• 15 نيسان 2021
  • ثقافيات

 

ذاكرة الكتابة

 يشرفنا في شبكة " أخبار البلد" ان نستمر  بنشر مراسلات الاديب الكبير  "محمود شقير" تزامنا مع نشرها في صفحته الشخصية على الفيسبوك بعنوان "ذاكرة الكتابة ، مراسلات محمود شقير وحزامة حبايب " ونشكر الاديب الرائع على موافقته على هذا النشر. 

 

عزيزي محمود

تحياتي

إن رسائل كرسائلك لتنتزع قدراً كبيراً من الحزن والكآبة في داخلي، فمن خلال كلماتك النبيلة أكتشف أن علىّ أن أظل أنا.. أنا، وأن أقي ذاتي من تشوّه الآخر المزعج والمقيت وأحصّن فكري، الذي تعبت في حياتي وجاهدت أدبياً ونفسياً ليكون ما هو عليه اليوم، من المهاترات والتفاهات و"تفاهات التفاهات" الكثيرة من حولي.

وصلتُ أيُّها الصديق إلى معتقد (أكثر من مجرد قناعة) بأنه علينا أن نكتفي بصداقات وعلاقات بشرية نوعية جداً ومحدودة جداً، حتى وإن اقتضى ظرف الحياة واللجوء أن نتواصل مع هذه الصداقات عن بعد. فأعزّ الأصدقاء ليسوا حولي، لا يندرجون في شأن الحياة اليومي، بالمعنى المادي الملوس، لكن حسّهم معي في كل المدن التي تتلقفني. حين يقطع صوتهم أو كلماتهم المسافات البعيدة إليّ يحملونني إلى مشاعر من الحب تدوم معي شقاً طويلاً من عمري اليومي. ثمة دائماً وأبداً ذلك الصديق المشترك، لا يبتعد إلا ليقترب، وهناك "عبير" بالصوت المحمل بشجن الحياة التي تعاكسها على الدوام، لكنها مع ذلك تعرف كيف تنتزع من بؤسها النكتة الصافية. وهناك "عمر" في الشارقة، يزورني في أبو ظبي مرّة في العام، ونتهاتف يومياً، فنحزن ونضحك ونغضب، أو ببساطة شديدة قد نعبر عن زهقنا الشديد ونتبارى في غرس الضجر في نفس الآخر. ثمة أصدقاء آخرون في أبوظبي وعمّان، نلتقي من حين بعيد إلى آخر أبعد لكنهم مهما بعدوا يظلون قابلين لإدهاشك بحجم المتعة والفرق الكبير الذي يصنعونه في حياتك. إنهم قلة لكنهم رائعون، وأحب أن أراك وأؤمن بأنك أحدهم.

أما بعد أيها الصديق، بحلول نهاية الشهر الحالي، يكون قد مضى عام كامل وأنا أكتب بمعدل يومي، تسبقه أربع سنوات من الإعداد والتحضير والتخطيط، والنظر في المخطط وإعادة النظر فيه، إلى أن استقر إلى ما هو عليه الآن. بيد أن هذا لا يمنع من شطحات إبداعية تتجاوز المخطط وتهد بعض الأفكار لتشيد أفكاراً أخرى يمليها تطور النص الأدبي، والمسيرة الحياتية للشخوص. وكما سبق وأن شرحت لك في رسالة سابقة، ثمة لعبة مدهشة وجميلة جداً، لأنها غير متوقعة على الإطلاق، لتداخل الوعي واللاوعي في الكتابة بحيث ما إن يقودك وعيك إلى مكان حتى يجرّك لاوعيك إلى مكان آخر مختلف ومذهل كمغارة في جبل أو واحة في صحراء قاحلة. 

حتى الآن أنجزت قرابة 75 في المئة من الكتاب وآمل أن أكون قد انتهيت منه بحلول يونيو أو يوليو على الأبعد. لا أخفي عليك أيها الصديق، أشعر بمزيج من الإثارة والحماسة والخوف والترقب، لكن المحصلة النهائية هي أنني سعيدة بما أكتب وبالمشاعر التي تعتمل في داخلي أثناء الكتابة، حتى وإن كانت تسبب لي قدراً كبيراً من التوتر والقلق والأرق.

عادة ما أجلس أمام اللاتوب في غرفة الكتابة "الثابتة" في المساء، ما عدا أيام الجمعة والعطلات المحدودة، حيث أتوجه إلى اللابتوب المغلق على أسرار كثيرة منذ الصباح. بعد الانتهاء من كتابة صفحة أو صفحتين وأحياناً قد أكتب ما لا يقل عن خمس صفحات في الجلسة الواحدة، أخرج بملابس الرياضة إلى الكورنيش الهادئ وشبه الخالي من البشر. في اليومين الماضيين، بدأت أعدو ومع الركض يخرج قدر كبير من الغضب والحزن الموجودين في داخلي.

من وقت لآخر، تستفزّني فكرة "صحافية" فأكتب مقالة أو رحلة أدبية، من ذلك مقالتي الأخيرة التي أرسلتها لك في "القدس العربي". وللمناسبة، فلقد استقبلت ردوداً كثيرة فاجأتني. وفاجأني أكثر سعادة الناس بالمقالة، حيث أرسل لي أصدقاء من عمّان يقولون لي إن كل واحد شعر بأنني أتحدث عن كلسونه! أتمنى أن تكون قد أعجبتك.

في ما يتعلق بالصديقة إنعام كجة جي، فهي كاتبة وصحافية عراقية مقيمة في باريس، وكانت قد طلبت مني عنوانك الإلكتروني لتراسلك، فهي معجبة جداً بقصصك "القصيرة جداً" وأرادت أن تكتب لك بهذا الخصوص، وبالفعل أعطيتها إيميلك لكنها أرسلت لي بأن ثمة مشكلة في العنوان وأن رسالتها رجعت لها. أعتقد أنني أرسلت لك في رسالة سابقة عنوانها الإلكتروني لكي تبعث لها رسالة قصيرة فقط ليصلها عنوانك، علماً بأنها متحمسة جداً لتجربتك وهي صحافية وكاتبة ممتازة برأيي. على أية حال، سأرسل لك عنوانها الإلكتروني (في إيميل ثانٍ).

أنا سعيدة لأنك تكتب؛ وحقيقة أن ثمة مشاريع جاهزة لديك للنشر أمر يشجعك على أن تقدم أكثر. أعتقد أن فكرة إعطاء مجموعتك القصصية لصديقنا المشترك ليلقي نظرة عليها فكرة جيدة، فهو ناقد ممتاز ولا يجامل أبداً، وأنا شخصياً أعتبره مؤشر تقييم صادق ومخلص. وبالطبع أتطلع إلى الاطلاع على تجربتك القصصية الأخيرة في كتاب لجهة قراءة القصص كلها في السياق الإجمالي الذي حددته لها.

يوم الأربعاء، تبدأ فعاليات معرض أبو ظبي للكتاب، وعادة ما تكون هذه الفعالية فرصة للقاء الأصدقاء القادمين من دول ومدن عدة. كنت أتمنى لو كان بمقدورك المجيء، لربما رتبنا لهذا الأمر في الفعالية القادمة عند صدور كتابك الجديد.

لك مني كل المودة

حزامة حبايب

أبو ظبي – الاثنين 27 مارس 2006  

***

العزيزة حزامة

تحياتي وتقديري

تأخرت في الردّ على رسالتك لأنني آثرت الانتظار بعض الوقت لعل صديقنا المشترك يرسل رأيه في المخطوطة القصصية،  لكنه حتى الآن لم يرسل شيئاً، (أرسلتها له قبل ستة أيام، وينبغي علي أن أنتظر لأن الوقت لم يفت بعد) ما يجعلني قلقاً، إنما هو قلق من النوع الخلاق. حيث أفترض بيني وبين نفسي أن المخطوطة لم تعجب الصديق، فأعود إليها لكي أقرأها بعينيه لا بعينيّ، فأكتشف أن بوسعي في مثل هذه الحالة التجرؤ على إجراء تغييرات وإضافات، أو القيام بحذف جمل وحتى قصص ما كنت أجد لدي الرغبة في حذفها من قبل. (قبل قليل انتهيت من قراءتها للمرة العاشرة أو ربما أكثر) كما أنني أصبحت على قناعة تامة بأن ترك المخطوطة وقتاً بعد الانتهاء منها ثم العودة إليها، يجعلني أقدر على التعامل معها بموضوعية أكثر.

لذلك، تأخرت عليك لكي أخبرك برأي صديقنا حول المخطوطة. ثم لم أشأ أن أتأخر عليك أكثر وها أنذا أكتب إليك. ومن قبل كنت أرسلت المخطوطة إلى أربعة أصدقاء، قرأوها وأبدوا ردود فعل متفاوتة ما بين استحسان زائد وما بين تحفّظ حذر. هذا التحفظ يجعلني أكثر انتباهًا ودقة، أظلّ ألوب حولها حتى أصل إلى نتائج أفضل كما أزعم. ولقد أصبحت موقناً بأن ذائقة القراء حتى لو كانوا كتّاباً تختلف من شخص إلى آخر، فقد يحبّ كاتب ما قصة أو رواية ولا يحبّها كاتب آخر، كما أن لحظة القراءة ومزاج الشخص في هذه اللحظة يلعب دوراً مهماً في موقفه مما يقرأ. 

أنا شخصياً جربت ذلك تجاه كتب قرأتها في سنوات سابقة ثم عدت إلى قراءتها مجدداً، فوجدت أن رأيي فيها اختلف عما كانت عليه الحال من قبل. طبعاً، للثقافة الشخصية ولتطوّرها دخل في ذلك.

والآن، بعد هذا الاستهلال الثقيل، كيف حالك أيتها المشاغبة الظريفة! لقد أعجبت كثيراً بمقالك الخاص بكلاسين أبناء شعبنا التي لم يكن بينها واحد لونه أبيض، وبهذا يحقّ لك ولنا أن نتنفس الصعداء، لأن  هؤلاء لم يضيفوا مؤشّراً آخر لمؤشّرات استسلامهم! وأنا أعجب كيف تَحْبك معك الأمور على مثل هذه الشاكلة الظريفة. ولو أنك تكتبين كل شهر مقالة ساخرة مماثلة لمقالتك هذه، لحقّقت المزيد والمزيد من الشهرة الأدبية والصحافية. إنها مقالة ظريفة بكل المقاييس وهي تفوق مقالة سهيل كيوان جمالاً وسخرية، مع أن مقالته هو الآخر تستحقّ الإعجاب.

وأنا أشكرك على ربط أواصر التعارف بيني وبين إنعام. كتبت لها رسالة، وردّت عليها برسالة فيها إعجاب ببعض قصصي التي قرأتْها في صحيفة "الحياة". ثم أرسلت لي روايتها وسأشرع في قراءتها بعد أيام. 

أغبطك على انهماكك في كتابك المنتظر. كل هذه المعاناة الممتعة وغير الممتعة في الوقت نفسه، هي المكافأة وهي الضريبة التي ندفعها لانخراطنا في عملية الإبداع المضنية الرائعة في آن واحد. وأنا أتمنى لك مزيداً من التألق والنجاح أيتها الصديقة الذكية الحساسة المثقفة الجريئة المخلصة لنبض الحياة وجدارتها بأن تعاش، على رغم ما يعتورها من نواقص ونقائص وألم وعذاب.

وأنا الآن متورّط في الصحافة من جديد. أكتب مقالة أسبوعية بانتظام في صحيفة "القدس" الصادرة هنا في القدس. اليوم نُشر لي مقال عن فيلم "الجنة الآن" لهاني أبو أسعد. وأنا مهتم بالكتابة إلى هذه الصحيفة لأنها واسعة الانتشار هنا، وهي مقروءة على نحو جيد في السجون الإسرائيلية، حيث يوجد أكثر من تسعة آلاف سجينة وسجين فلسطيني. وأكتب كما تعلمين مقالة  أسبوعية لصحيفة "الرأي" الأردنية وهي الأخرى واسعة الانتشار هناك. (أظن، سبق لي أن ذكرت لك ذلك فلماذا هذا التكرار! وأعترف أن ذاكرتي لم تعد قوية كما كانت من قبل).

هنيئاً لك هذا  العدد القليل من الأصدقاء. أعتقد أن هذا يكفي. لأن كثرة الأصدقاء قد تزيد مشاغلك وتأخذ من وقتك . وقتك الذي تحتاجه الكتابة وكذلك القراءة. لي مع القراءة صراع مرير. أريد أن أقرأ أشياء كثيرة على الانترنت وفي الكتب، وهذا أمر مرهق لا يمكن الاستحواذ عليه بنجاح. يتزايد لدي يا حزامة الإحساس بأننا بشر فانون، نسبح في تيار الحياة العريض، نحقق بعض النجاح، ولن نلبث أن نغرق. فلنغرق، ولنحاول حتى اللحظة  الأخيرة تحقيق النجاح تلو النجاح. بغير ذلك تصبح رحلة الحياة مملّة ثقيلة ولا معنى لها على الإطلاق.

كل التقدير

محمود شقير