• 29 تموز 2021
  • ثقافيات

 إسطنبول – أخبار البلد – كتب المحرر الادبي : وقعت بين يدي مقالة غاية في الواقعية والجمال كتبها الكاتب الفذ ذو النظرة الادبية النقدية الثاقبة " محمد عبد العزيز"  والمتخصص في فن السير الذاتية ،لموقع تلفزيون سوريا الذي يبث من إسطنبول ، هذه المقالة تحمل عنوان لطالما كان يثير الكثير من الغموض الجميل لدى الغالبية من المستشرقين الأجانب ولدى جيل كتاب التاريخ العرب الذين يدورون في فلك الاستشراق الغربي ، ان الحديث يدور عن لورنس العرب.

 ويسعدنا في شبكة " أخبار البلد" ان نعيد نشر المقالة بعد موافقة كاتبها الصديق " محمد عبد العزيز":

كُتب عن "توماس إدوارد لورنس" المعروف بـ "لورنس العرب" الكثير من الكتب والدراسات، بين يدي كتاب بعنوان "مغامرات مع لورنس في جزيرة العرب 1916-1918"، للكاتب الأميركي "لويل توماس"، الميزة الأساسية في كتاب لويل كونه من أوائل الكتب التي ساهمت في تحويل قصة لورنس إلى أسطورة.

لا نستطيع سرد كل قصة لورنس في البلاد العربية، فهي قصة طويلة وهي حكاية الصراع بين الأتراك والشريف حسين وتخلل ذلك تعقيدات إدارية واستعمارية كثيرة سواء داخل الإدارة الإنجليزية التي كانت في تنافس مستمر حول من يتولى إدارة ملف المنطقة العربية بين مكتب الهند الذي يبغضه لورنس وبين مكتب القاهرة، وداخل هذه الصراعات نقاشات مستمرة حول تقاسم النفوذ الفرنسي، والحديث عن تخطيط وتقسيم المنطقة، نتوقف هنا عند شذرات من حياة ذلك المغامر.

كثير من الأدباء يؤمنون بسحر البحر وشاعرية هذا الأفق الأزرق، لكن التأمل في هؤلاء الغربيين الذين جابوا الأراضي العربية في بداية القرن العشرين، يجعلك تفكر في سحر الصحراء عليهم، وكيف جذبتهم تلك الرمال الصفراء وحياة هؤلاء البدو. نجد ذلك عند مرمدوك بكثال الذي رشح لوظيفة لورنس قبله، لكن التوظيف لم يتم بسبب ميله إلى الأتراك، وكيف سحرته بلاد الشام وفلسطين ورأى فيها مثل أبناء جيله المكان الذي جرت فيه أحداث العهد القديم وسار فيه المسيح. سحر ما جذب محمد أسد ليظمأ في هذه الصحراء ويقابل ابن سعود، وشيء من الفتنة في تضاريس هذه البلاد جعل فيلبي يترك الإدارة البريطانية ويعمل في تلك المناطق ويكتب الدراسات الجغرافية عن تلك الأرجاء، ولا ننسى مسز جيروترد بيل صانعة الملوك وصديقة فيصل، كل هؤلاء اندمجوا في هذه البلاد ولعل قدرتهم على صناعة أحداث التاريخ سحرتهم وجعلتهم يشعرون بأنهم قادرون على التأثير.

نتأمل هنا أثر كتاب لويل توماس على لورنس، وكيف عاش حياته بعد عودته من البلاد العربية. لقد قدم لويل توماس محاضرة في 14 أغسطس 1919 عن لورنس العرب ثم نشر هذا الكتاب في عام 1924. عمل لويل توماس مراسلاً حربياً في الشرق الأوسط إبان الحرب العالمية الأولى، وقد رافق لورنس العرب في الأردن وسوريا وتحدث معه في القدس، وشهد بعض المعارك والحملات والأحداث معه.

يحرص لويل توماس في مقدمة الكتاب على الرد على شائعة اعتناق لورنس العرب الإسلام، ويصف أن مصدر تلك الشائعة هو الخيال، فبعد صحبته لورنس تأكد له أنه لم يترك المسيحية قط. يصف لويل توماس اللقاء الأول مع لورنس العرب في القدس بعد دخول الجنرال اللنبي إليها، فقد كان يرتدي الزي العربي ويرتدي عقالاً وكوفيه وعباءة، ويضع على حزامه خنجراً قصيراً معقوفاً. والكتاب نموذج للكتابة الاستشراقية التقليدية فهناك استحضار للحروب الصليبية، وكون هذه البلاد العربية مسرح أحداث ألف ليلة وليلة، ورغبة في تحويل لورنس إلى بطل خارق.

قام لويل توماس بجمع العديد من الصور الفوتوغرافية من الشرق الأوسط وراح يلقي المحاضرات ويعرضها في لندن، ويضفي على حياة لورنس العرب ذلك البعد الأسطوري وكونه إنسانا متميزاً، وبالنسبة إلى لويل توماس كانت هذه المحاضرات، ينبوعاً مالياً لا ينضب، ونأي لورنس عن الضجة الدائرة حوله وغضب من محاضرات لويل توماس، وبلا قصد من لورنس ساهم في هذه الصورة الغامضة عن نفسه، فقد عزف عن التحدث إلى الصحافة وترك الألسن تتداول الإشاعات بلا انقطاع، ورفض إجراء مقابلات صحفية عن حياته، وساهمت محاضرات لويل توماس في صناعة هذه الأسطورة الرومانسية، حيث جعل لورنس ملكاً للعرب غير متوج، في غضون بضعة أشهر، يحضر أكثر من مليون شخص عروض توماس، ويتم تحويل حياة لورنس العرب إلى أسطورة، وظلت الصحافة تلاحقه، حتى عند انتهاء مهامه في الشرق الأوسط، عكرت الصحافة عليه مباهج الحياة، يحكي لنا هنري لورنس في كتابه "المغامر والمستشرق" أنه في عين اللحظة التي تكف فيها الأوساط الرسمية عن الإنصات إليه سياسياً، يصبح فجأة شهيراً، ويصبح لورنس العرب مشهوراً، وبهذه الصفة يمكن اعتباره واحداً من أوائل مخلوقات أو ضحايا وسائل الاتصال الجماهيري، وفي الأشهر التالية ينسحب لورنس ويواصل كتابة كتابه "أعمدة الحكمة السبعة".

في 22 من مارس/آذار 1922 يقدم لورنس العرب استقالته، وبرغم مناشدات تشرتشل له، يصر على موقفه، ولن يعود لورنس إلى أي بلد عربي حتى وفاته، وتبدأ الصحافة في ملاحقته، أضاعت عليه ملاحقات الصحافة فرصة العمل في القوات الجوية التي يحبها، وتعين على لورنس أن يهرب من فضول الصحفيين، ففي عام 1922 عاد إلى العمل في صفوف القوات المسلحة باسم مستعار "شو"، وحين تعرف الناس على حقيقة الشخص المتخفي تصاعدت كثافة الإشاعات وتعين في عام 1928 نقل لورنس إلى وزيرستان في الهند التابعة للتاج البريطاني، أي نقل إلى المنطقة الحدودية المجاورة لأفغانستان، وعندما تسرب الخبر إلى الإعلام، كان بوسع الناس قراءة خبر مفاده "لورنس العرب في مهمة سرية، يكافح ضد الناشطين الحمر في البنجاب، ويتقمص هيئة رجل دين يرقي ويشفي المرضى". وحين اندلعت الثورة في أفغانستان فعلاً، بعد وصول لورنس إلى الهند، وتصاعد الشائعات اضطر البريطانيون إلى سحب لورنس من هناك، وهو الذي لم يشارك في أية مؤامرات، بل كان يترجم في ثكنته النائية إلياذة هوميروس من جديد من اللغة اليونانية القديمة، وعندما عمل في وظيفه تابعة لوحدة القوارب السريعة المراد منها انتشال الطيارين عند سقوطهم، قامت صحيفة الصنداي كرونيكل بكتابة المقالات عن مهمته والتشويش على عمله.

هكذا كان لورنس العرب أحد ضحايا لعنة الشهرة والصحافة وأسيراً للحظة توهجه تحت شمس بلاد العرب الحارقة، حتى وهو مبتعد عن السياسية ويرتب بيته الريفي، ويقود دراجته النارية، تتحسن حالته النفسية، لكنه يجد اسمه في المؤامرات الدولية، فالفرنسيون يرونه في جميع الانتفاضات المعادية لهم بسبب كراهيته القديمة لهم، والسوفييت يذكرون اسمه في محاكمات موسكو، وتركيا الكمالية تتهمه بتنظيم مؤامرة إسلامية، ويضطر للاختباء في لندن ويطلب من الصحافة أن تتركه وشأنه، وهو يرفض العروض لتولي أي مناصب سياسية في بلاده، وهكذا بعد انتهاء الحرب والدبلوماسية يبحث عن ذاته في مجال الأدب والكتابة، ويتواصل مع الأدباء مثل برنارد شو وتوماس هاردي ويكون بينهم مراسلات، كأنه يحاول أن يفهم ذاته بالكتابة ويحلل تجربته الشخصية، فهو يحلم بكتابة كتاب جبار على حد وصفه، ويستعير عنوانه من آية في التوراة "الحكمة بنت بيتها، نحتت أعمدتها السبعة".

الولع بالسرعة الفائقة والطيران كان من الأمور التي فتنت لورنس، وهو الذي انكسرت ترقوتة في أحد مرات الهبوط من الطائرة، وسواء كانت السرعة في السياسة أم في الحياة اليومية، لقد دأب على قيادة أحدث الدراجات النارية السريعة، وتوفي لورنس بسببها في 13مايو/أيار 1935، أي في السادسة والأربعين من عمره، بعد سقوطه من دراجته النارية وبعد أن حجز مكانة في تاريخ المنطقة كرمز للتدخل البريطاني في ثورة الشريف حسين. حضر الجنازة أهم رجال بريطانيا ومن ضمنهم ونستون تشرتشل، وأرسل الملك جورج الخامس رسالة إلى أخيه الأصغر:"إن اسم أخيك سوف يحيا في التاريخ، ويعترف الملك ممتناً بأهمية خدماته لبلاده، ويأسف لمأساة نهاية كهذه لحياة، كانت ما تزال ثرية بالوعود".

وبين عامي 1935-1939 يكتشف الجمهور كتابه أعمدة الحكمة السبعة، وينجح الكتاب وينتشر بين الناس، وهكذا تساهم نصوصه في تجديد حضوره على الساحة الأدبية والفكرية بعد موته، وساهمت هوليوود في استمرار أسطورة لورنس العرب عندما انتجت عنه فيلماً شارك فيه: بيتر أوتول، وعمر الشريف، وأنطوني كوين.

هكذا ظلت شخصيته العجيبة رمزاً لعالم الجاسوسية والمؤامرات السياسية وفتنة الغرب بالشرق المتخيل، لعل فرادته جاءت بسبب بحثه عن ذاته وسط البلاد العربية، وقبل قدومه إلى البلاد العربية حلم باجتراح مآثر عظيمة، فهو ابن غير شرعي لأحد الأرستقراطيين، واندماجه مع القضايا العربية كان عميقاً وهو ينظر لجسده وفيه ستون إصابة وندبة من المعارك التي خاضها، ولعل وقود الأسطورة جاء وتأسس بسبب غرابة أطواره، فكلما بحث فيها الكاتب بل المحلل النفسي وجد فيها مادة للتأمل فهو المثلي في البلاد العربية، والذي عاش تجربة الاعتداء والاغتصاب أثناء حياته بين العرب كما حدث معه في درعا، وهو العزوف عن النساء والعلاقات الجسدية، ونلمح بين نصوصه ميولاً مازوخية، والعائش فكرة الصليبي الأخير، والمولع بالعصور الوسطى، وصاحب الأسلوب الأدبي المميز باللغة الإنجليزية، وعاشق الكتب والأثري الذي ينبش في آثار المنطقة، والمهتم في أطروحته للماجستير بأثر الحروب الصليبية على العمارة الأوروبية، هكذا كانت مقومات شخصيته تجدد أسطورته كل فترة، وكما يقول هنري لورنس "لأن لورنس العرب كان بالدرجة الأولى إنساناً وحيداً فإن أسطورته اليوم تفتن ملايين الناس".