• 28 تموز 2022
  • ثقافيات

 

بقلم : محمود شقير

 

على امتداد ثلاثين يومًا، وبأسلوب شاعري مملوء بالحنين إلى بيت الطفولة وإلى مسقط الرأس عكا وإلى فلسطين، يتبادل د. عمر صبري كتمتو و د. روز اليوسف شعبان تسعًا وعشرين رسالة؛ يتمحور أغلبها حول البيت الذي ولد فيه عمر وعاش بعض طفولته فيه، قبل أن تشرّده الغزوة الصهيونية هو وأهله ومئات الآلاف من أهل البلاد، ليعيش ويعيشوا في المنافي عبر غربة قاسية ومعاناة في أغلب الأحيان.

     جاءت هذه الرسائل المرهفة التي اختُتمت بالرسالة الثلاثين التي وجهها مؤلفا الرسائل إلى القراء، بعد عدد من اللقاءات بينهما عبر منصة زووم، المنصة التي اعتمدتها ندوة اليوم السابع المقدسية لعقد ندواتها إثر التحول عن الندوات الوجاهية بتأثير جائحة كورونا، ما يدعو إلى الثناء على الندوة التي كانت سببًا في هذه الرسائل التي صدرت في كتاب يقع في 120 صفحة عام 2022، من دار الأسوار في عكا بإشراف صديقيّ عمر وروز؛ العزيزين حنان ويعقوب حجازي، وهما الجديران بإصدار هذا الكتاب ما دامت عكا هي المقصودة في الغالب في متن الكتاب، وما دام بيت عمر في عكا يشكل بؤرة السرد والعنصر الرئيس فيه.

     وكنت طوال الوقت وأنا أقرأ الرسائل أتذكّر رواية "عائد إلى حيفا" التي كتبها الفلسطيني الكبير؛ ابن عكا الأديب الشهيد غسان كنفاني، واصفًا عودة "سعيد س." وزوجته "صفية" من رام الله إلى حيفا بعد هزيمة حزيران 1967، لتفقّد بيتهما الذي اضطرا إلى تركه في العام 1948 أثناء النكبة الكبرى، وللسؤال عن طفلهما "خلدون" الذي نسياه في البيت من جرّاء الارتباك والخوف من رصاص القتلة المحتلين الذي شكل تهديدًا لهما في ذلك النهار.

     عودة سعيد وصفية تختلف على نحو أكيد عن عودة عمر بعد أن امتدت به رحلة المنفى، ثم أتيح له أن يزور عكا غير مرّة ليجد هناك شعبًا ما زال متمسكًا بالأرض وبالوطن، ويجد الجارة "فاطمة" التي عرفته وعرفها في مفاجأة مدهشة أعادت الذكريات إلى نبعها الصافي الوثير، فيما كانت عودة سعيد وصفية  تشكل صفعة قاسية لهما، حين التقيا ابنهما "خلدون" وقد أصبح اسمه "دوف"؛ بعد أن تعهدته بتربية مغايرة مهاجرةٌ يهوديةٌ احتلت البيت، وسيطرت على الطفل، وجعلته يكبر على الولاء لدولة الاحتلال؛ حدَّ الانخراط جنديًّا في جيشها.

     يتحدث عمر في رسائله عن أمل العودة الناجزة إلى البيت، البيت الذي عثرت روز على مكانه في عكا، وأرسلت صوره إلى عمر في منفاه، ولم تكتف بذلك، بل تحدثت عن فداحة الغربة خارج الوطن، وعن الحنين من جراء قسوة المنفى؛ حدَّ الاستشهاد بآراء المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد حول المنفى، وتحدثت عن الغربة وعن المنفى في داخل الوطن حين وصفت تشرّد أهل زوجها في غير مكان.

     ولأنَّ شاعرًا وشاعرة هما اللذان صاغا هذه الرسائل الجميلة فلن نعدم قراءة نماذج من قصائدهما، ومن قصائد شعراء آخرين لها علاقة بالحالة التي تحدّثا عنها أو تطرّقا إليها في معرض الكتابة الأدبية الوارفة.

     وإحساسًا منهما بضرورة الإنجاز السريع، وبقصد نشر هذه الرسائل في كتاب، فقد كانت الرسالة والرد عليها لا يستغرقان سوى ساعات، وبرغم هذه السرعة في الإنجاز فقد جاءت الرسائل حافلة بالمشاعر وبالرؤى والأفكار، وبالتوقّف عند بعض الظواهر المقلقة في المجتمع الفلسطيني كالعنف الموجه إلى الناس، وبالحديث عن الحياة في المنفى، وكذلك بوصف الأمكنة كما حدث حين تحدّثت روز عن بلدتها طرعان، ووصفت جبلها الراسخ الرصين، وحين تحدّثت عن بعض الفعاليات الأدبية التي شهدتها البلدة في الآونة الأخيرة، وتحدثت كذلك عن جامع الجزار وعن كنيسة يوحنا المعمدان  وعن حدائق البهائيين وعن بحر عكا وعن سورها "الذي هزئ بالبحر وهزم الغزاة".

     لغة الرسائل سلسة جميلة متقنة، وأسلوبها يغري المتلقي بمواصلة القراءة من دون ملل، بل إن عمر ينوّع في أسلوب كتابته فينتقل في أثناء الكتابة من السرد بضمير المتكلم الذي يصف حالة عمر الكبير، إلى السرد في بعض رسائله بضمير الغائب وهو يتحدث عن عمر الطفل الذي يقبع في داخل الكهل الكبير.

     بقي أن أشير إلى ملاحظتين، الأولى أنني أتمنى على الصديق عمر أن يعيد النظر في موقفه من ديوان "أعراس" لشاعرنا الكوني محمود درويش، ففي الديوان لغة شعرية غاية في الجمال، وفيه إيقاعات داخلية وأخرى متأتّية من حرص درويش على موسيقى القوافي، تلك التي تزيّن شعره وتزيده رونقًا وجمالًا باستمرار؛ وأخص بالذكر في هذا الديوان قصائد: "أعراس، كان ما سوف يكون، قصيدة الرمل، وتحمل عبء الفراشة، حالات وفواصل التي تشتمل على ست قصائد".

      والملاحظة الثانية لها علاقة بسهوٍ وقعت فيه الصديقة روز ص88؛(ربّما بسبب التباس الجملة الواردة في رسالة عمر ص63) حين قالت إن عمر كان يرى عكا صغيرة وهو صغير، والعكس هو الصحيح؛ فقد كان يراها كبيرة وهو صغير، فيما صار يراها صغيرة وهو كبير، وذلك هو الأمر الطبيعي في نظر الطفولة إلى الأماكن، وإلى أشياء الطبيعة بين زمنين متباعدين.

     تحياتي إلى الشاعر د. عمر صبري كتمتو المغترب في أوسلو، وإلى الشاعرة د. روز اليوسف شعبان المقيمة في وطنها فلسطين، على رسائلهما التي ترمز إلى وحدة المصير الفلسطيني والتطلعات والآمال؛ سواء أكان ذلك في المنفى أم في الوطن، وتشكّل إضافة نوعية إلى هذا اللون من الكتابة الأدبية.*

*ورقة مقدمة إلى ندوة اليوم السابع المقدسية.