• 4 كانون أول 2025
  • مقابلة خاصة

 عمان - أخبار البلد -  القى  الاستاذ الدكتور  زيدان كفافي وهو أستاذ شرف  في  جامعة اليرموك ويعتبر من أهم علماء الآثار ليس في الاردن فحسب بل في المنطقة برمتها  محاضرة قيمة في  المؤتمر الدولي للآثاريين العرب .

 ويسعدنا في "أخبار البلد" المقدسية ان ننشر ورقة العمل كاملة كما قدمت من قبل الأستاذ الدكتور زيدان كفافي  في المؤتمر الذي عقد نهاية شهر نوفمبر تشرين ثاني الماضي 

مقدمة:

منذ  أن تحول الطين إلى إنسان وهو يفكر في كيفية خلقه ومآله بعد مماته، ولاستمرارية حياته لا بد له من مأكل ومشرب.  فعندما خُلِق، وجد نفسه في محيط بيئي فيه البر والبحر والنبات والحيوان وبهذا وفرت له الطبيعة الماء فشرب، والمأكل فأكل. التفت حوله فوجد نباتات وحيوانات ،  لكن ماذا أكل أولاً ثمار الأشجار؟ أم لحم الحيوانات؟ . ونعتقد أن أكل ثمار الشجر لا يكلف الإنسان نفس الجهد الذي يكلفه صيد حيوان سواء أكان كبيراً أم صغيراً.  وربما كان طعم التفاح ألذُّ إليه من أكل اللحوم.  وشاهد وراقب الإنسان تبدل الظواهر الطبيعية بين ليلٍ ونهار، والانتقال من ضوء في النهار إلى ظلام في الليل؟ 

وتساءل عند موت فرد من أفراد المجموعة، لماذا  توقف هذا الشخص عن الكلام والحركه والتنفس ؟ وكيف فسر ظاهرة الموت؟ وهل الموت هو الأبدية؟ وماذا يحصل له بعد مماته؟  

لكن أشد ما حير الإنسان في بداية الحياة الدنيوية  هو  التزاوج والتناسل وديمومة البشرية. من خلال الملاحظة  والمراقبة وجد أن  قدوم الإنسان على وجه الأرض يمر بخطوات عدة، التزاوج بين الرجل والمرأة  أولاً، ثم حمل الأنثى، ينتهي الأمر بخروج المولود من رحم المرأة إلى عالم الدنيا.  إذن المرأة هي أساس استمراريته، وأن الأرض هي التي توفر له المأكل ، فربط بين  الأرض والأنثى ونسب إليهما نفس الوظيفة وهي التكاثر والخصوبة، وهما أصل الحياة. 

بدأ الإنسان التفكر في هذا الأمر فكيف عبر عنه ؟ وجد في مظاهر الطبيعة (السماء والأرض والشمس والقمر) والبيئة المحيطة (الجبال والسهول والأنهار والحيوانات والنباتات) به ضالته، فتفاعل معهما، وعبر عن هذا التفاعل في مخلفات تركها لنا كثير منها مدفون في باطن الأرض. والأهم من هذا التفاعل هو السلوكات الإنسانية والأدوات التي استخدمها، وكانت متعددة ومختلفة، لكنها كانت تعكس أفكاره فكانت الاختراعات والانجازات المتجددة حسب طبيعة الحياة التي عاشها. ورأينا أن التقدم الذهني لنا البشر يتمثل ليس فقط باللآثار الملموسة، والمحسوسة لكن أيضاً بالنقوش والكتابات التي عرفها، ودون فيها هذا التفكير. وبرأينا، ورأى غيرنا ، أن البشر مرت بمرحلتين حضارتين، هما:

1. قبل معرفة الكتابة: وللتعرف على طبيعة حياة الناس خلال هذه الفترة ، الني تعدُّ أطول مرحلة عاشتها المجتمعات البشرية، يعتمد الباحث في دراسته وتفسيره لهذه الدهور على مدى قدرته وخبرته ومعرفته في وظائف المخلفات الأثرية، ومقارنته لها مع ما نشر حول ما يماثلها من نفس الفترة الزمنية. ومن هنا لجأ بعض الباحثون إلى الدراسات الأنثروبولوجية ، اقتداء بما بدأته العالمة "مارغريت ميد" ، وهي إجراء مطابقة بين حياة المجتمعات البشرية البسيطة والتي تعيش حالياً ، واسقاطها على ما جرى في عصور ما قبل الكتابة.  وتحتمل التفسيرات في هذه الحالة ، برأينا، الصح والخطأ.

2. بعد معرفة الكتابة: كان سكان جنوبي وادي الرافدين، ووادي النيل ، هم أول من عرفوا الكتابة، فتركوا لنا معلومات مدونة تتحدث حول طبيعة حياتهم السيسة، والاجتماعية، والاقتصادية، والفكرية.

ويمكننا القول أن طريقة الحصول والوصول إلى الآثار تتمثل في أن بعضها ظاهر للعيان، مثل المباني والعمائر ، خاصة في العصور الكلاسيكية والاسلامية، والبعض الآخر غير ظاهر ومدفون في باطن الأرض. وللوصول إلى هذه الآثار غير الظاهرة وجد الآثاريون أنه لا سبيل للوصول إليها غير النبش والحفر في باطن الأرض، فكانت الحفريات الأثرية. علما أنه ومع تقدم العلم ، أصبح بالامكان التعرف على وجود آثار في باطن الأرض باستخدام معدات وأجهزة حديثة، مثل “Penetrating Radar”.

وبالمجمل، يمكننا الافتراض بأن عملية التنقيب عن الآثار تبقى عملية غير مأمونة أو مضمونة النتائج  لأنها تعتمد أولاً وآخراً على الطريقة أو المنهج الذي يتبعه المنقب في عملية التنقيب، وفي تفسيره للآثار المكتشفة.

أهداف الحفريات الأثرية:

من أهم أهداف الحفريات الأثرية هو الكشف عن مخلفات أثرية تركها أهلها لتخبرنا عن تاريخهم وطبيعة حياتهم وأفعالهم اليومية.  لهذا فإن من واجب الآثاري الكشف عما هو في باطن الأرض من عمارة وقطع أثرية، ووضع تفسيرات لهذه المواد المكتشفة بعد استنطاقها بطريقة حيادية. قال الآثاري "ليونارد ولي" أحد رواد الحفريات الأثرية في بلاد الرافدين، ما يلي:

"The aim of the field archaeologists is to discover and illustrate the course of human history; that really means that his task is a complicated one, and the unfortunate man is, in fact, serving two master’s whose interests, though consistent, are not identical “(Woolley 1937, 31).

الحفريات الأثرية هي الوسائل الأساسية التي يتبعها الآثاريون للحصول على بقايا بشرية تعرّفهم بالماضي. ويستخدم الآثاريون في الوقت الحالي وسائل علمية حديثة مثل: remote sensing devices, magnetometer, and penetrating radar للتعرف على الآثار التي لا تزال مدفونة في باطن الأرض، لكن تبقى الحفريات والمسوحات الأثرية هي الأساس في التعرف على الآثار الظاهرة وغير الظاهرة.

إضافة لما ذكرناه سابقاً، فإن الحفريات الأثرية تساعدنا على بناء البيئة في العصور القديمة ومدى تفاعل الإنسان معها ومقدرته في السيطرة عليها. ويتطلب هذا الأمر، أي السيطرة على البيئة، المهارة والقدرة الفكرية، وصناعة واستخدام الأدوات المناسبة لتحقيق هذا الأمر. إذن الحصول على الأدوات والقطع الأثرية القديمة والتفكير في طريقة صناعتها والحصول على المادة الخامة لتصنيعها هي التي تساعدنا في معرفة الإبداع والإختراع والسلوكيات الإنسانية التي اتبعها الناس في تلك الفترة لتحقيق غاياتهم.

من التنقيب في الأرض إلى التنقيب في الخيال:

حيث أن هذا الموضوع هو الهدف الرئيسي لهذه المحاضرة ، فإننا نقدم أدناه أمثلة من المعثورات الأثرية  تخدم هذا العنوان ، وسوف نتبع في تقديمنا هذا تقسيمها إلى قسمين، هما:

 مرت المحتمعات البشرية بمرحلة طويلة حتى استقرت في مكان واحد وأصبحت قادرة على انتاج وجبتها اليومية، وتسمى هذه الفترة العصور الحجرية القديمة استقرت بعدها في أماكن ثابتة وانتجت طعامها. وأكثر ما ترك لنا الإنسان من هذه الفترة هو أدواته الحجرية، وفنونه من نحت ورسم.                                                               أ                             

بعد أن استقر الناس قبل أكثر من عشرة آلاف سنة وأصبح منتجاً لقوته، تطلبت طبيعة حياته القيام بأعمال مشتركة كثيرة بين الذكر والأنثى، مثل، تأمين مكان للإيواء، وتوفير وجبة غذائية،  أغلبها أعمالاً ذكورية فأخذت قيمة الذكور الاجتماعية في الارتفاع ، وينظر له على أنه  على نفس سوية الأنثى. من هنا، بدأت  الدمى الذكورية  تظهر إلى جانب الأنثوية. لكن هل حمل الذكر صفة ربوبية، كما كان حال الأنثى في المراحل السابقة ، لا نستبعد ذلك. وأفضل الأمثلة على هذا الأمر جاءت من موقع "غوبكلي تبه" بتركيا، حيث عثر على منحوتات ذكرية وأنثوية نحتت على حجارة كبيرة.

لفت انتباه المنقبون و المرممون لتماثيل المجموعة الثانية من تماثيل عين غزال ، وهي متأخرة بتاريخها عن تماثيل المجموعة الأولى بحوالي 250 سنة، أن لبعضها رأسين  مما أدى إلى حيرة كبيرة لديهم . ولتفسير وجود تمثال واحد برأسين، نود الإشارة إلى أن الزرّاع يعتمدون في إنتاج محاصيلهم على الأرض الخصبة، وهطول الأمطار. لذا وصفوا المرأة بأنها الأرض، وأما السماء الممطرة فهي الرجل، وجمعهما معاً في تمثال واحد، وبهذا أصبحا على سوية واحدة من حيث القداسة والأهمية. 

يبدو أن طبيعة حياة المجتمعات الزراعية  قد أثرت بشكل كبير على معتقداتها، فأصبح للحيوان دور أكبر من السابق، هذا إضافة لقيمته الغذائية، فقد أصبح بعد تدجينه مساعداً في الأعمال الزراعية.  ويظهر أنه أصبح للثيران  قداسة إلى جانب البشر (الذكر والأنثى).  ونضرب هنا مثالاً على هذا الأمر من موقع عين غزال في الأردن حيث عثر على عدد كبير من دمى الثيران  عمرها أكثر من تسعة آلاف عام، غرس في أجساد بعضها نصلات صوانية  بشكل مقصود مما يدل على عقائدية رمزية أيضاً.  ويمكننا إضافة أن هذا التمثيل الديني لم يكن مدفوعاً من خوف  بل ناتج عن تفكير واقتناع ، وأن هذا التقديس يخلق لدى الإنسان شروط نفسه ليصبح قادراً على  السيطرة على هذا الحيوان القوي.  

ثيران مغروس بأجسادها نصلات صوانية من موقع عين غزال (حوالي 7200 – 6500 قبل الميلاد)

تحولت العقيدة الدينية من  التقرب للإله بواسطة بناء رمز له (التمثال)، إلى ضرورة  ممارسة طقوس عقدية/دينية جمعية (مجموعة من الأشخاص) في بناء خصص لهذا الغرض، فكان المعبد.   

تطورت الأفكار العقائدية خلال الألف الخامس قبل الميلاد، إذ أخذ الناس ينفذون ما يجول بأذهانهم من عقائد على جدران المعابد كما هو الحال في موقع تليلات الغسول بالأردن.

تنفيذ العقائد الدينية بالرسم (من موقع تليلات الغسول في الأردن)

ولننتقل الآن لمنطقة الخليج العربي، ونضرب مثالاً على كيف تزودنا الحفريات الأثرية بمعلومات هامة حول الملاحة البحرية في الخليج العربي قبل حوالي سبعة آلاف عام. إذ عثر على رسم على كسرة فخارية ومجسم فخاري لقارب في موقع الصبية في الكويت يدل دلالة واضحة على معرفة أهل البلاد بصناعة القوارب، واستخدامه في الملاحة البحرية من نقل أناس وبضائع، وذو فائدة عظيمة في التواصل بين المناطق القريبة والبعيدة في الخليج.

مثال آخر على فائدة الحفريات الأثرية في معرفة العلاقات التجارية بين المناطق القريبة والبعيدة، وهو أنه استطاع الناس بجنوبي بلاد الشام (منطقة وادي عربة) معرفة تعدين معدن النحاس وتصنيع أدوات منه. إذ عثر على نفس أشكال القوالب التي استخدمت لهذه الغاية في كل من موقع حجيرات الغزلان بجنوبي الأردن والمعادي بمصر.

2. الآثار في العصور التاريخية:

عرفت المجتمعات البشرية الكتابة في جنوبي بلاد الرافدين ووادي النيل خلال النصف الثاني من الألف الرابع قبل الميلاد، ومن خلال فك رموز الكتابة الهيروغليفية بمصر والمسمارية في وادي الرافدين أصبح بمقدورنا معرفة طبيعية الحياة فيها، وفي المناطق التي انتشرت فيها هذه الكتابات. ليس هذا فقط، بل أيضاً أسماء الآلهة والملوك والأعلام والأماكن.

نتيجة لمعرفة الكتابة وصلت إلينا مجموعة من النصوص المكتوبة التي تعرفنا بمعرفة الناس الفكرية، وقدرتهم على التعبير بأذهانهم وأفكاهم عن طريق الكتابة. فمثلاً أصبحنا نعرف أنه كانت هناك قوانين تحكم طبيعة العلاقة بين الناس، وأفضلها قانون حمورابي المكتوب بالخط المسماري.

وحيث أننا نتحدث حول اكتشاف الكتابة في نهاية الألف الرابع قبل الميلاد، فإنه يحضرني الآن ما كشفت عنه الحفريات الأثرية من طرق دفن في الإمارات العربية المتحدة، ومنها مدافن جبل حفيت التي تؤرخ للفترة بين حوالي 3200- 2500 قبل الميلاد، وتشبه هذه المدافن في شكلها خلايا النحل، وتزامنت مع تقدم التعدين وصناعة النحاس في المنطقة.

إن معرفة الناس للكتابة ساعدتهم بالتعبير عما يجول بخواطرهم من حيث كتابة قصص أدبية، مثل/ ملحمة غلغامش السومرية، وايزيس وأوزيريس لمصرية القديمة.

الحفريات الأثرية وسيلة لتحقيق أهداف خيالية توراتية:

كما نعلم فإن ضعف الامبراطورية العثمانية مع نهاية القرن التاسع عشر، وخسارتها للحرب العالمية الأولى، أعطت الفرصة للقوى الأوروبية لتحقيق أهدافها في السيطرة على الأرض المقدسة، خاصة تلك التي لها علاقة بالقصة التوراتية (خروج ابراهيم من أور في العراق، وقدومه وآله إلى المنطقة، وخروج بني اسرائيل من مصر). علماً أن هذه السردية التوراتية بقصصها وشخوصها لم يتم التعرف عليها حتى الحاضر خارج الكتب الدينية.

تم تأسيس مؤسسات أثرية أوروبية وأمريكية مع نهاية القرن التاسع عشر هدفها إثبات صحة ما جاء في التوراة، فتحولت الحفريات من الكشف عن آثار تساعدنا في فهم تاريخ البشرية والتعرف على السلوكات الإنسانية خلالها، إلى مشاريع لها أهداف وغايات خاصة. ولهذا السبب جاء المنقبون إلى بلاد المشرق العربي يحملون التوراة بيد والمعول بيد أخرى. وتشكلت مدرسة رأسها الأمريكي وليم فوكسويل أولبرايت (William Foxwell Albright) وهي مدرسة توراتية بدأ تابعيها بالتنقيب في مواقع أثرية في فلسطين ذُكرت في القصص التوراتية، ومنها تل المتسلم "مجدو"، وتل السلطان "أريحا" وفي "تل بيت ميرسم". ونقب الضابط الآنجليزي "جون غارستنغ" في تل السلطان بحثاً عن الجدار الذي تهدم بفعل نفخ أبواق "يشوع" وأهله من الاسرائيليين، فوجد جداراً نسبه على الفور لذلك المذكور في التوراة. ومن سوء طالعه أن المنقبة الانجليزية "كاثلين كنيون" التي نقبت في نفس الموقع ذكر أن عمر هذا الجدار أقدم بحوالي ألفي عام من التاريخ الذي قرره "جون غارستنغ". 

وعلى هذا النحو قس، حيث قام المنقبون التوراتيون أيضاً بتدمير الآثار التي لا تخدم مصالحهم، كما حدث في حفرية "تل بيسان" في فلسطين حيث تم تجريف الآثار الإسلامية. كما يتم في الوقت الحاضر تجريف الآثار الاسلامية في أسفل ومحيط الحرم الشريف في القدس. 

بشكل عام فإن الحفريات الأثرية التي جرت ويجري بعضها حتى الآن في المشرق العربي خدمت  الأساطير والخرافات الغربية. ونذكر بهذه المناسبة ما قاله الآثاري الألماني راينهارد بيرنبك Reinhard Bernbeck  (2005, 97-121) أن هناك من يحاول تقديم دراسات حول الماضي  باستخدام مصادر قصصية وخرافية، وأن بعض الآثاريين والمؤرخيين يخلقون تاريخياً مزيفاً باستخدامها أساساً لمعلوماتهم. ويضيف بأن هذه الخرافات أصبحت في كثير من الحالات "قصصاً شعبية".  

وعلى الرغم من جميع محاولات التوراتيين وحتى الآن لا زلنا ننتظر إجابة الحفريات الأثرية حول مجموعة من الأحداث المذكورة في التوراة، ومنها: هل هناك اثباتات أثرية على خروج بني اسرائيل من مصر؟ وهل دخل بني اسرائيل إلى فلسطين عنوة؟ وهل صحيح أن داود وسليمان ملكوا بالفعل على امبراطورية؟ من المعروف أن عدداً من الآثاريين أعلنوا ومن بينهم صهاينة اسرائيليين أعلنوا أنه لم يعثر حتى الآن على آثار أو نصوص تاريخية تثبت حدوث الخروج من مصر ودخولهم إلى فلسطين.

بين الحفريات الأثرية في فلسطين والنصوص التوراتية:

تعرضت فلسطين لعدد كبير من المسوحات والحفريات الأثرية ابتداءً من النصف الثاني من القرن التاسع عشر وحتى الوقت الحاضر على يد عدد من الباحثين الغربيين، وخاصة التوراتيين منهم، بهدف الربط بين الحدث التوراتي والمكان الفلسطيني؛ فجاؤوا إلى فلسطين يحملون المعول بيد والتوراة بيد أخرى. بدأ المنهج التوراتي التقليدي مع إنشاء المدارس والجمعيات الأثرية الغربية بهدف تنظيم العمل الأثري في فلسطين بالذات ابتداء من عام 1860م وما بعدها. ويقوم هذا المنهج على تفسير الآثار المكتشفة من خلال القصص المذكورة في التوراة، لذا كان لا بد من التنقيب الأثري في مواقع ذُكرت في النصوص التوراتية، مثل: القدس، وأريحا، وتل الُمتَسِّلم (مَجِدّوْ)، وتل وَقَّاص (حازور)، وتل الدُّوير (لاخيش)، والتل (عَي)، وتل بيت مِرْسِم. وبحث المنقبون في هذه المواقع، وبشكل خاص عن الطبقات المؤرخة للمرحلة الانتقالية بين نهاية العصور البرونزية وبداية الحديدية (حوالي 1300 – 1100 قبل الميلاد)، التي يعتقدون أنها دُمرت من قبل الإسرائيليين أثناء احتلالهم لها من أهلها الكنعانيين. وتزعَّم هذه المدرسة الأميركي وليم فوكسويل أولبرايتومن بعده تلاميذه . ومن المعلوم أن أولبرايت في دراسته وتأريخه لمكتشفات حفرياته في موقع تل بيت مرسم الواقع في محافظة الخليل، اعتمد على الاختلاف في أشكال الأواني الفخارية وتطور صناعتها، وربطها مع الطبقات التي وجدت بها (Albright 1938)، وشاع استخدام منهجه هذا بين التوراتيين الأميركيين وبعض الأوروبيين. 

أصبحت كامل فلسطين تحت الاحتلال الإسرائيلي بعد عام 1967م، مما سمح للباحثين الإسرائيليين وغيرهم من التوراتيين في كل العالم للقدوم إلى فلسطين والبحث فيها عن الآثار اليهودية. كما تم التركيز على عدد من المواقع، من أهمها القدس. 

واجه نهج المدرسة التوراتية انتقادات عدة من بعض الباحثين الأجانب، مثل، كاثلين كنيون(Kenyon 1967: 273)، وهنك فرانكن (Franken 1970: 8) ورونالد دي فو (de Vaux 1970: 66) ؛ والعرب، مثل عدنان الحديدي (1977-1978: 6-11) ومعاوية إبراهيم (2009: 18- 33) وزيدان كفافي(2004: 27-35).  كما لاحظ بعض التوراتيون أن هذا المنهج البحثي قد فشل في تحقيق الأهداف التي قام من أجلها، وبناء عليه كان لا بد من إيجاد منهج جديد مقنع علميًا يحقق أهداف الصهيونية العالمية. وفي نظرنا أن إسرائيل فنكلشتاين هو من بدأ الخطوة الأولى في هذا الاتجاه، فأجرى بعد حرب عام 1967م مسوحات أثرية في منطقة الضفة الغربية محاولًا العثور على أماكن الاستيطان اليهودية لعلمه أن منهج وليم أولبرايت لم يعد يفيد في إثبا صحة الروايات التوراتية (Finkelstein 1988). 

تشكلت في كوبنهاغن/ الدنمارك مدرسة أسسها مجموعة من العلماء التوراتيين وعلى رأسهم توماس طومبسون (Thomas Thompson) وفيليب ديفيس (Philip Davis)أطلقوا على أنفسهم اسم: Revisionists or Minimalists إضافة لبعض العلماء الإسرائيليين، ومن بينهم إسرائيل فنكلشتاين. وقد نادت هذه المدرسة بعدم الاعتماد الكلي على النصوص التوراتية في تفسير الآثار.

حفريات جامعة سان دييغو في وادي فينان بجنوبي الأردن:

نقب فريق من جامعة سان دييغو الأمريكية، وهم على درجة عالية من المقدرة والكفاءة العلمية، ويمتلكون معدات ووسائل علمية متقدمة عن منطقة وادي فينان بحثًا عن بقايا أثرية ودراسة لمناجم النحاس القديمة فيها. ونشر هذا الفريق نتائج أبحاثه في عدد من المجلات العلمية العالمية المعروفة، لكن ما أشار إلى فضح نواياهم هو تقرير نشر على u-Tube يقول فيه المشرفون على المشروع بأن مناجم النحاس هذه تخص الملك سليمان. وهذا حلم لم يتحقق لهم، إذ أنه وبرأينا أن الآثار المكتشفة هي "أدومية" ولا تخص بأي حال من الأحوال ملوك اسرائيل داود وسليمان كما قالوا.

الحفريات الاسرائيلية في موقع تل القاضي (دان):

باشرت بعثة أثرية إسرائيلية أعمال التنقيب في موقع "تل القاضي/ تل دان" ابتداء من عام 1966م، بإشراف أفراهام بيران، ومن أهم ما كشفت عنه البعثة الإسرائيلية بقيادة أفراهام بيران (Biran 1994) في هذا الموقع ثلاث كسر، تمثل أجزاء من مسلة مصنوعة من الحجر البازلتي وجدت مكسّرة ومتفرقة في أماكن متباعدة في الموقع، الكبيرة منها وجدت خلال أعمال التنقيب في موسم حفريات عام 1993م في بناء  الوجه الخارجي لأحد جدران المدينة بالقرب من البوابة الجنوبية، المؤرخ لمنتصف القرن التاسع قبل الميلاد، وعلى كسرتين صغيرتين عام 1994(Biran and Naveh 1993; 1995).  ويشكك بعض الباحثين فيما إذا كانت هذه الكسر الثلاث تخص مسلة حجرية واحدة،  ويعتقدون أنها في الأصل تخص نقشين (Lemche 1998: 39). والنص على الكسر الثلاث منقوش بالخط الآرامي، ويجادل بعض المنقب أفراهام بيران أن المسلة تنسب لأحد ملوك  مملكة دمشق الآرامية الذي حارب تحالف إسرائيل وبيت داود (يهوذا) خلال القرن التاسع قبل الميلاد وانتصر عليهما. ويشكك بعض الباحثين في تاريخ النقش وأصالته، بل هناك من يؤكد على أنه مزوّر (Lemche 1998: 41. 181).

ولا نود هنا أن نحشر أنفسنا بفلسطين فقط، بل نود أن نضرب مثالاً على موضوعنا "التنقيب في الأرض والتنقيب في الخيال" من شمال غربي المملكة العربية السعودية، وعلى انحو أدناه:

تحول الآثار إلى قصص شعبيه:

نسمع كثيراً من الناس يتحدثون عن الكنوز القديمة، خاصة الذهب. ومر علينا في الأردن أكثر من قصة ، منها تلك المتعلقة بوجود كنز ذهبي مدفون في منطقة عجلون. كما يربط الناس بين هذه الكنوز وأنها مرصودة بجان أو أفعى أو دجاجة أو غيرها. وهذه كلها قصص شعبية لا أصل لها سوى الباحثين عن الكنوز والذين يدمرون تاريخهم بأيديهم. ومن هنا، فإننا نطالب بضرورة اتخاذ ما يلزم بتوعية الناس بهذا الأمر وإحاطتهم علماً بأن حفرياتهم غير الشرعية تؤدي إلى تدمير حلقات من تاريخهم. 

البحث عن آثار موسى بشمال غربي الجزيرة العربية:

نشر الهاوي الصهيوني رون واط  (Ron Wyatt) مقالاً في صيف عام 2023م في مجلة عنوانها  (Bible and Spade)  عنوانه:

“A Christian Apologetics Ministry Dedicated to Demonstrating the Historical Reliability of the Bible through Archaeological and Biblical Research”

حاول أن يثبت فيه أن بني اسرائيل وعند خروجهم من مصر حطوا الرحال في منطقة شمال غربي المملكة العربية السعودية، دون وجود أي اثباتات حقيقية تثبت هذا الادعاء. دخل "رون واط" بطريقة غير شرعية عام 1984م إلى المنطقة الشمالية الغربية من الجزيرة العربية حاملاً التوراة بيد والمعول باليد الأخرى، محاولاً أن يثبت  على أرض الواقع  وجود أماكن حط فيها بني اسرائيل عند خروجهم من مصر، متوجهين إلى أرض كنعان. ومن المحزن أن عدداً من الرهبان الإفنجيليين واليهود قد اتبعوا وآمنوا بادعاءآت هذا الشخص.  

الإدعاء بأن انقسام الصخرة إلى قسمين من فعل النبي موسى دون اثباتات حقيقية 

ويذكرنا هذا المنهج، بالمنهج نفسه الذي اتبعته المدرسة التوراتية الانجيلية عند انشائها في نهاية القرن التاسع عشر(1865م) لاثبات صحة النصوص التوراتية فجاؤوا إلى فلسطين يحملون التوراة بيد والمعول باليد الأخرى (The Bile and Spade).  ومن المعلوم أن الصهيوني  "رون واط" نشط t منذ عام 1979م  بالبحث في الأنفاق الممتدة أسفل بناء المسجد الأقصى، وكذب وادّعى بعثوره على آثار اسرائيلية تعود لبداية تأسيس الدولة الاسرائيلية الموحدة. وهذا افتراء شكك كثير من الباحثين فيه. 

وبعد فشله وفشل المدرسة التوراتية في اثبات صحة المعلومات التوراتية، يتم في الوقت الحاضر نقل "قصة خروج بني اسرائيل" ، خاصة الطريق التي سلكها هؤلاء من مدينة "رمسيس/ تل الضبعة" في مصر  إلى بلاد كنعان.  فعوضاً على أن الجمع الاسرائيلي الخارج من مصر دخل إلى سيناء ومن ثم إلى جنوبي بلاد الشام، وبعدها عبروا نهر الأردن إلى أريحا في فلسطين (كما كان يقول التوراتيون)، ينحرف خط السير الآن ليذهبوا إلى "مدين" ، حيث النبي شعيب والد زوجة النبي موسى بشمال غربي الجزيرة العربية.  وهنا تكمن الخطورة الآن للأسباب الآتية:

1. توسيع الرقعة الجغرافية التوراتية لتشمل "مدين"، أي شمال غربي السعودية وجنوبي الأردن، وجنوبي فلسطين.

2. الادعاء بالحق التاريخي  لليهود في هذه المنطقة.

3. لإثبات هذا الحق في هذه المنطقة  لا بد من اجراء دراسات أثرية ميدانية فيها  (كما كان الحال في فلسطين).

4. الادعاء بأن شبه جزيرة سيناء كانت تابعة لمصر ، وهذا يعني أن الخروج كان من مصر إلى شبه الجزيرة العربية.

ومن المعلوم أن عدداً من الآثاريين السعوديين بمشاركة بعثات أثرية أوروبية قامت وتقوم بعدد من الحفريات الأثرية، مثل/ حفريات في مواقع ، مدائن صالح "الحجر" و "البدع" و "تيماء" و "قُريّه"،والعُلا،  ونشروا نتائج حفرياتهم في عدد المجلات العلمية العالمية المتخصصة، ولم يشيروا إلى ما ذهب له هذا الصهيوني. كما أن نتائج جميع هذه الدراسات التي تمت وتتم بمنهج علمي صحيح لم تلقَ أي اهتمام من قبل الباحثين التوراتيين الذين يصرون على توراتية المنطقة.

ا. بين جبل سيناء وجبل اللوز: 

يرى كاتب هذه المقالة أن  تحديد موقع "جبل سيناء" المذكور في التوراة في بلاد "مدين"، ومقابلته  ب "جبل اللوز" غير صحيحة، وغير مقبولة وذلك للأسباب الآتية:

1. صعوبة تحديد حدود مصر الشرقية في ذلك الوقت، وتسائل فيما إذا كانت  شبه جزيرة سيناء تتبع لمصر أم لا، كما يفترض (واط).

2. يرى الكاتب بأن "جبل سيناء" يقع خارج  "مدين" ، على الرغم من أن بعضاً من العلماء التوراتيين من أمثال Cross/ جامعة هارفرد، يوافقون رأي Ron Wyatt.

ب. عدم اتفاق الباحثين ، خاصة اللاهوتيين،  حول  تحديد موقع "جبل سيناء"، واعتباره من قبل بعضهم أنه خارج  شبه جزيرة سيناء. 

ت. مناقشة الشواهد الأثرية والجغرافية :

فنّد  كاتب هذه المقالة محاولة مطابقة الواقع الجغرافي لسيناء وشمال غربي الجزيرة العربية مع ما ورد من وصف توراتي لهاتين المنطقتين. أي وصف الطريق الذي سلكه الاسرائيليون في خروجهم، والمنطقة البحرية التي تراجعت فيها المياه  ليتمكنوا من العبور.

1. بالنسة للشواهد الأثرية: نرى  أن الوصف للمكتشفات الأثرية التي سجلها أصحاب نظرية أن جبل اللوز هو جبل سيناء، اعتمد على النص التوراتي وليس على الواقع الأثري الحقيقي الذي يعتمد على نتائج الدراسات الأثرية الميدانية.

ا. لم يأخذ  أنصار الادعاء بأن جبل اللوز هو جبل سيناء بنتائج الدراسات الميدانية الأثرية  التي أجراها ونشر نتائجها الباحثون السعوديون، وحتى شركائهم.

ب. زوّر المناصرون لادعاء Ron Wyatt تاريخ الآثار المتواجدة في المنطقة، مثل، رسومات الأبقار الصخرية العائدة للعصر الحجري الحديث واعتبارها معاصرة لفترة الخروج، وكذلك بخصوص الكهوف والقبور النبطية واعتبارها مدينية.

ت. تذكر النصوص التوراتية أن موسى بنى مذبحاً، وليس بني اسرائيل، وما هو موجود في منطقة شمال غربي السعودية هو بناء ضخم لا يستطيع شخص منفرد بناءه.

ث. يرى المناصرون لنظرية "رون واط"  بأن "جبل سيناء" ليس في شبه جزيرة سيناء يعود لغياب الشواهد الأثرية فيها. لكنهم يغضون الطرف على أن طبيعة الاسرائيليين الخارجين من مصر كانت بدوية، لذا لم يتركوا خلفهم أية آثار.

2. بالنسبة للشواهد الجغرافية: 

ينسحب تحت هذا العنوان البحث عن تحديد  المكان الذي تراجعت فيه مياه البحر الأحمر  ليتمكن الاسرائيليين عبورها في طريقهم لبلاد كنعان، وطبيعة هذه المنطقة وجغرافيتها وتضاريسها.  لكننا نتسائل، لماذا أصبح تحديد هذا المكان هاماً  للتوراتيين في الوقت الحاضر؟ فقد بحثوا سابقاً عن المكان الذي عبروا فيه نهر الأردن إلى كنعان، ولم يعثروا عليه حتى الحاضر. على أي حال، هناك اقتراح بتحديد خمس مناطق  لتراجع مياه البحر (بحر سوف)، وهي على النحو الآتي:

ا. مياه بحيرة البردويل.

ب. منطقة البحيرة المرة وبحيرة التمساح وبحيرة البلح "امتداد بحيرة المنزلة".

ت. المنطقة الوسطى بين رأس خليج السويس والبحر المتوسط "أي منطقة البحيرات المرة".

ث. منطقة رأس خليج السويس.

ج. منطقة نويبع/ خليج العقبة، ومضائق تيران.

ما هي المشاكل في أن يكون خليج العقبة هو مكان العبور؟

تواجه أصحاب مقترح أن يكن خليج العقبة هو مكان العبور عدداً من المشاكل، هي:

1. يعتمد تحديد جميع هذه المناطق إذا تم التوافق على تفسير  أو تحديد أين يقع "بحر سوف"؟ فهل هو خليج السويس أم خليج العقبة؟  علماً أن الكتابات المصرية القديمة تذكر أن الملك سنوسرت قد شق قناة في حوالي 1900 قبل الميلاد  ربما من رأس خليج السويس. 

2. يقترح أصحاب نظرية أن مكان العبور هو خليج العقبة أن المكان الذي عبر منه الاسرائيليين كان من إما منطقة نويبع، أو مضائق تيران. لكن هذا المقترح يواجه  الرفض للأسباب الآتية:

ا. بُعد المسافة بين منطقة نويبع ومدينة رمسيس/تل ضبعة  وتحتاج مدة أطول من مسير سبعة أيام.

ب. صعوبة طوبوغرافية منطقة تحت الماء في منطقة نويبع مما يشكل صعوبة في مسير الناس وسير العربات.

ت. أما بالنسبة لمنطقة مضائق تيران، فالمنطقة بين مدينة رمسيس (تل الضبعة) والمضائق بعيدة جداً وتبلغ حوالي 350 ميلاً.

ث. صعوبة تضاريس منطقة جزر تيران وطوبوغرافيتها وكيفية تواصلها مع بعضها بعضا، فهي تحتاج إلى جسور.

كما قدم الباحث سؤالاً حول المدة الزمنية  التي احتاجها بني اسرائيل للوصول  من  مدينة "رمسيس/تل الضبعة الحالي" حتى وصلوا البحر الأحمر.  تذكر النصوص التوراتية أن المسافة المكانية بين مدينة رمسيس والبحر الأحمر احتاجت للإقامة في ثلاثة أماكن ، هي: Migdol) (Succoth,Etham and واستغرقت المسافة بين منطقة وأخرى مسير ثلاثة أيام. 

الخاتمة:

تعتز المجتمعات البشرية بماضيها وتراثها القديم، لكنها لا يجب أن تعيش فيه، بل تستفيد منه في بناء مستقبل مشرق لابنائها. كما أننا نؤكد على وجوب أن تكون الآثار هي واحدة من مصادر كتابة التاريخ لأنها تقدم لنا الوثائق المرئية والملموسة حول المجتمعات البشرية في العصور القديمة. وهي بهذا تبقى مصدر إلهام للسرد العلمي والأدب الخيالي بطرق تجمع بين الحقيقة والخيال.

كذلك نجد أن التوراتيين قد بنوا قصتهم السياسية على أساس غير علمي، إذ لا تثبت الشواهد الأثرية والجغرافية ولجيولوجية والتاريخية، وحتى النصوص التوراتية نفسها ادعاءآت الإنجيليين وأصحاب الديانة اليهودية الصهاينة. وحتى حفرياتهم الأثرية لم تحقق حلمهم، فكانت نتائج كلام الأرض غير حلم الخيال التوراتي.