• 3 آب 2022
  • ثقافيات

 

 بقلم : روز اليوسف شعبان

 

 

تقع الرواية في 190 صفحة، إصدار دار ابن رشيق 2022، لوحة الغلاف من تصميم منال ديب.

في هذه الرواية تسرد الكاتبة روايتين في أنٍ واحد. رواية عبير التي كانت ترسل الرسائل للراوية في الماسنجر وتطلب منها تدوين روايتها ونشرها، ورواية الراوية نفسها، التي أخذتنا في رحلة شائقة لمدّة ثلاثة أيّام إلى العقبة والبتراء وعمّان. خلال هذه الرحلة التي كانت في الحافلة، تطرّقت الراوية إلى العديد من المواضيع الاجتماعية والسياسيّة والسياحيّة وغيرها. ففي صفحة 46 تصف معاناة المسافرين على المعبر بين إسرائيل والأردنّ، فتقارن بين هذه المعاناة وساعات الانتظار الطويلة وبين التنقّل السريع للأوروبيّين في الدول الأوروبيّة دون جوازات وإشارات مرور. وفي الحافلة ترى شابّا وفتاة هربا دون علم أسرتيهما بعد أن تزوّجا زواجًا عرفيًّا، فيحزنها ذلك وتتذكّر جارتها صبريّة التي خدعها جارها خالد فحملت منه، وقام بضربها للتخلّص من الحمل. ص 51، فيسجنويتزوّجها رغمًا عنه، فتعاني من مرارة العيش وقسوته خاصّة بعد انحداره إلى عالم المخدّرات، فتترك البيت وتهرب.

تتطرّق الراوية إلى نظرة المجتمع للرجل تقول:" لن تخفّف ثقافتنا أو تعلّمنا من عنجهيّة الرجل واستبساله في إخضاعنا وقهرنا، أتدرين لماذا؟ لأننا غير مؤمنات بقوّتنا خائفات من التغيير...". ص 57.

في الحافلة يتحدّث المرشد عن اجتياح العساكر لمخيّم جنين، الخوف والدمار الجوع والتشريد الذي لحق بالأهالي .كما تذكر الحصار على قطاع غزّة وتجويعه وكيف غدا الميناء أسيرًا لوّثت الحروب موجاته فعادت الشباك خالية؛ أرعبت أسماكه وأخذت تستغيث في الأعماق. ص 114.

تستذكر الراوية حادثة الحرم الإبراهيميّ، وقتل عشرات المصلّين من قبل متطرّف يهوديّ( باروخ جولدشتاين)عام 1994 . ص 76.

في عمّان تصف الراوية حياة الدعارة والفسوق والمجون الذي يحياهالشباب والشّابات، كما تصف جمال عمّان وطيبة أهلها فتقول:" عمّان الجميلة، تتخطّر بثوب من الرخاء في بعض أحيائها، وتخفي في أحياء أخرى ملابس مرقعة تغطّي أجساد الحالمين.... أخذت أغني مع فيروز:" عمان في القلب أنت الأهل والجاه، ببالي عودي ومرّي مثلما الآه". ص 82. ص 86-87.

تتطرّق الراوية أيضًا إلى الوضع التعليميّ في البلاد وانهيار مكانة المعلّم ص 100.

حظيت القدس وعين ماعين والعقبة والبتراء ووادي رمّ بأوصاف جميلة جدّا وبلغة شاعرية ممزوجة بالاستعارات.:" مضينا إلى حمّامات ماعين، رأيت شلّالاتها وهي تتهاوى فوق أجساد المستحمّين، تتدفّق من جبال شاهقة داكنة اللون بفعل الحرارة الجوفيّة".ص 80.

تستذكر الكاتبة أيضًا قصة صديقيها  روز الايطاليّة  وزوجها راشد، زوجان طبيبان أحبّا بعضهما البعض، عاشا معًا بسعادة لمدّة عشرين عامًا. لم يرزقا بأطفال، فقام راشد بالزواج سرًّا من ممرضة، فتنجب له طفلًا مريضًا يموت بعد فترة وجيزة من ولادته، وبعد أن تكتشف زوجته روز هذه الخيانة من زوجها، تتركه وتعود إلى وطنها إيطاليا.

على المعبر بعد انتهاء الرحلة والعودة إلى الوطن، لا يسمح للراوية دخول البلاد بسبب عدم ختم جوازها ووضع صورتها عليه، فتضطر للعودة إلى عمان لتصليح الخطأ ومن ثمّ تعود إلى وطنها بعد رحلة جميلة.

أمّا رواية عبير فيمكن ايجازها بما يلي: تعيش عبير  المقدسيّة في السعوديّة مع والدها واختها ضحى وزوجة والدها، وذلك بعد طلاق أمّها التي لم تتمكن العيش في السعودية فمرضت، وقد طلبت من زوجها ترك عمله في مهنة التدريس والعودة إلى القدس، لكنه رفض. فتمّ الطلاق ووضعت الطفلتان عبير واختها في الملجأ لمدّة سنتين. وبعد زواج والدهما أخذهما معه إلى السعودية. عبير واختها اكتشفتا قصّة طلاق والديهما عندما بلغتا سن السادسة عشرة ولم تلتقيا بوالدتهما قبل ذلك . ويحدث أن تتعرّف الاختان على والدتهما وتزوراها في القدس. تصل الرواية إلى ذروتها حين تكشف لنا عبير أن ولدها سامر  أحبّ تولين  ابنة خاله صالح، لكنّ خاله يبيع بيت أهله وأملاكهم للمستوطنين اليهود فتقرّر ابنته الانتحار، أما سامر فيصاب بانهيار نفسيّ.

بعد هذا الاستعراض الموجز للرواية، سأتطرّق في قراءتي إلى أسلوب السرد الذي اتبعته الكاتبة. وقبل ذلك سآتي بمقدّمة عن البنية السرديّة والمبنى الحكائيّ.

أسهم الشكلانيّون الروس في وضع الأساس النظريّ للسرديّات، فهُم الذين دعوا إلى إظهار "الخصوصيّة الأدبيّة" أو "أدبيّة الأدب"، في حين كانت الدراسات الأدبيّة، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلاديّ، "تستند إلى المقاربة التكوينيّة والكشف عن طرائق نشوء الأعمال الأدبيّة، ممّا كان يفضي إلى تقليص أهمّيّتها الأدبيّة لحساب الاعتبارات النفسيّة والاجتماعيّة والتاريخيّة، بحيث كانت الدراسة الأدبيّة وقتها ركامًا من الفلسفة وعلم النفس والتاريخ وعلم الجمال" ابن ذرويل، 2000، ص. 26. 

وتعرّف شبيب سحر (2013) المبنى الحكائيّ بأنّه "الحكاية المرويّة التي لا تخضع الأحداث فيها إلى السببيّة أو إلى الترتيب الزمنيّ المنطقيّ، ولنقل إنّها البناء الجديد للحكاية وفق نظام تأليفيّ تخييليّ، يتبنّاه السرد بطريقة فنّيّة إبداعيّة، ومن خلال هذا النظام الفنّيّ الذي نسمّيه السرد يتحوّل المتن الحكائيّ إلى المبنى الحكائيّ" (شبيب، 2013، ص. 105).

ويعرّف الدكتور خليل رزق (1998) المبنى الحكائيّ بأنّه "الحبكة" (sujet)، "وهو بمعنى تنظيم الأحداث في صياغة فنّيّة، حسب ظهورها في الخطاب السرديّ، ولا تتوجّب طريقة عرض أحداث الحبكة التطابق والتسلسل الزمنيّ للأحداث في الحكاية، فالمؤلّف يستطيع ترتيب أحداث الحكاية، بطرق متعدّدة، فقد يلجأ إلى استرجاع الماضي أو استشراق المستقبل" رزق، 1998، ص. 39-40.

بناءً على هذا التعريف، يمكننا تحديد عناصر السرد وهي: الأحداث، الشخصيّات، الزمن والمكان.

وعودة إلى رواية الكاتبة نزهة الرملاوي" ذاكرة على أجنحة حلم"، نجد أنّ الكاتبة  استخدمت الأسلوب الحداثيّ في كتابة روايتها، وفق نظام تأليفيّ تخييليّ، بطريقة فنّيّة إبداعيّة، فقد قامت الكاتبة  بتنظيم الأحداث في صياغة فنّيّة، حسب ظهورها في الخطاب السرديّ، ولم تتّبع في طريقة عرض أحداث الحبكة التطابق والتسلسل الزمنيّ للأحداث في الحكاية، كما هو متّبع في الرواية التقليديّة، وإنّما اتّبعت أسلوب الحداثة في ترتيب أحداث الحكاية، بطرق متعدّدة، فنجدها تلجأ إلى الأحلام، المونولوج الاستذكار والاسترجاع كثيرًا في روايتها كما نجد في الأمثلة التالية:" وظهرت أمامي صورة خالد زوج صبريّة؛ بعد أن خرج من السجن وتزوّجا ثانية، أصبح مجالسًا لرفقاء السوء مدمني الخمر والمخدّرات، يؤّدي طقوسه وترنّحه في وسط الحارة...". ص 88.

:" استيقظت من سرحاني وعادت عيناي لتلتقط الصور خلف الستارة، أخذتني مشاهد السكارى إلى أحاديث عمّتي رحمها الله يوم روت لنا القصّة عن زوج ابنتها القادم من السعوديّة في العطلة الصيفيّة..". ص 90.

:" رحت أسأل نفسي كيف ستمضي ساعات نهاري دون نوم؟ أشعر بالضعف والارتخاء...". ص  99.

:" أتتني صور الحصار والدمار والقتل وإقصاء القطاع وتجويعه...". ص 114.

:" فجأة لمعت أمامي صورة روز زوجة صديقنا راشد الإيطالية وهي ترقص في احتفالية تقيمها كل عام؛ احتفاء بذكرى زواجها".ص129.

نجد أيضًا أنّ الكاتبة لم تتبّع التعاقب الزمنيّ المعروف في الرواية التقليديّة بل تداخلت الأزمنة في بعضها البعض وتبعًا لذلك تداخلت الأحداث فاختلطت رواية الساردة التي تسرد لنا رحلتها إلى الأردنّ مع رواية عبير التي كانت ترسلها لها عبر الماسنجر، ولعلّ في الأمثلة التالية ما يؤكّد ذلك:" حملت هاتفي مجددا وبدأت ألتقط بعض الصور وأرسلها لأولادي وأحبتي، أيقنت أن عبير سترافقني في رحلة أحلامي، فرحت برسالة جديدة أرسلتها إليّ تقول فيها: لقد عاد الزمن من مخبئه ليكرّر نفسه، بعد سنتين من زواج أختي ضحى واستقرارها بالسعوديّة، تزوّجت من رجل يعمل في منطقة القصيم بالسعوديّة، يا لحظّي المتعثّر، هي ذات المنطقة التي تزوّجت بها أمي ومرضت بها وغادرتها دون وداع". ص 64.

:" تسلّل القلق إلى مضجعي، حاولت النوم، لكنّي أخفقت، فتحت الماسنجر وقرأت ما أرسله أولادي من أدعية بالسلامة والهناء، فرحت برسالة جاءت من عبير فكتبت لي:" أثقلت كاهلي بحمل المسؤوليّة، أنفقت عمري بسعادة أولادي، كنت أنزوي ببكائي حتى لا تقهرهم صور الإهانة، وأنّات الاستغاثة الموجّهة من أبيهم إليّ..."ص 84.

:" صرخت أعماقي" كيف لي أن أنام ليلتي يا عبير وجرحك لم يندمل؟ راح جسدي يتقلّب، وتتقلّب أفكاري فلا يغمض لي جفن..". ص 85.

"ودّعت البحر بابتسامة ودخلت إلى الغرفة، وألقيت تعب جسدي على السرير، آن وقت الراحة، تذكرت عبير، ففتحت هاتفي؛ ألقيت نظرة على صفحتي، وفتحت الماسنجر، سررت بوجود رسالة من عبير جاء فيها: " بعد وفاة زوجي فكرت بأمّي، وطلبت من أختي رقم هاتفها...". ص 143.

من المهم الإشارة إلى لغة الكاتبة في هذه الرواية، حيث استخدمت لغة جميلة شاعرية وصفيّة تخللتها الكثير من الاستعارات خاصّة في وصفها للأماكن التي زارتها، على أنّ وصفها للقدس يبقى الأجمل والأصدق فنجدها تقول بعد عودتها من الرحلة:" نزلنا من الحافلة بالقرب من باب المدرسة الرشيدية، عانقا روحي ويديّ المنتظرتين، لحظات الفرح تخترق قلبي، تدقّ نوافذ العشق في حجراته، كلّ الأماكن والناس من حولي مبتهجة ضاحكة، باب الساهرة يمدّ يديه ويضحك للعائدة، والأسوار الشامخة تدغدغ العظمة في داخلي وتهلّل باسمة؛ فرحت لوجودي قبالتها، في لحظات التجلّي هذه، تخونني الكلمات فلا تأتيني، ولا أصدّق أنّي في القدس التي أحلم". ص 162.

ويتجلّى جمال القدس فيما وصفته عبير بطلة الرواية، التي عادت إليها بعد غياب خمسين سنة فتقول في إحدى رسائلها للكاتبة:"أبهرتني الأشياء والمباني العظيمة، أصارحك بأنني مندهشة مما أرى ومسحورة بهالة قدسيّة تظلّل الماشين والراكبين، الجالسين والواقفين، المؤمنين والمرابطين... أريد أن أبكي طويلًا على صدر الأسوار، أن أنثر دمع الحب على طرقات الحارات والعقبات، ما أحسست بأني أمشي، بل أحسست بأني أحلّق وأطير فوق الأقواس وأسطح البيوت.. شعرت بإكليل من الورد والفرح أحمله بين يديّ  وألبسه للأسوار". ص 165-166. وفي وصف مشاعرها عندما شاهدت المسجد الأقصى تقول:" نحن على عتبات المسجد الأقصى، الأبواب تفتح ذراعيها تغني فرحًا للعاشقين. تعرت مشاعري أمام حضرته القدسية، تلعثمت الكلمات في فمي فبكيت خشوعًا وطرت ابتهاجًا، أطلقت أعماقي زغاريد الاشتياق، قلبي يطير مع أسراب الحمام، ويحطّ من شجرة إلى مئذنة، ومن مسطبة إلى سبيل، ومن قوس إلى قبّة إلى أعشاش الحمام وتسابيح الطيور". ص 167.

ومن الاستعارات الجميلة ما نجده في الأمثلة التالية في وصف الكاتبة للطبيعة:" بعد ساعات من النوم العميق أقبل نسيم الفجر باسمًا، دخل إلى أنفاسي متأنّيًا، نادتني الشرفة بعد صلاة الفجر، فنهضت بلا تردد، لا أريد أن يفوتني ميلاد الصباح وانبعاث شمسه الآتية من خلف البحر لتشرق روح الحياة". ص 120.

:" بدت الشمس باهتة في وسط السماء، رسمت تفاصيلها فوق المسافات المطوية، ورحت أبحث في عينيها عن الملهمات، أخذت تطويني وتنبت في قلبي فرحا جديدًا". ص 123.

وفي وصفها لمدينة أم الرشراش تكتب:" ها أنا أراها من بعيد تستحمّ في بحرها الأبيض؛ تأخذ قرص الشمس على شواطئ الحبّ وتمضي به نحو جبال رمليّة". ص 124.

:" التحفت ضوء النهار لينير عتمة قلبي، رحت أمشي، وبدأ التاريخ بعظمته وشموخه يمشي معي". ص 124.

:" الحب والحنين يحملان رسائل شوق لا تنتهي، عروس البحر تغفو في بيوت المرجان العميقة، والأميرة النائمة في غابة عشقها، تصحو بين يدي العاشق؛ يحمل لها نور الشمس فتغفو على كتف الساحل بدلال". ص 126.

كما تخلّلت لغة الكاتبة ألفاظًا باللغة المحكيّة التي أضفت واقعيّة إلى الحوار الذي دار بين ركّاب الحافلة، وقد حفلت لغة الحوار ببعض الدعابة كما في المثال التالي:" يخي الله يسعدك دبّر للصبيّة محلّ، زوجي دايخ، وخايفة تيجي نوبة صرع وهو بعيد عنّي. صاح المسافرون: له له ألف سلامة عليك يا أبو زيد.

-حسبي الله ونعم الوكيل فيك يا مرة

- بالله عليك تهدأ، خفت عليك يا زلمة تصيبك الحالة وتوقع في نص الباص.

- شو شايفتيني مصروع، يخرب بيتك مرة نكديّة، تشتري الشرّ شرية، لا تصدقوها يا عالم أنا مش مصروع عليّ الطلاق. ص 102.

بقي أن نشير أنّ الكاتبة أدخلت في روايتها مواضيع عديدة  وقد بدا بعضها مقحمًا في السرد مما أعاق الانسيابية في سردها.

مبارك للكاتبة نزهة الرملاوي هذه الرواية الجميلة في مضمونها  ولغتها وأسلوبها السرديّ الحداثيّ.