضعاف مضاعفة، ولا يمكن ذلك سوى عبر تحلية مياه البحر. توجد ثلاث مشاريع للقيام بالتحلية: أولا، بناء قناتين إلى البحر الميت إحداهما من البحر الأحمر والثانية من البحر المتوسط. ليس غرض هاتين القناتين اللتان هو النقل البحري كما يشاع، ويمكن الاستعاضة عنهما بأنابيب كبيرة القطر. إنما غرضها الاستفادة من الاختلاف الهائل في الارتفاع بين البحرين الأحمر والأبيض من جهة والبحر الميت من جهة أخرى. ويبلغ انخفاض البحر الميت أربعمائة متر عن سطح البحر. هكذا يمكن الاستفادة من الجريان السريع للمياه في القناتين المنحدرتين نحو البحر الميت في توليد الطاقة لتحلية مياه البحرين واستخدامات اخرى. يمكن مستقبلا بناء محطات نووية بمفاعلات نمطية صغيرة الحجم للقيام بعملية تحلية المياه وإنتاج الطاقة الكهربائية. وينبغي بناء محطات مشابهة تعمل إما بالغاز الطبيعي او الطاقة النووية مستقبلا على شاطئ البحر المتوسط أيضا. يجب تطوير الزراعة بشكل كبير في المناطق الفلسطينية وفي دول الجوار العربي أيضا لتحقيق الأمن الغذائي والاستقرار الاقتصادي والسياسي والأمني لأن جزءا كبيرا من موارد الدول العربية تضيع في استيراد المواد الغذائية. كما تحدث هزات اجتماعية وسياسية في الدول العربية كلما وقعت أزمة عالمية تؤدي الى ارتفاع أسعار الأغذية مثلما حصل في عامي 2008 و 2009 وبعد اندلاع حرب أوكرانيا عام 2022. لذلك يجب التوسع في زراعة وتشجير المناطق الجافة والصحراوية في كل المنطقة العربية.
الصناعات:
طرح ليندون لاروش في مؤتمر للنفط والغاز في السياسة العالمية في أبوظبي في عام 2002 فكرة قيام الدول المنتجة للنفط ببناء مفاعلات الطاقة النووية واستخدام موارد النفط والغاز فيها لبناء صناعات بتروكيماوية وكيماوية وغيرها ترفع القيمة المضافة للنفط والغاز الخام أضعافا مضاعفة. وقد قامت الإمارات العربية المتحدة فعلا بعد عدة أعوام ببناء برنامجها النووي السلمي وانجزت بناء أربعة مفاعلات نووية كبيرة الحجم بالتعاون مع كوريا الجنوبية. وتقوم مصر حاليا ببناء المحطة النووية في الضبعة بالتعاون مع روسيا. كما أن التقدم الصناعي والتكنولوجي في الصين قد مكنها من توطين بعض الصناعات المتقدمة في دول عربية مثل المملكة العربية السعودية وعمان والإمارات العربية المتحدة ومصر. وينبغي لجميع الدول العربية القيام بذلك، بالإضافة الى تأسيس صناعات في غزة والضفة الغربية بالاستفادة من موقعها الجغرافي ووجود المواد الخام واليد العاملة وقربها من الأسواق. وينبغي تنفيذ بناء ميناء بمواصفات عالمية في غزة ومطار وخطوط للسكك الحديد والمترو.
التمويل: لا يمكن الاعتماد فقط على المساعدات الخارجية لاستدامة الوضع الاقتصادي للشعب الفلسطيني ودولته المستقبلية. تتضمن خطة الواحة تأسيس بنك عربي أو إقليمي للتنمية على غرار البنك الآسيوي لاستثمارات البنية التحتية برأسمال مئة مليار دولار. على الدول العربية مجتمعة تأسيس هذا البنك حيث سيكون غرضه ليس فقط إصدار ائتمانات بفائدة منخفضة واماد طويلة لتمويل مشاريع بنية تحتية أساسية في كل المنطقة وفي الاردن وفلسطين ولبنان وسوريا بالذات فحسب، وإنما أيضا بتوفير غطاء مالي أو رافعة لبنوك تنمية وطنية يتم إنشاؤها مثل بنك التنمية الفلسطيني (الذي نصت عليه اتفاقية أوسلو ولم يتم تأسيسه). البنوك الوطنية سوف تكون قادرة على تمويل مشاريع محلية للإسكان والزراعة والصناعة. هذا الأمر سوف ينقذ الدول العربية الفقيرة والشعب الفلسطيني من الاعتماد على المساعدات الاجنبية المشروطة بشروط وتنازلات سياسية.
كما يمكن الحصول على التمويل من البنك الآسيوي لاستثمارات البنية التحتية واتفاقيات ثنائية “للنفط مقابل الإعمار” و “النفط مقابل التكنولوجيا”، حيث يمكن استخدام جزء بسيط من صادرات المنطقة من النفط والغاز (5% الى 10%) لتمويل البنك العربي للتنمية المقترح وللحصول على ائتمانات ثنائية من الدول المستوردة للنفط والغاز مثل الصين واليابان وكوريا والهند ودول اوربا وتوظيف تلك الإئتمانات في مشاريع البنية التحتية والصناعة الزراعة.
كيف يمكن إعادة بناء غزة دون نقل سكانها؟
توجد حلول عديدة وبسيطة لكن تحتاج إلى تنظيم جيد وتمويل مشترك. مثلا توجد قدرات كبيرة لدى دول اسيوية منها الصين لتصنيع منازل جاهزة صغيرة بحجم حاوية بحرية نمطية ذات طابق واحد بأسعار زهيدة وسرعة كبيرة. لا يمكن للشعب الفلسطيني في غزة الاستمرار في العيش في الخيام دون التعرض لشتى انواع المشاكل الصحية والنفسية والاجتماعية. يمكن بناء مرافق صحية مشتركة حول تجمعات من هذه المساكن على طول ساحل غزة، ويتم تزويدها بالمياه والكهرباء ومعالجة الصرف الصحي عبر محطات عائمة لتوليد الطاقة الكهربائية وتحلية المياه وهي متوفرة في مناطق عديدة في العالم أو يمكن بناء مثلها بسرعة.
إن خطة الواحة خطة برغم انها شاملة إقليمية وتحتاج توافقا عالميا، إلا انها قادرة على ايجاد حلول حتى للمشاكل المحلية والوطنية. يمكن التوسع في تفاصيلها بالتعاون مع المخططين والمهندسين المحليين لأقلمة تفاصيلها مع الوضع المحلي لكل منطقة وكل بلد. الغرض من طرحنا لفكرة خطة الواحة هو ليس تصميم سياسات دقيقة لكل بلد وإنما لوضع تصور عام ولكن علمي يوازي التطورات الاقتصادية والتقنية والسياسية في العالم الجديد اليوم.
* منسق شؤون منطقة غرب اسيا في معهد شيللر العالمي
نائب رئيس معهد الحزام والطريق في السويد