- 27 أيلول 2025
- مقابلة خاصة
بقلم : زياد خدّاش
لم ينم صاحبي الفلسطيني الذي يعيش في المنفى، ولم يجعلني أنام، وهو يحثّني على معرفة موقع المبنى الذي كان في ثلاثينيات القرن الماضي مشفى البرص في حي الطالبية في القدس (أسّسه الطبيب الفلسطيني توفيق كنعان)، وكان جده أحد نزلائه المرضى. ذهبت من أجله إلى القدس، طارقاً كل باب من أبواب أصحابي الأدباء المقدسيين، وموقفاً الرجال الثمانين في الشارع الذين ربما يصدف أنهم يعرفون، بعد أن يئست من محاولات عمنا «غوغل» في تزويدي بشهادات لمثقفين يعرفون موقع المشفى. المعلومة الوحيدة التي عثرت عليها، وتكرّرت ألف مرّة، أن هذا المشفى كان يضم مرضى يهوداً وعرباً. وفي حرب 1948، استولت العصابات الصهيونية عليه، وطردت منه المرضى العرب الذين تاهوا في شوارع القدس، متعبين وغير مصدّقين ما يجري، في مشهدٍ يندى له جبين الصخر، كما يصفه بتأثرٍ فلسطيني تسعيني، كان حارساً للمشفى.
ما زال صاحبي ينتظرني، وما زلت خجلاً منه، لأني فشلت في مساعدته. المحزن أن أسئلتي عن أمكنتنا وذاكرتها لا تلقى حماساً عند أغلب الناس في بلادي. أشعر باستمرار أن أسئلتي تزعجهم، ولا أدري كيف أستطيع أن أقنعهم بأن جبهة الذاكرة أهم وأخطر جبهة لكسر رواية المحتلين عن المكان وتاريخه، وأن الانتصار على الأعداء ليس سهلاً، من دون كاسحة ألغام فكرية ذهنية، تمشّط أرض الذاكرة، وتهيئها لمعركةٍ فاصلةٍ يُشارك فيها الذهن والقلب والروح والرصاصة.
هنا أستذكر فوراً، أحد أهم رواد صنع هذه الجبهة في فلسطين، هو المرحوم الكاتب سلمان ناطور. تلخّص رؤيته، في كتاباته، جوهر فكرة القتال بالذاكرة، الذاكرة التي يخافها المحتلون، بل ويرتعبون منها. لم ييأس الناطور من إقناعنا بأن الذاكرة هي الصخرة التي تتحدّى كل محاولات الصهاينة لمحو المكان والفكرة من عقول الفلسطينيين وقلوبهم. الفلسطيني ابن دالية الكرمل، سخر مراراً من محاولات الاحتلال شق لحم الفلسطيني وكيانه العروبي، فهو ابن الطائفة الدرزية المستَهدفة بالأسرلة. قاتل مشروع سلمان ناطور على جبهتين: مشروع مواجهة الأسرلة، وجبهة ذاكرة الفلسطيني، المستهدفة روحه وأصالته، وتراثه.
يقاتل في القدس، تحديداً، رائدٌ آخر من رواد جبهة الذاكرة، هو المهندس الشاب طارق البكري. هو لا يعمل ضمن مؤسسة، ولا يتلقى دعماً من أحد، هو نفسه مؤسسة، مالاً وتخطيطاً ووقتاً ورؤية، فهو يتنقل بسيارته في القرى الفلسطينية والأحياء المقدسية، حاملاً كاميرته، وفي قلبه مشروعه القتالي المتين، وفي عقله وعيه المتقدم لخطورة جبهة القتال بالذاكرة. يركن سيارته قرب دغلٍ ما في جبال القدس، ويمشي معتمداً على ضوء وعيه وعينيّ ضميره، (غير تائه طبعاً، فهو يعرف كل شبر من القدس، جبالاً وأحياء ومباني). يتحسّس الأشجار العتيقة الضخمة، متفقداً بمساعدتها ذاكرة قصص المقاتلين الذين جلسوا يوماً تحتها في استراحة محاربين، في طريقهم إلى نسف قطارٍ، أو مهاجمة قافلةٍ صهيونية. ويلمس صخرةً، مستنطقاً حكاياتها مع فلاحين، مرّوا قربها، أو جلسوا فوقها في طريق عودتهم إلى قراهم، بعد يوم زراعة طويل حار، أو يزيح الغبار والأتربة والشوك عن قبرٍ قديمٍ لشهيدٍ أردنيٍّ سقط دفاعاً عن فلسطين، ولم يعرف أهله مكان دفنه.
ثم تهبط المؤسسة التي اسمها طارق البكري إلى الأحياء الفلسطينية المحتلة: البقعة والطالبية والقطمون والشيخ جراح والمصرارة، منفذاً مشروعه (ما قبل وما بعد)، حيث يحصل على صورةٍ قديمةٍ لمكانٍ من أحفادٍ منفيين لفلسطيني ولد وعاش فيه، ثم يضع جوارها صورة حديثة للمكان المحتل نفسه، ويرسلها إلى صاحب الصورة المنفي. وأحياناً كثيرةً، يفعل ذلك من دون الحاجة لصور من أحد، هو يبحث عن الصورة القديمة بطريقته ويعرفّها على صورتها الحديثة، في مشهدٍ مؤثرٍ تتطابق فيه الذاكرة مع نفسها، أو تعود إلى بيتها.
عن جريدة الأيام الفلسطينية