• 27 نيسان 2022
  • ثقافيات

 

بقلم : كايد هاشم

 

استحدثت التكنولوجيا خصائص للوسائط الإلكترونية بذوات من التقنيات التفاعلية، فأوجدت أنواعاً جديدة من القراءة وغاياتها أدت إلى كسر عزلة القراءة التقليدية من خلال الواسطة الورقية التي سادت على مدى زمني طويل في الماضي، وخاصة تلك القراءة الهادئة التأملية للكتب التي يمتلك فيها القارىء اختياره لما يقرأ، والحصول على التوجيه لقراءاته من خلال البيئة الاجتماعية الثقافية والتعليمية، وتوفير الطقس المناسب للاتصال الذهني بعالم الأفكار، وتحقيق المتعة العقلية والعاطفية التي تثري تجربته الإنسانية، وتعمّق عمره العقلي، وتزيد زيادة نوعية في محصوله الثقافي واللغوي، وفي توسيع آفاق مدركاته لعالمه وللكون وفهم ذاته، وتساعده على الوصول في تحسين طريقة عيشه ونظرته إلى الحياة التي يحياها .

أصبحت القراءة بعيداً عن الورق لمن اعتادوا عليه ومن على الشاشات الإلكترونية المضيئة تظلّلها غربة استيعاب، وأحياناً مشاعر متضاربة لا يستقر معها اليقين، وقد سمعت مراراً من بعض الأصدقاء الكُتَّاب والباحثين أن الشعور بامتلاك المعرفة التي يحصلون عليها بالقراءة الإلكترونية يخفت مع اطفاء جهاز الكمبيوتر أو شاشة الهاتف الذكي، أو الانتقال بين الروابط عبر الشبكة العنكبوتية، وكأن المعلومات تحط أمام أبصارهم عند الوصول إليها في العالم الافتراضي، وتطير عندما يغادرون الموقع أو الصفحة الإلكترونية بكبسة زر على لوحة المفاتيح أو لمس الشاشة في أثناء عملية التصفح والتقليب .

والمسألة في حقيقتها ليست سوى مسألة سيكولوجية ترتبط بالاعتياد على وسيلة أو واسطة معرفية معينة هي الكتب التي يتوفر لقارئها الشعور بامتلاكها مادياً والسيطرة على الوصول إليها في أي وقت يشاء، وتناولها من على رفوف المكتبة وقراءتها على مهل وإعادة القراءة بجهد يسير، لا تتحكم فيه الكهرباء وشحن البطارية أو الاتصال بالإنترنت من عدمه . على أنه من الأجدى عدم الاستغراق في الحنين إلى طقس القراءة الورقية عند التعامل مع الوسائط الإلكترونية لأن لهذه الوسائط طقوسها وشروطها ومتطلباتها، ولعل أهم ما ينبغي الالتفات إليه أنها قراءة متعددة المداخل يمكن التعامل بأكثر من حاسة معها، وللحواس المستخدمى أدوارها المتساوية في عملية القراءة ضمن إطار مهارة استخدام الوسيلة التي يمكن أن تقدم الكتاب بعدة صور وتقنيات، توفر عوامل السهولة والمتعة والتفاعل الحيّ، فهناك تطبيقات التصفح والبحث داخل المحتوى، وهناك الكتاب الصوتي أو المسموع، والمكتبات الإلكترونية الغنية بكل ما يخطر على البال بلغات مختلفة، عدا محركات البحث التي تمكن القارىء من الوصول إلى الكتب الإلكترونية الملخصات المفيدة إذا أحسن الاختيار، والمشاركة في مواقع ومجموعات متخصصة وشبه متخصصة على وسائل التواصل الاجتماعي تُعنى بالكتب ومناقشتها .

وأمام هذا التدفق الهائل في المعلومات على الشبكة العالمية تصبح عملية الاختيار والانتقاء القرائي مهارة بحد ذاتها، تحتاج إلى الدُّربة والتمكُّن على أسس منهجية معيارية، حتى لا يقع القارىء في فخ "التصفح السريع" ومجرد تلبية الحاجة العاجلة في الحصول على المعلومة دون التثبت من موثوقية المصدر والمحتوى . فقد أصبحت القراءة الجديدة على مزاياها وخياراتها العديدة في إتاحة حرية الحصول على المعرفة؛ محفوفة بمحاذير من أخطرها تراجع دور التوجيه النقدي، في الوقت الذي تعاني فيه المناهج التعليمية من نقص تدريس الفلسفة بما يعنيه ذلك من التمكين لمهارات التفكير النقدي التحليلي، والحوار المعرفي، والمنهجية والتنظيم في تلقي المعرفة .

والدور لا يقتصر على القارىء، فالقراءة لم تعد عملية فردية محدودة، وهي في كل الأحوال ليست منتزعة من سياقاتها الاجتماعية والثقافية والتربوبة، وإنما تشارك فيها هيئات المجتمع ومؤسسات الثقافة والتعليم والأكاديميا والفكر، ودور النشر، ووسائل الإعلام، وليس استطراداً أن نعد المجتمع القارىء الذي يحترم القراءة بوصفها قيمة إنسانية عقلية ترفد ثقافته وتعزز تماسكه هو المجتمع القادر على بناء الإنسان المُنتِج حضارياً، المؤهّل للمشاركة في التعامل مع تحديات العصر، والعامل على صون كيان المجتمع وتماسكه وصنع مستقبله في ميادين الحياة والإنتاج كافة . 

ولا ننسى أن صانع المعرفة، وليكن هنا المؤلِّف الكاتب والباحث والمبدع، هو بمثابة قطب إنتاج هذه المعرفة في هذا العصر، وصاحب الدور الأساس في صياغة الخطاب الثقافي الملائم لزمانٍ حافل بالتغيّرات وتبدل القيم المعرفية؛ إذ أصبح اليوم في قلب التحدي لإيصال رسالته إلى القارىء والمتلقي، وابتكار جماليات التعبير في تقديم الأفكار والفنون الإبداعية؛ ابتكاراً يُسخِّر التقنيات لخدمة المحتوى وتجويده، وتوظيف هذه الجماليات في أداء فني يطلق الوعي في الاتجاه الصحيح، ويستثمرها بمهارة مستفيداً من إمكاناتها في الاجتذاب وامتاع العقل مع احترامه، وتلبية الحاجة العاطفية للمتلقي والسموّ بها.

وصف بعض المفكرين القراءة كما لو أنها علاقة تعاقدية بين المؤلف والقارىء، ورغم أن الكاتب يكون غائباً في زمن القراءة، والقارىء غائباً في زمن الكتابة – كما يرى الفيلسوف الفرنسي بول ريكور (1913- 2005) -  فإن الاقتراب التخييلي يجعل من القراءة زمناً فنياً يضاهي زمن الكتابة في الطبيعة الإنتاجية . بل لا بد من نوعٍ من الحوار بين المرسل والمتلقي ينتج تفاعلاً واقعياً بهدف مشترك لاكتشاف حقائق الوجود في لحظة راهنة، ويؤكد هذه الضرورة ما تحدَّث به حنا مينه عن بعض أعماله الروائية وعمل الروائي في تجنب الخلط بين فكر الماضي وفكر الحاضر وفكر المستقبل، وكيفية النظر إلى الأشياء الجديدة من خلال رؤية مستقبلية، والميل إلى البُعد عن الحدث الواقعي زمنياً حتى يتمكن من الخروج من الوطأة الآنية لذاك الحدث والنظر إليه بصفاء أكبر وتقدير أشمل . فهو يرى أن الحدث الآني يبهظ الروائي ويجعل انفعالاته وردود أفعاله تمتزج بكثير من ألوان الذاتية، وهذا صحيح فبعض الأعمال التي يسِمها الاستعجال في ملاحقة الأحداث بظاهرها دون التعمق فيها، تجعل من الكاتب يدور حوله نفسه على حساب الجودة الفنية، وعلى حساب استخلاص الجوهر الذي هو الحقيقة عينها، فيما يظل المظهر عَرَضاً كما يصفه مينه أيضاً.

والاستطراد في الحديث عن العلاقة بين القارىء والكاتب له جوانب أخرى لا يتسع المجال للتطرق إليها في هذا المقال، غير أن هذه العلاقة بحاجة إلى إنعام النظر فيها وتجلية جوانبها مع إمكانات أوجدتها تكنولوجيا الاتصال في الانتشار والانفتاح الواسع على جماهير المتلقين من ثقافات مختلفة، مما تقوم به الوسائط الإلكترونية للكتب والإبداعات والمواد الثقافية على تعدد أشكالها وصورها وغاياتها، ولعل تناول بعض تلك الجوانب يكون في مقال أو مقالات أخرى مقبلة .