• 22 تموز 2021
  • ثقافيات

 

 بقلم : محمد تركي الربيعو

 

في عام 1998، كانت دعد الحكيم مديرة مركز الوثائق التاريخية في دمشق قد انتهت من جمع أوراق السياسي والمثقف السوري فخري البارودي 1887/1966. وقد ضمت جزءا من مذكراته التي طُبِعت للمرة الأولى بجزئين في دمشق عام 1951، وختم يومها البارودي الجزء الثاني بعبارة يتبع، في إشارة إلى وجود مذكرات أخرى، التي بلغت لاحقاً كما يذكر البارودي سبعة أجزاء، قبل أن تغزوها الحرائق بسبب بعض الأحداث السياسية في الستينيات. وعند المقارنة بين تحقيق الحكيم لها مقارنة بالنسخة الأولى المطبوعة، نلاحظ في الطبعة الأخيرة غياب عشرات الصور لفخري البارودي وأصدقائه واساتذته، التي نشرها في مذكراته وتعود لفترة الطفولة ولاحقا مرحلة الشباب، ما أفقدنا حقيقة مصدراً آخر لتوثيق التحولات الاجتماعية في دمشق من خلال الصور، كما فعل مثلاً الأنثروبولوجي اللبناني نادر سراج في سياق قراءته لتاريخ عائلة هاشم الجمال/أفندي الغلغول ، الذي اعتمد صور العائلة وأشكال الهندام لرصد التبدلات الاجتماعية في بيروت نهاية القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. لكن في مقابل هذا القصور، فإنّ المهم في عمل الحكيم أنه ضمّ مجموعة من الرسائل التي كتبها البارودي على فترات مختلفة، وتناولت عدداً من القضايا السياسية، ومن أهمها، حكاية هروبه إلى مدينة عمان في نهاية 1939 وبقائه هناك لفترة 22 شهراً. ولعل ما يلفت النظر في هذه الحكاية، أنه في مقابل عشرات التراجم والتعريفات التي كتبت عن شاعر دمشق وأحد أبطالها، لا نعثر على أي ذكر لهذه الفترة من حياته، رغم أهمية ما ذكره فيها من حوادث تتعلق بأوضاعه الاقتصادية وحتى على صعيد نشاطه السياسي.
يذكر البارودي في كتابه «تاريخ يتكلم» أنه في 16 آب/ أغسطس سنة 1939 ضُبِطت أسلحة في داره في دوما، وضعها أشخاص مقربون من فرنسا، فاختفى البارودي يومين في دمشق ثم التجأ إلى الأردن. وبعد إقامته هناك بفترة، كتب رسالة إلى صديقه الحميم وأحد ظرفاء مدينة دمشق حسني تللو في 19/9/1940، يخبره فيها عن أحواله، إلا أن حجم الرسالة (55 صفحة تقريباً) والتفاصيل التي يذكرها، تبين لنا أننا لسنا أمام رسالة عادية بين صديقين، بل أمام نص يعكس إدراك ووعي البارودي بأدب الرسائل، الذي يعتمده هنا كأسلوب من أساليبه واهتماماته الكتابية للتعبير عن يومياته ومحيطه الاجتماعي، إذ يقول لصديقه في مقدمة الرسالة: «أكتب إليك هذه الرسالة، أصور لك فيها الحياة التي أقضيها في شرقي الأردن».
عندما وصل إلى عمان، لجأ إلى أحد البيوت التي كان يسكنها عدد من أصدقائه المنتسبين للكتلة الوطنية. وبعد مكوثه هناك زاره عيد الطباع، أحد تجار عمان، فاقترح عليه زيارة الأمير عبد الله بن الحسين، لكن فخري كما يذكر في رسالته رفض الذهاب، وبرّر ذلك كونه من الرجال المعروفين بحبهم للبيت الهاشمي، والتحاقه بخدمة اخيه فيصل أثناء مكوثه في دمشق، ولذلك كان يعتقد أنه من الواجب أن يرسل له الأمير أحداً ما للترحيب به. ومما يبدو في الرسالة أنّ البارودي لم يكن يرغب بالمكوث في عمان، بل المضي إلى العراق.

 

مضت الأيام والأصدقاء يزورونه ويقترحون عليه زيارة الأمير، والبارودي يكرر رفضه، رغم محاولات الديوان أيضاً من خلال السيد صبري الطباع. ومع تكرار الرفض، ساءت العلاقة بينه وبين زواره والمقربين من الحكومة، وسمع أنّ الأمير غاضب من موقفه، وأنه أوعز إلى كل من يذهب للسلام عليه بالإقالة. ورغم أنه ليس لدينا مصدر آخر للتأكد من دقة هذه المعلومة التي يوردها، لكن ربما ما يدعم هذا الإحساس لدى البارودي من القصر تجاهه، أنه بعدها بأيام قليلة جرى استدعاؤه من قبل مدير الشرطة آنذاك طارق بك الجندي، لإعلامه بضرورة الإقامة في عمان وعدم مغادرتها دون إبلاغ الحكومة. ومما يلاحظ في الرسالة، أنّ هذا الجفاء بين البارودي والأمير الأردني لن يطول، فبعد أيام اقترح عليه رئيس الوزراء توفيق باشا أبو الهدى الذهاب إلى الديوان، وتقييد اسمه في دفتر التشريفات، ومن ثم يقوم رئيس الديوان بزيارته إلى غرفته ودعوته للقاء الأمير.

وفي أثناء وجوده في الديوان، أخبر بأن الأمير يريد رؤيته، فأحرج واضطر للدخول للسلام على الأمير، الذي كان من عادته، كما يذكر عارف العارف في يومياته، أن يقبل ضيوفه من عيونهم أو جبينهم دلالة على الترحيب الحار بهم. لكن رغم هذا التكريم، لن يشعر البارودي بالارتياح في زياراته للأمير، الذي كان يوجه انتقادات حادة للكتلة الوطنية بسبب تأييدها للديمقراطيات الثلاث (أمريكا، بريطانيا، فرنسا) خلال الحرب العالمية الثانية، وفي أحد المرات وبعد تكرار الانتقادات، علق سمير الرفاعي مدير المعارف بالقول «إنّ عملهم هذا هو سفالة ونذالة ودناءة» فلم يتمالك البارودي نفسه، وردّ بغضب على الرفاعي، مبرراً تصريحات قادة الكتلة من باب أنهم تحت ضغط السلطات الفرنسية، ثم دار للأمير وقال له «أنت تتناول راتبك من الإنكليز، أما أنا فأصرف على القضية من مالي الخاص» ورغم هذا الكلام القاسي، تعامل الأمير مع هذا الرد بصبر، وطلب من الرفاعي أن يكون أكثر أدباً.
يبدو البارودي، في هذه الحادثة، معتزاً بنفسه وبرفاقه السياسيين من الكتلة الوطنية، إلا أنّه دفع ثمن هذا الاعتزاز، كما يظهر من فحوى الرسالة، من خلال الويلات اليومية التي عاشها في عمان، دون أن يحظ بأي دعم مالي، سوى من أسرته، بينما يلاحظ أنّ الأمير لم يقدم له شيئا على الإطلاق، رغم مكانة البارودي، ولعل ذلك يعود لسلوكه السياسي، فهو كما يذكر قد سمي بالبكّاء لكثرة ما يشكو، كما نُعت بالنقاق أحيانا لكثرة تنبيه السياسيين إلى الأخطاء. وفي ظل واقعه السيئ في عمان، اضطر ابن حي القنوات الدمشقي العريق إلى السكن في غرفة رطبة استأجرها إلى «جانب دار الزعيم الجركسي» ولعله يقصد هنا الزعيم الشركسي سعيد المفتي، الذي غدا لاحقاً رئيسا للوزراء في الأردن. وكانت الغرفة، كما يذكر، شبه صالحة للسكن، تسكنها الشمس من الصباح إلى الظهر، ومرتفعة جدا، ويصعد إليها بمئة وأربع وخمسين درجة، في إشارة إلى حي الشابسوغ ذي الغالبية الشركسية، وفي الشتاء كانت الدار تدلف من أربعة أقطارها حتى «إنني كنت اضطر لفتح المظلة داخل الغرفة». وفي هذا المنزل، لم يكن من صاحب لأحد ظرفاء دمشق وحكواتييها سوى الديك، والذي سيقول فيه قصيدة يوم موته: بديع الصوت من أصل زكي.. تحد من دجاج بني هلال.. وليس بعمان شبيه.. تربى بالرفاهة والدلال.
مع مرور الأيام، أخذ البارودي يعاني من أمراض الروماتيزم، فانتقل إلى مشتى الشونة، وهناك أيضاً لم تسمح له أوضاعه المالية الصعبة، سوى باستئجار غرفة عالية. وكان أصدقاؤه يزورونه أحيانا، فاضطر خجلاً منهم، كي لا تظهر أواني الطعام، إلى تقسيم الغرفة إلى قسمين، الأول للجلوس والنوم، والثاني للطبخ. مع ذلك بقيت، كما يقول، روائح الزيت والطعام تفوح في أرجاء الغرفة طوال الوقت. وفي ظل هذه الضائقة، قرر البارودي فتح مشروع ما، خاصة أنّ حالة الزراعة في دمشق كانت آخذة بالتراجع خلال السنوات الأولى من الحرب العالمية الثانية، ولذلك بدت عائلته تعاني من تأمين مصروفه الشخصي. ففكر بعد اقتراضه مبلغا من المال فتح محل في عمان سماه «الندوة» ومما يذكره هنا: فقلت ما يدريني متى تنتهي الحرب؟ إذ ربما دامت ثلاث أو أربع سنوات.. وأن كل الأعمال يمكن أن تقف في أيام الحرب غير المعدة». كان المحل الذي فتحه هو لبيع الحلويات والمشروبات الباردة والسندويش، ثم زاد عليه مطعما صغيرا. بيد أنّ البارودي، وخلافاً لأسلوبه في السرد التفصيلي أحياناً كما نرى ذلك في مذكراته، لا يروي لنا أي شيء عن طبيعة هذه المأكولات، ومن كان يعاونه مثلاً في العمل، أو من كان يطبخ في الأساس، وما هي طبيعة الطبخات المقدمة. وهنا يخيل لنا أنها كانت ذات نكهة شامية، وذلك ما نلاحظه عندما يقول لم يزرني أي دمشقي خلال هذه الفترة، ما قد يدل من ناحية على عتب من ابناء مدينته، وأيضاً على استغراب منه لعدم قدومهم رغم ما يقدمه من طبخات تقليدية شامية. وربما هنا، وفي ظل غياب مصادر أخرى تروي لنا الحياة في المطعم، فإنه يخيل لنا أيضا أن البارودي كان هو من يطبخ في الفترة الأولى. صحيح أنه عاش في منزل ارستقراطي، وكان لديهم خدم وحشم، لكن ما تلاحظه الأنثروبولوجية السعودية مي يماني، في سياق دراستها لتاريخ الطعام في الحجاز، أنّ رجال المدن القديمة مثل المكيين كان يتباهون بمعرفتهم بالطعام وأصنافه ومقاديره، وحتى طبخه أحيانا، ولعل ذلك ما ينطبق على البارودي، وعلى العديد من الرجال الدمشقيين، وهذا ما سنراه بعد ذلك بسنوات من خلال تأليفه لإحدى المخطوطات الصغيرة عن الطعام الشامي.

ورغم أن الشوام عادة ما يُعرفون بالشطارة في تجارتهم ومطاعمهم، لكن الحظ لم يحالفه في الأشهر الاول، ما اضطره إلى مشاركة دمشقي آخر ومراقبة العمل، وقد يعود ذلك إلى أن البارودي لم يحفظ نصائح التجار الدمشقيين، الذين كانوا قادرين في مرات عديدة على الفصل بين أعمالهم وعلاقاتهم الشخصية، في حين يؤكد أنّ سبب تسميته للمطعم باسم «الندوة» نبع بالأساس من رغبته في جعله مكانا لاجتماع الشباب المثقفين، عسى أن يتعارفوا، ويؤسسوا نواة في المستقبل، ولعل هذا ما جعل البعض يتخوف من زيارته في ظل مراقبته، ربما من قبل الحكومة الأردنية. وربما من الصدف الغريبة، أنه بعد هذا المشروع بعقدين تقريبا، سيعود البارودي مرة أخرى ليربط بين عالم السياسة وعالم الطبخ، لكن ضمن سياقات وعالم آخر. فبعد عودته إلى دمشق، ومرور سنوات على خروج الفرنسيين، تظهر باقي الرسائل التي نشرتها الحكيم، أنّ البارودي بدا وكأنه يشعر بالتهميش تارة، وهذا ما نراه من خلال رسالة بعثها إلى اللواء فوزي سلو (7/7/1952) الذي كان يشغل يومها منصب رئيس البلاد، معاتباً إياه لعدم موافقته على اللقاء به رغم تكرار الطلب. بينما نجده في رسالة أخرى للرئيس شكري القوتلي (7/12/1956) يطلب منه المساعدة لتسوية صفقة في مصر، عله يستطيع من خلالها دفع ديونه المتراكمة. كما يبدو في هذه الفترة، أنّ رسائل النقد والنصح لن تتوقف، فقد أرسل برسالة إلى جمال عبد الناصر (14/11/1958) الحاكم الجديد لسوريا، يطالبه فيها بالتأخر في تطبيق قانون الإصلاح الزراعي، وهنا يقول له «اسمحوا لي وأنا الشيخ الذي جرب الحياة في هذا الإقليم، أن هذا القانون سينزل الكثير من الكوارث بأسر كريمة ساهمت في بناء اقتصاديات البلاد». إلا أنّ الجندي الشاب لن يستمع له، وسيبقى هذا الوضع قائما بعد رحيله، وقدوم ضباط سوريين ليحكموا البلد. وهنا سيكون الطبخ شاهداً من جديد على واقع البارودي، الشيخ الكهل، المهمش، إذ يذكر أنه كان مريضا في عام 1963، فاقترح عليه أحد أقاربه الإقامة في منزله في الزبداني، التي كانت مكانا للنقاهة، فاصطحب كتاباً نصحه بقراءته أحد أصدقائه في الخمسينيات وعنوانه «الطبيخ» لمؤلف بغدادي كتبه أيام العباسيين. وبعد مغادرته لمنزله في 13 تموز/يوليو، كان عدد من الضباط بقيادة العقيد جاسم علوان يقودون محاولة انقلابية ضد البعثيين (18 يوليو) وخلال الاشتباكات أصيب منزله الجديد الواقع أمام مقر الأركان السورية، فاحترقت مكتبته بأكملها، وضاعت مذكراته بأجزائها السبعة، و لم يتبق له سوى كتاب الطباخ العباسي وبعض القواميس الأخرى. فقرر حينها، كما يذكر، بعد حديث مع صلاح الدين المنجد، أن يعيد نشره ويضيف فصلاً آخر بعنوان «معجم المآكل الدمشقية» يضم تفاصيل عن كل طبخة في دمشق في زمنه، من المجدرة والملوخية، مروراً بشيخ المحشي، مع ذكر لتفاصيل ومقادير اعداد كل طبخة، فما كان من المنجد إلا أن قال له «إذا أمكنك جمع كتاب بمأكولات دمشق اليوم تكون بينت الفرق بين الأطعمة العربية (العباسية) وبعد مضي ألف عام» وقد ساعدته في معجمه الصغير أخته، كما يذكر. لكن ربما ما لم يذكره البارودي في سياق مقدمته لكتاب الطبيخ أن لجوءه لإعداد معجم عن الطعام الشامي، لم يكن يهدف هذه المرة إلى مجرد الاهتمام بجوانب ثقافية، عرف بها منذ صغره، بل ربما جاء هذا الاهتمام ليعكس ما كانت تعيشه سوريا، فالبارودي الكهل كان قد وجد نفسه أمام جيل آخر من السياسيين، أيديولوجيون، وعسكر، يتحدثون عن الطبقات والفلاحين، ويغزون مدينة دمشق بهذه الأفكار. ولذلك سيجد في الطعام هذه المرة مكاناً لحفظ ذاكرة هذه المدينة، فالطعام كما يراه بعض الأنثربولوجيين هو أحياناً مكان للتعبير عن الانقسامات الهوياتية داخل الفضاءات العامة، وهذا ما كان قد لمح إليه الطبيب البعثي سامي الجندي في مذكراته، إذ يذكر أن قوافل القرويين بدأت تتجه نحو المدينة، وأن القاف الريفية بدأت تطغى على مقاهيها وغرف الانتظار في الوزارات. واليوم وبعد ما عاشته دمشق من ويلات، وبالأخص بعد الحرب، والخوف على مستقبل المدينة، نرى هناك عودة إلى هذا المعجم من جديد بوصفه يحمل مهمة «الإنقاذ الإثنوغرافي» لعادات وثقافة السوريين التقليدية، والمفارقة الغريبة أيضا، أنّ قسماً كبيرا من السوريين، سيعودون إلى رمزيات ورسائل الطعام وثقافته ليعبروا من خلال مذاقه الطيب عن هويتهم اللاجئة، وعن وجودهم القلق في بلدان الشتات الجديدة.

 القدس العربي