- 18 تشرين أول 2025
- مقابلة خاصة
القدس - أخبار البلد - كتب: خالد الاورفالي
تحمل "رنا" ام لثلاثة اطفال من سكان حي الواد بيدها دلوين وحقيبة تسوق مليئة بأواني تابروير فارغة، وتمر عبر بوابة ذات علامات بناء يعود إلى العصر المملوكي كجزء من طريقها اليومي – رحلة لإطعام أسرتها.
تقول "رنا" ٣٤ عاما : “هذا هو المكان الذي نحصل فيه على الطعام بكرامة ،هذا هو المكان الذي يظل فيه كرم المدينة المقدسة دافئًا دائمًا ممزوجا ببركة المدينة ” مشيرة الى تكية خاصكي سلطان في عقبة التكية التي لا تبعد سوى أمتار معدودة عن المسجد الأقصى .
تلك التكية التي انشاتها السلطانة روكسيلانا ( زوجة السلطان العثماني سليمان القانوني، في العام 1552. قبل أكثر من ٥٠٠ عام ، وهي مطبخًا لمساعدة الفقراء، وبقيت التكيّة مستمرّة في تقديمها الخدمات الى الدراويش، والمرابطين، والمسافرين، والفقراء وكل من قصد بابها لمئات السنين، ولم تقتصر على الفقراء والدراويش فقط؛ إذ كان للمقتدرين نصيب من تلك الشوربة ذات المذاق المميّز.
ويقول "رامي عبد الرحمن" (٤٦) عام من البلدة القديمة وهو الذي يحرص على تناول الشوربة التاريخية من هذا المكان :
" التكية تعتبر جزءا لا يتجزأ من نسيج المدينة ومن المشهد العام للبلدة القديمة شهرتها تأتي بعد المسجد الأقصى وكنيسة القيامة وهي جزء من ذكريات الطفولة لاطفال المدينة ، الجميع يعرف عن التكية منذ أن كانوا صغارًا؛ فهي جزء من حيّنا وجزء طفولتنا والان هي جزء من شيخوختنا"
مضيفا ان : " إن هذه التكية هي بالنسبة لنا العمود الذي يمكننا الاعتماد عليه. فهو يساعدنا على العيش والاستمرار في العيش بالقدس "
وكان رامي مثل رنا من أوائل من حضروا يوم الاحد من اجل الشوربة مثل غيرهم الكثيرين من عائلات القدس التي تحرص ان تكون امام باب التكية الكبير الجميل المملوكي العصر قبل الساعة الحادي عشر وهو موعد فتح البوابة والحصول على الطعام ، في بعض الأحيان يكون العدد كبير فينفذ الطعام ولا تحصل عليه ولهذا فهي تحرص على أن تأخذ الطعام من أجل عائلتها التي ترفض أن تستخدم مصطلح فقيرة أو محتاجة في وصف حالتها الاقتصادي.
قبل ان تنهى رنا حديثها تقول إنها منذ أن كانت طفلة صغيرة كانت ترافق أمها لأخذ شوربة التكية اللذيذة التي كانت تحرص كل بيوت القدس تقريبا الحصول عليها ولو مرة واحدة في الأسبوع.
وهذا ما يوافق عليه الدكتور "علي قليبو" أستاذ جامعي و باحث انثروبولوجي له عدة مؤلفات عن القدس حيث يقول:
" يثير الحديث عن “شوربة التكية” الشجون في وجدان كل من سكن القدس. يفوح عبق شوربة التكية كل صباح ليغمر شارع الواد عند تقاطعه مع الدرج المؤدي الى سرايا خاصكي سلطان مختلطا مع رائحة الكعك بسمسم الطازج من الفرن أسفل الشارع.
لشوربة خاصكي سلطان عند المقدسيين “بركة” فأنا أذكر أنني كنت أحملها خصيصا الى جدتي في حي المصرارة القريب من البلدة القديمة ( رحمة الله عليها) فلقد كانت جدتي تستبشر وتتفائل بهذه الشوربة وتضيف إليها السمن والعسل واللوز ، نتناولها جميعا وجبة إفطار لذيذة.
ويضيف " قليبو" : من الصعب شرح معنى البركة والخير فدلالتهما تتجاوز الوظيفة المادية للطعام وتشمل ايضا هذا الفائض غير الملموس للأشياء والأشخاص، ونحن في القدس نؤمن كثيرا بالبركة والخير "
ويرفض الدكتور "علي قليبو" ومعه العديد من العائلات المقدسية اعتبار ان الشوربة التي تقدمها التكية كانت مخصصة ولا تزال لفقراء المدينة شارحا ذلك بقوله :
" إن معظم المقدسيين عملوا وكانوا ملحقين في مختلف الزوايا والخانقات والمدارس والحرم القدسي الشريف فكان لكل عائلة حصصها من الطعام تشمل حتى عدد أرغفة من الخبز وكمية اللحم والثريد خاصة ولهذا فلقد استبشروا خيرا و شعروا بالطمأنينة في هذا الطعام المبارك من المؤسسات الدينية التي كانت جزءا من مستحقاتهم عليها "
ومن بين الواقفين كانت "ام سليم" التي يعاني والدها وابنها من إعاقات وليس لدى أسرتها شخص بالغ واحد يعيل العائلة والتي قالت إن أسرتها تعتمد على التكية ليس فقط لدعم حياتهم – ولكن أيضًا في المناسبات الخاصة.
ويضيف ذات مرة قلت لهم ان هناك حفل تخرج لابني الصغير وتريد ان تعمل له كعكة فقاموا في اليوم التالي بتحضير كعكة لي في لفتة انسانية جعلتني ابكي عندها شعرت أن لدينا عائلة تساعدنا، وليس مؤسسة خيرية تشفق علينا.”
من روعة ما فعله العثمانيون في التكية أنهم كانوا يتبعون نظام الأرقام في لوحة المستفيدين والبالغ عددهم 1120 عائلة بدلا من الأسماء وذلك حفاظا على خصوصية هذه العائلات التي تنتفع من التكية ولضمان التوزيع العادل للجميع .
ولكن بعد ان انتهت الدول العثمانية واختفت معها التكايا والزوايا وجاء الاحتلال البريطاني الذي دمر كل شيء جميل في المدينة، ولكن بقيت تكية السلطانة تعمل ولكن هذه المرة لتقديم المساعدة في الحرب العالمية الأولى
كما يقول الكاتب "عزام أبو السعود" الذي له عدة مؤلفات تتناول القدس وحياة الاجتماعية القدس
" خلال سنوات الحرب العالمية الأولى كان فقراء القدس يذهبون كلّ يوم، يصطفّون في الطابور أمام التكية للحصول على الشوربة لم يكن هناك تفرقة في تقديم الشوربة بين العائلات المسلمة والعائلات المسيحيّة. كان الطابور يمتدّ من باب الناظر( باب المجلس الآن على مدخل الحرم حتّى التكيّة. فلقد عم الجوع تلك الايام وكانت التكيّة طعامًا يبقيهم أحياء، وعائلات كثيرة لم يتعدّ ما يدخل بطونهم من طعام سوى شوربة التكيّة، الّتي كانت توزّع الطعام مجّانًا يوميًّا على كل من دخل الباب.
اما هذه الايام فان هذه الشوربة التي هي عبارة عن قمح (مجروش اي خشن وغير مطحون) مغلي لساعات طويلة في الماء بدون اي اضافات ويخلوا حتى من الملح. فكان بالامكان اضافة اللحم والملح فيصبح حساءا كما يمكن اضافه السمن والعسل واللوز اليه فيصبح افطارا شهيا. هذه الشوربة لا تقدم الا ايام الاحد ولهذا فان من لا زال لديه هذا التقليد المقدسي بالحصول على الشوربة فانه يحرص ان يكون هناك في التكية حيث يعرب" بسام ابو لبدة" المشرف على" تكية خاصكي سلطان" التي تديرها دائرة الأوقاف الإسلامية التابعة الى وزارة الاوقاف الاردنية عن سعادته بالاستمرار بهذا التقليد الذي مر عليه أكثر من ٥٠٠ عام ويضيف:
" انا اكون سعيدا عندما أقدم الطعام لسكان القدس ولضيوف الاقصى واكون اكثر سعادة عندما ارى الابتسامة الممزوجة بنوع من الخجل على وجوه الأطفال وهم يحصلون على الطعام، “نحن المقدسيون نحب أن نكون خيرين ومرحبين بكل المحتاجين" مؤكد ان هناك الكثير من المتبرعين وأصحاب الخير الذي يقدموا التبرعات السخية من اجل ان تبقى التكية مفتوحة وتقدم الطعام لكل محتاج ناهيك عن الشوربة المميزة .
ويضيف "أبو لبدة" الذي لا تفارق الابتسامة وجه منذ دخولها التكية في ساعات الفجر الاولي ،حتى مغادرتها في ساعات العصر المتأخرة بعد أن قدم طبق الشوربة المشهورة ل " أخبار البلد" إلى جانبه وعاء السكر من أجل إضافته للشوربة ليصبح طعمها حلو :
نحن نقدم الطعام هذه الايام لاكثر من ٢٠٠ عائلة مقدسية مسجله عندنا وهذا الرقم زاد في السنوات الماضية بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تعيشها القدس والتي أجبرت الكثيرين من اهل المدينة الى الوصول الينا من اجل الحصول على حاجتهم اليومية من الطعام ، والحمد لله لنا كميات كبيرة من المواد لإطعام الجميع . اما بالنسبة للشوربة فان العدد يزيد لان هناك أشخاص يأتون خصيصا للشوربة في يومها المحدد فقط استمرار لتراث عائلي واحياء لذكرى اجدادهم وابائهم في تناول هذه الشوربة التي يقولون ان فيها بركة ونحن على ثقة أن فيها بركة ."
واختتم "أبو لبدة" حديثه بعد أن فرغ من تناول طبق الشوربة التي تحافظ على نكهتها خاصة فهي نفس المكونات التي كانت قبل ٥٠٠ عام ولم تتغير:
" ان قلب القدس مفتوح للجميع وكذلك مطبخ التكية مفترج للجميع "