- 18 آذار 2025
- مقابلة خاصة
القدس - أخبار البلد - أجرى الصديق الكاتب النشيط زياد خداش مقابلة شيقة وكتبها باسلوبه مميزة مع شخصية فريدة من نوعها انه الاستاذ الروائي المعروف " محمود شقير" . تلك المقابلة نشرت في صحيفة " الأيام " الفلسطينية ، ويسعدنا في جريدة " أخبار البلد" المقدسية ان نعيد نشرها بالكامل وحرفيا .
" هذا هو محمود شقير، عشرات من المجموعات القصصية، وتلال عالية من المواقف المشرفة والنزاهة الشخصية، وتلاميذ كثر، مَن منّا من لم تنم كتبه في سريره وهو في ريعان خياله؟
من أين ندخل هذا الرجل؟ من منفاه الطويل عن الوطن أم من نضالاته ضد الاحتلال؟ أم من قصصه الأدبية المشرقة في مجلة "الأفق الجديد"؟ أم من رائعته المباغتة الأخيرة "منزل الذكريات"، التي تجسد نظرية الأسلوب المتأخر لمخترعها إدوارد سعيد، وهي خلاصة فلسفية أدبية لعالم الكاتب، ينفجر فيها توتراً وجمالاً وإبداعاً، أم من "خبز الآخرين" أول المطر الجديد؟.. هذه هي هويّات الرجل الجمالية والشخصية والعامة: القاص، الشاعر، المثقف، والروائي البدوي الفلسطيني الشيوعي المقدسي، كلنا صحونا على لغته المختلفة، كلنا قلنا: هذا هو معلمنا الذي سيسمح لنا بدماثته ووعيه فيما بعد بمحاولة تجاوزه، لكننا تجاوزنا الكل إلاه، ففي "منزل الذكريات"، "خربط" شقير أوراق كتّاب القصة الفلسطينيين، ووضعهم في أتون سؤال حارق: هذا قاص قديم فكيف يحتل صدارة المشهد فجأة؟ ويأتي الجواب: محمود شقير عابر للأجيال، من "خبز الآخرين" وحتى منزله الأخير.. هي مسيرة ذكاء، وإبداع وصدق، وجمال لا ينتهي، وهذه دردشة معه:
* في روايتك الأخيرة "منزل الذكريات" لم تكن أنتَ، فجرعة البوح كانت عالية.. وقد تعودنا على جرعاتك التلميحية الفاتنة.. احكِ لنا عن دوافع هذا العمل الفاتن؟
- حين قرأت أوّل مرّة رواية الياباني ياسوناري كاواباتا: "منزل الجميلات النائمات" أعجبت بها، ولم يخطر ببالي أن أكتب رواية فلسطينية بالتناصّ معها، وحين أبدى الكولومبي غارسيا ماركيز إعجابه برواية كاواباتا، وتمنى لو أنه كاتبها، أثار فضولي برغبته هذه، وحين كتب روايته: "ذكريات عن عاهراتي الحزينات" التي جاءت على غرار رواية كاواباتا، تحوّل الفضول إلى رغبة عارمة في كتابة رواية.
حين بلغت الثمانين عدت إلى قراءة الروايتين، وبدأت وضع اللمسات الأولى لرواية تتناصّ معهما، ولكن بنكهة فلسطينية، وهنا كان لا بدّ من جرعة بوح مساوية لما في الروايتين المذكورتين، ليس بهدف الإثارة، وإنما لتقديم نصٍّ متحرّر من القيود، ومفعمٍ بالحياة.
ولذلك، استعنت بالتراث العربي الإسلامي الذي أنتمي إليه، من خلال كتابين هما: "النساء" لابن قتيبة، و"أخبار النساء" لابن قيم الجوزية، وفيهما من البوح والجرأة ما يزيد عن البوح الوارد في روايتيّ كاواباتا وماركيز.
وهكذا، عبر تفاصيل أخرى كثيرة أنجزت رواية "منزل الذكريات" التي كُتبت عنها حتى الآن مقالات تفوق في حجمها حجم الرواية ذاتها.
* ماذا تكتب الآن؟ أشعر أنك تسابق الزمن، هل التقدم في العمر سبب في غزارة الكتابة أم هي الرغبة في قول ما لم تقله بعد؟
- الآن، أضع اللمسات الأخيرة على الجزء الثالث من سيرتي الذاتية، وسأرسل هذا الجزء إلى دار "نوفل" في بيروت، ولي ثلاث مخطوطات في ثلاث دور نشر، وأعدّ للنشر بعض مخطوطات تجمّعت لديّ على مرّ الزمن، حول السير الذاتية والسير الغيرية، وحول القصة القصيرة وأدب الأطفال.
هذه الغزارة في الكتابة لها علاقة بالسباق مع الزمن، ولها علاقة بالتفرغ للكتابة منذ عشرين عاماً، وبالكتابة على الحاسوب الذي يعطيني نتائج مذهلة مقارنة بزمن الكتابة على الورق
* أجيال كاملة تأثرت بلغتك وأجوائك.. شخصياً سرقت منكَ ومن أكرم هنية فضاءات الفقد.. من هو الكاتب الذي تأثرت بأجوائه؟
- جاء الفقد من معاناة حقيقية في زمن الطفولة، حين اضطررنا أنا وأهلي لمغادرة بيتنا في إحدى ليالي شهر آب من العام 1948، حيث هاجمت العصابات الصهيونية جبل المكبر.. غبنا عن البيت أربعة أشهر ثم عدنا إليه، ومنذ تلك التجربة وأنا أشعر بهذا الفقد وبالخوف من عدم الاستقرار.
أمّا الكاتب الذي تأثرت بأجوائه الماثلة في قصصه القصيرة وفي رواياته فهو الأميركي آرنست هيمنغواي.
* الإقامة في القدس كقاص، هل منحتك ثراءً في الإحساس الإنساني، أم غرقاً في ثيمة الفقد؟ أم أشياءَ أخرى؟
- للقدس دورٌ كبيرٌ في إغناء شخصيتي، وفي تعزيز ثيمة الفقد التي جربتها في ليلة مغادرة البيت، والتي تضاعفت من جراء خوفي على المدينة وهي تتعرّض لقذائف المعتدين الصهاينة.
وقد علّمتني القدس احترام التعدّدية الناتجة عن طبيعة المدينة، كونها حاضنة الديانات السماوية الثلاث، وكون بوابات سورها تنفتح على كل الجهات.
* كنت منفياً خارج فلسطين ذات مرة.. هل ثمة حنين خاص للمنفى؟ حنين ثقافي مثلاً؟
- بعد عودتي من المنفى إلى القدس في العام 1993، راودني الحنين إلى زيارة المدن الثلاث التي أقمت فيها، وقد نفّذت ذلك مرّات عدّة في عمّان التي عشت فيها أربعة عشر عاماً.. زرتها حين دعاني الشاعر والروائي إبراهيم نصر الله لتقديم شهادة أدبية في دارة الفنون التي كان يشرف عليها آنذاك، وزرتها لتقديم شهادة عن أدب مؤنس الرزاز في الذكرى الأولى لرحيله، وزرتها في مناسبات أخرى.
ثم زرت براغ مرّة واحدة في العام 2005، وكانت حصيلة الزيارة كتابي القصصي "احتمالات طفيفة"، وزرت بيروت مرّة واحدة في العام 2009 للمشاركة في الأسبوع الثقافي الفلسطيني الذي انعقد هناك.
الآن لم تعد لديّ أيّ رغبة في السفر ومغادرة القدس.
* القاص أو الكاتب في الثمانين.. ما الذي يعنيه؟
- يعني استثمار الوقت للكتابة، ويعني الزهد في أشياء كثيرة كالسفر، وارتياد المطاعم، والسهر، واقتناء ملابس جديدة، ويعني عدم الخوف من الموت، والتمسك بالحياة واحترامها، والعيش المتقشف البسيط.
* قل لي يا أبا خالد، يا معلمي الكبير.. كيف يمكن أن نتعلم التطابق بين الكتابة والسلوك الشخصي؟ أنت نموذج مثالي لهذا التطابق.
- شكراً لك العزيز زياد.. والصحيح ليست لديّ وصفة جاهزة لهذا التطابق الذي تتحدث عنه في سؤالك.. ما أعرفه أنني حين أكتب أكون صادقاً مع نفسي، بعيداً من التبجّح والغرور، وما أكتبه فيه تعبير صادق عن نفسي وعن مشاعري وأفكاري.
* ما هي الفترة الذهبية للأدب في فلسطين حسب رأيك؟
- كانت فترة مجلة "الأفق الجديد" المقدسية، في ستينيّات القرن العشرين، فترة ذهبية بالنسبة لي.
كنت أطير من الفرح حين أرى اسمي مدوناً على غلاف المجلة، وكنت أقدّر وأحترم رئيس تحرير المجلة الشاعر أمين شنّار، وأبتهج للقاء الأصدقاء الكتّاب.. كانت علاقاتنا تتسم بالصدق وبالابتعاد عن الحساسيات المرضية، ولم يكن للنميمة مكان في علاقاتنا.
* لطالما حيرتني شخصية غامضة كان لها دور في تفجير الحداثة الأدبية في فلسطين، وهو أمين شنّار رئيس تحرير مجلة "الأفق الجديد".. حدثنا عن هذا الرجل، بصفتك من أهم من نشروا في مجلّته.
- كان لأمين شنّار فضل كبير عليّ وعلى آخرين من الكتّاب الشباب.. لولاه ولولا مجلة "الأفق الجديد" كان يمكن ألا أكون كاتباً.. قبل ظهور المجلة في القدس في العام 1961، كتبت مقالات سياسية وخواطر أدبية أرسلتها إلى صحيفتي الجهاد وفلسطين الصادرتين في القدس، ولم تنشر أي من الصحيفتين أيّاً من مقالاتي وخواطري.
وحين وقعت الأعداد الأولى من مجلة "الأفق الجديد" بين يديّ، تشجّعت وذهبت إلى مقرها في شارع الزهراء في القدس ومعي أربع قصص، قدّمتها لرئيس التحرير، قرأها ولم يوافق على نشرها.. كان صريحاً معي لكنه لم يحبطني، قال، إن لديّ إمكانية لكتابة قصة ناجحة.. وبالفعل بقيتُ أحاول حتى ظفرت بكتابة قصة أولى نشرتها لي المجلة في أحد أعدادها العام 1962، وكان اسمها "ليل ولصوص"، عن مغادرة بيتنا بسبب الهجوم الصهيوني على جبل المكبّر.
كان أمين إسلاميّاً يحترم الرأي والرأي الآخر، وكان مثقفاً مطّلعاً على الأفكار الحديثة في القرن العشرين، وانعكس ذلك على المجلة، وعلى ما فيها من قصص وقصائد ومقالات.
* كنت أودّ أن تبقى على قيد القصة القصيرة، أبا خالد، لكنك خنتها وذهبت إلى الرواية، ومع أنني ربما أخون مثلك، اسمح لي بسؤال: هل العطش في السرد القصصي هو من أخذك إلى الإشباع الروائي؟
- لم أغادر القصة القصيرة، ولعلّك لاحظت أنني أصدرت كتابي القصصي "نوافذ للبوح والحنين" عن دار طباق للنشر والتوزيع في رام الله، بعد ثلاثية العائلة، وقريباً ستصدر لي عن منشورات المتوسط في إيطاليا سردية قصصية موسومة بـ"حفيدة من هناك".
ثم إنني أستفيد من السياقات الروائية في كتبي القصصية، بحيث يمكن أن تقرأها على أنها قصص، ويمكن أن تقرأها على أنها روايات.