• 10 أيلول 2025
  • مقابلة خاصة

 حاوره. زياد خداش

أذهب إلى القدس كل شهر تقريباً وأمامي هدفان، أن أمشي في العتيقة بلا هدف، وأن أجلس مع الشاعر والإعلامي المقدسي نبيل جولاني، اسميه أرشيف الثقافة الفلسطينية، لا تغيب عنه معلومة، جاهز دائماً لتصحيح خطأ في اسم كاتب أو في مكان أو في دار نشر أو اسم كتاب أو تاريخ أمسية.

نبيل يعيش في زمن الثمانينيات لا يعترف بالمحمول الذكي ولا باللاب توب، وما زال يسمع الأغاني من الكاسيتات القديمة، ما زال محتفظاً بجزء من مكتبه الشهير في شارع صلاح الدين، يكتب ويقرأ، ويستقبل الأصحاب، ويتذكر الماضي، هذه دردشة معه:

السؤال الأول: انت من الزمن القديم حتى الأشياء المحيطة بك نفذت صلاحيتها وصارت تراثا ؟

أنا أقدّر التّقدّم في كل شيء وخاصة التقدم والتطور التكنولوجي العلمي وأدرك مدى حاجتنا وحاجة الناس إلى ذلك مما يساهم في التطور الصناعي والزراعي والعمراني والصحي والتعليمي والعسكري والتجاري، الأمر الذي يسهل ويوفر ويسرع معظم المعاملات على تعددها واختلافها على الأصعدة في أرجاء الكون كافة، وأنا راضٍ عن ذلك، ولكن الاستعمال الخاطئ لما يسمى بأجهزة التواصل الاجتماعي، وهي في الحقيقة عندنا "لأجهزة التباعد الاجتماعي" زيادة على ما نحن فيه اليوم من وضع رديء، والأكثرية يعزون إلى الموبايل إنه سبب الفساد وفي رأيي أن كثير من الناس فاسدين والموبايل فقط سهل لهم ذلك، ويدّعون أنهم يقرؤون كل الحسنات والمعرفة على الموبايل، ويقرأون المصحف والكتب، وينهلون منه المعرفة والثقافة، فنحن شعبٌ غير قارىء، فالثقافة أساس قيام الدول، وفي الواقع لا يعدو عن كل ما يقرأه إلا كونه سخافات في سخافات والدليل على ذلك ما نحن تعيشه المنطقة من تخلف وعجز وجهل متراكم متوارث. ويلومني الكتاب والصحفيون والأهل والأصدقاء كوني أحمل جهازا غير متطور يخلو من الشبكة العنكبوتية، فإني أختار ذلك للأسباب التي ذكرتها، ولأنني أمسك بيدي حينما وأقرأ الكتاب، ولأنني أذهب لألتقي بالأخوة والأصحاب لا عبر رسالة إلكترونية لا تصيب شغاف القلب ولا تصل الألباب،، وكذلك لأن الشركات والمواقع تبرمج المستخدم كما تشاء، وتأخذه إلى دوامة مستهدفة لكي تشغله عن قضايا شخصية وعامة، ومؤثرة من أجل أن يسير في فلكها الذي رسمته له وأرضعته إياه وتربى عليه، حتى يصل إلى درجة الشلل والعجز والفشل وعم الانتاج والابداع وعدم الفعل والعمل حتى الانهيار. 

(فإذا كان نبيل الجولاني لا يحمل هاتفا حديثا ويُنتقد على ذلك ومعطلا للمسيرة في الوطن العربي "فبالناقص مني" سيروا والله يرعاكم…). أما لكوني أستمع إلى الأغاني القديمة فإنني بذلك استمع الى (جيل الزمن الجميل جيل الرواد، مغنيين ومستمعين) لا جيل اليوم، حيث أن هكذا مستمعين يليق بهم هكذا مغنيين ومغنيات. فهذه الاغاني الحالية التي بلا معنى وبلا مبنى وبلا مغزى، لا موسيقى ولا لحن ولا ما يحزنون، غير أنها لا تخلو من الضجيج والتسحيج والصراخ والجعجعة التي تنتج شخلعة ولا يخلو من الرقص وتكثر فيه الهزات والغمزات والصيحات والتطبيل، وهم طراطير يعتقدون أن الفيل طير أو قد يطير. وقد ساهم الوليد بن طلال هذا الأمير السعودي بعد أن اغدق الاموال الطائلة في تخريب الفن بكل اشكاله وانواعه من غناء ورقص وأدب وسيناريوهات، وتشويه الذائقة العامة في ثقافة تدعي بأنها حديثة ومتحررة ومتقدمة وشفافة وديمقراطية ومتطورة، فقد خرب وشوه الأدب والقيم وبث سموم ما يدعى بالثقافة الغربية،، أجل إنه شريك الأمير بندر بن سلطان سفير السعودية في واشنطن. الذي خرب الوطن العربي سياسيا حتى أصبحت الدول العربية بما هي عليه الآن من تفتت وتناحر وتبعية وعجز وانهيار.. إنهما تلميذا هنري كيسنجر وزير خارجية أمريكا في سبعينيات القرن الماضي. وكما قلت سابقا ليست أجهزة تواصل بل هي اجهزة تباعد، وإنني لا أنكر الفوائد الجمة لهذه الأجهزة، ولكن استخدامها الخاطئ هو الذي أرفضه، فمثلا بالرغم من أن مجتمعنا متشظيًا، لا اخوة، لا أصدقاء ، لا أهل، لا معارف، سهّل الاستخدام الالكتروني وساهم في زيادة التفكك الأسري وتفكيك المجتمع، وساهم بأن أصبح معظم مستخدميه اسرى للمواقع الالكترونية المتعددة والشركات المختلفة، يتصرف حسبما يملونه عليه من معلومات وبرامج ومواقع، حتى أصبح راضيا عنها وكأنه يساهم في ذلك حتى أصبح تائها بلا انتماء او مسؤولية، وبلا اي رصيد سوى رصيد الكتروني وصداقات الكترونية لا عقل ولا قلب ولا روح فيها، خدمة لنظام العولمة ونظام الهيمنة والسيطرة والاستبداد والاستعباد والنظام العالمي المتوحش، فضلا عن نظام الفوضى الخلاقة من أجل إلغاء الهوية الوطنية والهوية الثقافية وتعزيز تفتيت الدول، وابتداع دويلات تابعة تسودها الاثنية و التعصب الشوفيني، ونظام الطوائف المتصارعة خدمة للرأسمالية المتوحشة، وفتاوي القطب الواحد المسيطر بالقوة، الذي لا يحسب حسابا لقوانين الرحمة والرأفة والشرف. 

وكما يقال: "منذ سنوات أنحازُ كثيرا لمقولات الروائي الايطالي امبرتو إيكو عن الخراب الذي أحدثته وسائل التواصل الإجتماعي، وكيف أنها فضحت الحمقى، وفتحت لهم منابر تفضح ضحالتهم الثقافية وسطحيتهم الفكرية، ومن دون ان يخجلوا من عريهم أبدا". 

السؤال الثاني: احكي لي عن تقييمك لتجربتك الشعرية؟

نعم كتبت الشعر ولسنا في هذا اللقاء في حفل تقييم او تكريم او أي شيء آخر، أو دراسة نقدية تعددت فيها الاجتهادات أو الشهادات. وكتبتُ النقد الأدبي من خلال الندوات التي شاركت فيها، وكتبت مئات المقالات النقدية من خلال ندوة اليوم السابع ١٩٩١ سنة التأسيس إلى زمن ليس ببعيد، أي قبل بضعة سنوات لانها اصبحت تدار إلكترونيا، وانا لا اشارك في ذلك، وكتبت بشكل منتظم في النقد المسرحي عن معظم المسرحيات التي عرضت على مسارح القدس المتعددة منذ عام ١٩٦٩، حتى زمن قريب وخاصة (المسرح الوطني الفلسطيني/ الحكواتي) الذي أصبحتُ فيه عضو مجلس إدارة. وكتبت وهذا مهم دراسة عن الفنان رسام الكاريكاتير ناجي العلي دراسة بعنوان (ناجي العلي فنانا مناضلا) في كتاب صدر عام ١٩٩٢، بالاشتراك مع الكاتب د. إبراهيم العلم، وكنت أول من أصدر كتابا عن ناجي العلي من الكتّاب الفلسطينيين، مع أني كنت قبل ذلك قد أصدرت كتابين يحويان كاريكاتورات لناجي العلي، الأول بعنوان ناجي العلي الناطق باسم الفقراء والقضية في تموز ١٩٨٧، والثاني بعنوان ناجي العلي شهيد الفقراء والقضية في ايلول ١٩٨٧. 

اما عن عملي الصحفي فقد عملت مع كافة المطبوعات في الأراضي المحتلة ومنشورات منطقة ال١٩٤٨. ونشرت من خلال مكتبي (مكتب الحياة للإعلام والنشر) الذي اديره منذ ٤٠ عامًا، العديد من الكتب الأدبية والسياسية والاقتصادية لكتاب معروفين وذوي شأن ومكانة والحديث هنا يطول.

السؤال الثالث: ذاكرتك الثقافية عميقة جدا لدرجة أنك الآن يمكن أن تصف لي تفاصيل مهرجان ثقافي في الثمانينيات هل تعذبك الذاكرة يا نبيل مالذي جنيته منها ؟

الذاكرة القوية والحيوية هي شيء طبيعي في تكوين بنية الإنسان كباقي أجزاء الجسم الهيكلية الميكانيكية والفسيولوجية والسيكولوجية، ولكنها تختلف من شخص لآخر حسب طبيعة اهتمامات هذا الشخص او ذاك، وحسب عمق وعيه واتساعه، وحسب طبيعة ادراكه وتربيته وبيئته وشعوره وحسه وانتمائه مسؤوليته التاريخية اتجاه نفسه، واتجاه الآخرين، واتجاه قضاياه وقضايا شعبه وأمته على مختلف المستويات و الاصعدة وحسب ما سبق تتحدد قوة او ضعف ذاكرته. وأيضا للحفاظ على ذاكرة قوية ينبغي على المرء القراءة الدائمة والمتابعة والاهتمام، والفعل والتفاعل، والمثابرة والمبادرة، فالذي يعمل كثيرا يتذكر كثيرا، والذي لا يعمل لا يوجد عنده شيء يتذكره، والذي لا يقرأ ويتابع التاريخ يبقى جاهلا، فارغا، غافلا، ساذجا، تأخذه رياح الأعداء متعددي الجنسيات إلى حيث شاؤوا. وكما يقال: (الفرق بين الذاكرة والذكريات، هو أن الذاكرة تجعلنا نمتلك الماضي في سياق بناء الحاضر والمستقبل، أما الذكريات فإنها أسر الماضي للحاضر عبر تحويله تكرارا). 

السؤال الرابع: انت والكاتب اسعد الاسعد ساهمتما في تأسيس اتحاد الكتاب بالقدس بالثمانينيات حدثنا عن السياق؟

كانت القدس منذ القدم مقرأ لمختلف المؤسسات التي تنشأ داخلها وخارجها، نظرا لخصوصيتها ورمزيتها ومكانتها، وقد بادرتُ مع صديقي الكاتب أسعد الأسعد من أجل النهوض بالحركة الادبية الثقافية وبعثها واستمرارها وتنظيمها، ونشر المعرفة والحفاظ على الهوية والحرية الفكرية الوطنية. فبادرنا إلى تأسيس تجمع كتاب البيادر (نسبة إلى مجلة البيادر الادبية التي كانت تصدر في ذلك الوقت) ريثما نحصل على ترخيص من سلطات الاحتلال، وكان ذلك في عام ١٩٧٧، واستمرينا في ذلك إلى أن انطوينا تحت مظلة الملتقى الفكري عام ١٩٨٠ باسم (دائرة الكتاب)، وكانت هاتان التجربتان ناجحتين حيث أقمنا في عامي ١٨٨١ و١٨٨٢ مهرجانين أدبيين ضما كُتّاب الضفة والقطاع في الشعر والقصة والنقد الأدبي. وفي العام ١٩٨٤ حصلنا على ترخيص لاتحاد الكتّاب الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة باسم (أسعد الأسعد، نبيل الجولاني، وخليل توما). ولأنها القدس كما ذكرت تم تأسيس نقابة للصحفيين، وقد ترأسها الكاتب أكرم هنية، ورابطة الفنانين التشكيليين ترأسها الفنان التشكيلي سليمان منصور، ورابطة للمسرحيين ترأسها الفنان المسرحي أحمد أبو سلعوم، وبعد ذلك في آذار ١٩٩١ تم إنشاء (ندوة اليوم السابع) التي أسسها الكتّاب جميل السلحوت، إبراهيم جوهر، وائل أبو عرفة، ربحي الشويكي، ديمة السمّان، ونبيل الجولاني، وما زالت قائمة إلى الآن. فهذه هي القدس التي طالما كانت تعج بالثقافة، وهذا غيض من فيض والشرح فيه يطول.

 وفي رأيي: فالقدس من دون مدن العالم لها خصوصيتها وجمالها و طقوسها وصلواتها وعباداتها وهيبتها وسحرها وتضاريسها التي تلخص كل آمال وأماني نخلة الروح لجميع أبناء المعمورة. هم لا يسكنونها لكنها تسكنهم، هم يحبونها جميعهم دفعة واحدة وهي تبادلهم الحب جميعا. القدس خارج كل مألوف ومعروف حيث أن لكل عشيقة عشيقها، إلا القدس فعلى العكس لها عشاق كثر يحبها جميع الناس الذين خلقهم ربهم، وهي تحبهم جميعاً وفاءً وليس خيانة. 

وكما يقول الكاتب والناقد الفلسطيني فيصل دراج: "إذا كانت فلسطين في الوعي البلاغي هي مدينة القدس لا غيرها، فإن القدس في الوعي التاريخي هي فلسطين كلها".

السؤال الخامس: هل تتابع الحياة الثقافية الآن في فلسطين ؟ ما رايك؟ هل انت راض عنها وماذا ثقافة القدس؟ هل يمكن القول إنها ماتت؟

نعم أتابع الحركة الثقافية في فلسطين فليس الموضوع رضاي عنها أو عدمه لأننا في وضع غير صحي وغير مقبول ومحاصر ومطارد من الاحتلال، ونعاني من عقبات عدة وتشويهات، ونعاني من ما يسمى نظام العولمة، والتبعية الفكرية وغيرها، وهناك تراجع في معظم ما يُكتب ليس في وطننا بل في محيط الوطن العربي ككل، نتيجة لما نحن به اليوم من تراجع وهبوط فكري وانهيار في المستوى السياسي والخطابي والإعلامي، فضلا عن التراجع في المواقف والمبادئ والقيم والفعل والأداء. 

ففي الوطن العربي زُجَّ بالكتاب التقدميين في السجون، أو هُجّروا، أما ما تبقى منهم يعيش في حالة تصالح مع السلطة… وأصبح لا رسائل في الأدب، ويتخلله المافيا والجنس، والدليل على ذلك ما يعرض على الشاشات من اعمال بلا لون ولا طعم، وفي أحسن الأحوال عندما يكون استعراض مهرجاني أو تظاهرة ثقافية، أو عرس أدبي، ومن وجهة نظري أن التظاهرة تبدأ في أول الشارع وفي نهايته يذهب كلٌّ إلى غايته، اما العرس فيبدأ مساءً وينتهي في صبيحة اليوم التالي، اي أننا ليس لدينا لا مشروع ادبي ولا سواه. وكذلك لا يوجد لدينا بطل أدبي وعلى كل المستويات المختلفة، والبطل اليوم هو بطل فردي ليس بطلاً جماعياً، لأن الجماعات انحلت أو تشرذمت أو انشقت عن بعضها البعض، وتعيش في عزلة.

 والبطل اليوم بلا بطولة، وبلا عمل، بلا فاعلية وبلا تفاعل، أصبح (بطلا عاطلا عن العمل البطولي إلا فيما يدّعي)، حتى أصبح كتّاب القصة والرواية يتكئون على بطل من الماضي و يستدعونه في رواياتهم لأن البطل اليوم عاجز عن العمل وبلا انتماء أو مسؤولية…

" قسم كبير من المقابلة نشرته الزميلة صحيفة الايام الفلسطينية"