• 17 نيسان 2021
  • ثقافيات

بقلم : إبراهيم نصر الله

 

كان يوم الخامس من نيسان/ أبريل الجاري يوماً غير عادي بالنسبة إليّ، لأنه شهد لقاء غير عادي؛ كان عليّ أن ألتقي خلاله ببطلة روايتي، ولم تكن البطلة شخصية ما، بل مدينة بأكملها، وأعني هنا «بيت ساحور» التي شكلّت واحداً من أنصع الوجوه المضيئة في الانتفاضة الفلسطينية الأولى، التي لم تزل نفسها تشكل أنصع وجوه النضال الفلسطيني منذ عام 1987.
تجربة بيت ساحور تلك، التي استلهمتْها رواية «دبابة تحت شجرة عيد الميلاد» مختلفة لأسباب كثيرة. كنت أطوف حول المدينة منذ صدور الرواية كما يطوف عاشق حول بيت حبيبته، ليعرف وقْعَ رسالة قلبه التي أمضى 29 سنة بين كتابتها، وإن كان الحبيبُ شابَ وظلّتْ الحبيبة شابة مضاءة بأجمل ذكرياته عنها، وذكرياته معها.
سعى الأصدقاء في بيت ساحور، عقب فوز الرواية بجائزة «كتارا» في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، للاحتفال بهذا الفوز، لكنني طلبت أن يكون اللقاء بعد قراءتهم للرواية، ولحسن الحظ لم يتأخر وصولها عبر طبعة خاصة بفلسطين.
كان أكثر ما يشغلني: كيف سيرى أهل المدينة أنفسهم في مرايا الرواية المتعددة، التي لم تتوقف عند تجربتهم في الانتفاضة الفلسطينية وحسب، بل مضت لحكاية المدينة منذ بداية الحرب العالمية الأولى.
في الماضي! لم يكن الأمر مثيراً إلى هذا الحّد حين ألتقي جمهوراً لمناقشة رواية لي، فزمن الخيول البيضاء، بقدر ما هي عن قرية ابتكرتْ اسمها الخاص بها، إلا أنها عن فلسطين ما قبل النكبة، ولم يكن يشغلني فيها شيء مثلما شغلتني قراءتي لشخصية ودوْر فوزي القاوقجي، الذي كانت صوره تعلّق في بيوت الفلسطينيين واحداً من أبطال ثورتهم الكبرى، وإذا بالرواية تقلب الصورة تماماً، وتقدّمه واحداً من القيادات التي كانت السبب في ضياع فلسطين، مثله مثل أي قيادة عربية في ذلك الزمان.
ما حدث أن أحداً لم يعترض على أطروحة تلك الرواية حتى اليوم، وبعد عشر سنوات من صدورها ظهرت كتابات بحثيّة تؤكد ما جاء في الرواية.
في روايات أخرى تحدثت عن مدن مثل: رام الله، غزّة، عمّان، وغيرها، ولم تكن هناك مشكلة، فهذه مدن يمكن أن يصول فيها الكاتب ويجول لأن تكوينها الاجتماعي متعدد في طبقاته وأصوله، وميوله السياسية، ولم يعد باستطاعة الناس أن يعرفوا بعضهم بعضاً فيها رغم ابتلاعها لهم.
وفي رواية مثل «قناديل ملك الجليل» كان الأمر يتعلق بالقرن الثامن عشر، وفي النهاية يمكن أن يحاورك مؤرخون في هذا، فتتفق معهم أو تختلف. لكن مدينة صغيرة كبيت ساحور كان عدد سكانها في الانتفاضة الأولى لا يزيد على عشرة آلاف نسمة، جعلها أشبه ما تكون بعائلة كبيرة ممتدة.
هذا الأمر بالذات هو ما كان يقلقني طوال عملي على «ثلاثية الأجراس»، و»دبابة تحت شجرة عيد الميلاد» عمودها الفقريّ، ولي في المدينة وخارجها صديقات وأصدقاء، كاتبات وكتاب، وباحثون ومؤرخون ومثقفون بارزون، كل واحد منهم له مساهمة بارزة في الكتابة عنها.
لهذا كله، كان اللقاء بمثقفي بيت ساحور الذي نظّمه «الديوان الثقافي السّاحوري» فريداً، ومثيراً بالنسبة إليّ، وفي ذاكرتي كثير من أسئلة اللقاءات مع قراء متنوّعين في العالم العربي، وإلى ذلك تلك الرسائل التي باتت تصل إلى الكتّاب بسهولةِ توافر وسائل التواصل الاجتماعي.
في لقاءات كثيرة، وحتى لو كانت خاصة، سيوجه إليك سؤال: هل هذه الشخصية حقيقية أم خيالية؟ وهو سؤال خشيت أن يوجه إليّ خلال مناقشة هذه الرواية، كأن يسألني أحد من هو إسكندر، سلامة، جورج، بشارة، ومن هي مارتا، كاترين ورولا الصغيرة الرائعة؟ هذا السؤال لم يوجه إليّ! وهذه هي المفاجأة الأولى، بل الكبيرة. لم يذهب أي من المشاركين في اللقاء من أهل المدينة، أو أولئك الذين انضموا للحوار من أهلها، من إسبانيا، أمريكا، ألمانيا، نحو هذا التفصيل الكبير الذي علينا ككتاب أن ندور حول أنفسنا كثيراً ونحن نجيب عليه، ولذلك تجرأت في النهاية وطلبتُ من المشاركين في اللقاء أن يعذروني لأنني ساهمت في زيادة عدد سكان مدينتهم، وبما أنهم أحبوهم، فأرجو أن يشملهم تعداد سكان المدينة الجديد في أقرب فرصة!
لم يسألني أحد: هل هذا الكلام الذي جاء على لسان هذه الشخصية أو تلك، من عندك، أم من عند الشخصية التي قد تكون متوارية خلف اسم غير اسمها الحقيقي، وهذا ما لا ننجو منه ككتاب.
لم يسألني أحد عن علاقات الحب، ولا عن بيانو مارتا وموسيقاه، ولا عن مصير رولا الطفلة، عاشقة اللغة العربية، بعد الانتفاضة، مع أن السؤال يؤرقني، ولعله بحاجة لرواية أخرى! ولا عن الأحلام والكوابيس، والمشاهد الفنتازية، ولا عن ناحوم- الضابط الصهيوني السّفاح، ولا عن التفاصيل التي امتلأت بها رواية من 500 صفحة. وهذا ما لا ننجو منه ككتاب أيضاً.
ما شعرت به أنهم عاشوا ذلك كله، وعرفوا الشخصيات التي باتت قريبة لهم، وتتحرك أمامهم وإن لم يكونوا التقوا بها من قبل.
لقد احتضنوا الأحداث والأحلام، الواقعي والخيالي، على كل مستوى، ولم يتعاملوا مع الرواية كعمل مكتوب عن شخصيات روائية أخرى غيرهم، بل تعاملوا معها باعتبارهم هم. وفي هذا الأمر تفوّقوا على مثقفين يظنون أن الاعتماد على التاريخ الشفوي مرجعاً، يعني نسخ شخصيات من الواقع، ولا يخطر ببالهم أن التاريخ الشفوي مرجع مثل أي مرجع آخر. حتى أن صديقاً رافقني عدة مرات لزيارة بيت ساحور، وسمع ما سمعتُه من أهلها، كان يفكر أنه ليس بحاجة لقراءة الرواية، وحين صدرت فوجئ لأن كل ما فيها جديد عليه.
في بيت ساحور أسعدني هذا الوعي الفني الكبير الذي احتضن الرواية كعمل يتناول جوهر المدينة، ويحيِّي المدينة وتاريخها، بعيداً عن أي سعي للبحث عن مواز لأي شخصية فيها أو أي حدث أو أي خيال.
وبعــــد:
من الرواية: «الاحتلال قبيح دائماً، ليس عندنا فقط، بل في كلّ مكان، لكنَّ في وجوده دائماً شيئاً عميقاً من جوهر سخريات القدر، وإذا أراد الإنسان أن يواصل القتال دون أن ييأس، فليس هنالك وسيلة أفضل من أن يرى أيّ محتلّ باعتباره خطأ مطبعيّاً فاحشاً في كتاب الزمن».

القدس العربي