• 21 حزيران 2022
  • ثقافيات

 

 القدس - أخبار البلد -  شكر الأديب والكاتب محمود شقير الأديب د حسن حميد على ما كتبه حول إحدى روايات الكاتب شقير ،  الا وهي " خبز الآخرين  " . وكان الأديب حسن حميد قد كتب عن ذكرياته  حول هذه الرواية ، ويسعدنا اعادة نشر تلك المقالة التي نشرت في صحيفة الحياة الجديدة 

" ثمة كتب صارت إلى يدي، فأغتنى، وأسهمت في تكويني، وجعلتني أصير من أهل الشغف بالنص الأدبي الذي طاردته، لأعرف أسراره، منذ سنين بعيدة عزيزة!

من بين هذه الكتب المجموعة القصصية التي عنوانها (خبز الآخرين) لأستاذي الأديب محمود شقير الذي كنّا نسمع باسمه يرنّ مثل ليرات الذهب في كلّ لقاء وملتقى للثقافة والأدب، مثله مثل اسم الأديب المرحوم خليل السواحري، وعبر مجموعته  القصصية المذهلة (مقهى الباشورة) التي طبعت في دمشق في منتصف السبعينيات، فاشترينا نسخها كلّها ووزّعناها كما لو أنها تعويذة أو كتاب نجاة!

(خبز الآخرين)، لم تتوافر بين أيدينا إلا بعد سنوات، أذكر أن صديقي المرحوم الأديب د. محمود موعد جاء إليَّ في مخيم جرمانا ومعه فرحه الذي اعتدنا عليه، (يا إلهي كم كان متفائلاً) قال لي وهو يجلس القرفصاء : جئت إليك من أجل هذا الكتاب  ! ورفعه أمام نظري، فقرأت العنوان (خبز الآخرين) فصرخت فرحاً: محمود شقير! قال: خبز الآخرين لـ محمود شقير!

أذكر أنني دلّلت محمود موعد في تلك الساعة دلالاً ما عهده فيّ، شرب الشاي والقهوة، ثم قهوة أمّ حسن المُرّة، ثم شرب كأس عصير من البرتقال، وتلبث، فأكل من فطاير القريش والزعتر، ثم رجوته أن يكتفي بهذا، لأن عادات المخيّم وتقاليده لا تحتمل طقوس ضيافة أكثر من هذا، ثم رجوته أن يذهب، غير أنه لم يذهب، بل ارتديت ملابسي وذهب معه إلى مقهى الهافانا، بعد أن أقنعني، بأن أعزاء قدموا من داخل الوطن المحتل، وسيسافرون في الصّباح الباكر، وعلينا أن نقوم بواجب وداعهم ! وقال: هم من أحضروا هذه المجموعة ! قلت: وأحضروا كتباً غيرها.. اعترف!

أقول هذا لأن وصول الكتاب الثمين إلى المخيّم كان حدثاً، بل كان شوقاً يلتقيه ويتلقاه أهل الشوق والشغف ! حين قرأت قصص (خبز الآخرين) رحت أقبّل الورق، وقصدي تقبيل السطور وما احتضنته من المعاني النفيسة، فكلّ قصّة منها جرة فرح، كنت أدور حولها، وأتذوق ما فيها من الطعوم الآسرة بحذر شديد، ثم أعود إليها مسحاً بحواسي كلّها، ولكم كانت قصصاً جديدة بلغتها الرّبيعية الرّشيقة، وموضوعاتها التي اقتنصتها من البيوت والشوارع وصدور الناس وهم يبوحون بما أخفوه، وبما أحبوه، وبما خجلوا منه، وبما جعلوه أحلاماً لهم ! ولكم كانت القصص جديدة في معماريتها التي تحاكي عمارة القدس الباذخة، وزقاقاتها التي تقاربت بفيض من الألفة والحنان، ولكم كانت جديدة في طعومها، ورائحتها، وأنفاس أهلها المتلاهثة، وهي تبحث عن القدس قبل عام،1967 ، ولكم كانت جديدة في رؤيتها المتفائلة بأن القدس ستظلّ القدس، وأن كلّ الأذيات والمخاوف والرصاص ودوريات الشرطة إلى زوال، ولكم كانت جديدة وهي تتحدث عن أبطال بسطاء، لا علاقة لهم بالخارقية أو الأسطورية، أبطال  عاديون يشبهون الحواكير، والغدران، والحقول، لا يعرفون من الزينة والتزويق إلا ما حبتهم به الطبيعة، أبطال مفطورون على مواجهة الظلموت ودفعه إلى البعيد البعيد لأنه ظلموت، يحبون الصّباحات والقهوة وكعك أفران القدس، وشراب عصير الخروب وقت اشتداد الحرارة ظهراً، وقلوبهم ترتجف كلما رأوا الصلبان، وكلما سمعوا التكبيرات وصلصلة الأجراس تتعالى لأن القدس، لحظتئذٍ ، ترتدي ثوب النور الطويل!

حين قرأنا (خبز الآخرين) لـ محمود شقير، رأينا أن كلّ من هم في المخيّم أبطال، بعدما ظننا سابقاً أن الفدائي والشهيد والأسير هم وحدهم الأبطال، رأينا أن حفار القبور، وحارس المقبرة، والخرساء نغموشة بائعة الكعك أمام مدرسة الرّامة في مخيّم جرمانا، وخنيفس عازف الأرغول، والعم عبودة الذي ينقل أكياس طحين الإعاشة إلى البيوت، و(دوحة) مجنونة المخيّم (التي نجت من مجزرة الحسينية في الجليل ) .. كلّهم أبطال ! (خبز الآخرين) غيّرت نظرتنا للنص الأدبي، وجعلتنا نؤمن بأن البطولة كائن نوراني موجود في كل معنى حيّ.

أقول هذا، وأنا لم أزل أذكر بكائي الوجيع، حين عادت إليّ مجموعة (خبز الآخرين) ممزقة الورق، وسطورها امّحت لكثرة ما ترادفت عليها الأيدي في مخيّم جرمانا، لكنني فجأة بلعت بكائي حين بدت صفحاتها لي مضيئة أكثر، لأن كلّ من قرأها ترك شيئاً من ضوء روحه بين تضاعيف سطورها الباقيات !