• 25 تشرين الثاني 2022
  • ثقافيات

 

بقلم : نزهة الرملاوي

 

قراءة في رواية ( الأسير 1578) للأديب الأسير هيثم جابر، الصادرة عن المكتبة الشعبية ناشرون في نابلس فلسطين، الطبعة الأولى 2016، والصادرة عن مكتبة سمير منصور في غزة في العام 2022 في طبعتها الثانية.

رواية مفعمة بالقوّة والأمل، أضاءت الأماكن المقهورة بالتفاؤل، معتقلات تحمل الأسرى في بطونها سنين طويلة، وربما تكون عقودا أو بلا نهاية، فيكملون تكوينهم وتفاصيل ملامحهم في مقابر الأرقام، أسرى يقاومون ويتحدّون، يهرّبون النّطف النّقية، لزوجات عفيفات طاهرات، يتنفّسون الكتابة تحت قناديل الغياب.

 ( الأسير 1578) ذلك الرقم الصعب الذي لم تضعفه ظلمات السجن، صاحب الإرادة والقوة.. رقم أطلقته مصلحة السجون على الأسير الكاتب، فرافقه طوال فترة اعتقاله التي امتدت الى عشرين عاما ولا زال هناك يقاوم، حاله كحال الأسرى الذين تحوّلت أسماؤهم إلى أرقام، بهدف إقصاء كيانهم الإنساني، مع أنهم يتمتعون بأحاسيس عالية من المشاعر الانسانية، وإن باتوا في سجن ظالم ميّت الشعور، ويحملون في قلوبهم أملا وايمانا لا ينضبان.

تميزت الرواية بأنها توثيقية، فقد وثقت قصة بطل الرواية الأسير هيثم جابر الذي حمل هموم وطنه وشعبه واعتقل من أجل حريتهم، بطل لا يجيد التفكير أو التراجع عن مبادئه وصموده أمام القضاة والمحاكم.. فيصفهم دون خوف بالقتلة ومرتكبي الجرائم بحقّ الانسانية.

 امتازت عبارات الرواية بالأحاسيس المرهفة، والعواطف الجياشة، والأسلوب المتدفق بالسلاسة والعذوبة.. وكانت الأكثر تألقا في أدبيات السجون، لما فيها من صور فنية ولغة أدبية تؤكد ذلك، إضافة إلى المشاهد الغنية بالوصف الدقيق للحالة النفسية والثقة التي رافقت الأسير، رغم توقّف الزمن البليد في سجون القهر، حيث بدأت رحلته الجديدة التي لم يعتدها من قبل كما قال:

انه الاعتقال..

إنه السجن..هناك حيث يقهر الرجال، ويفترس القضبان أنفاس الصدور ، وتفترس الأعمار. ص 13

 بهذه اللغة المرنة المتألقة شرع الكاتب على تطويع لغة روايته فصدرت بانسيابية وجمالية.

تنقل الراوي الأسير ما بين حضن العائلة والبيت الدافئ ومعشوقة رافقته حتى حدود السماء، إلى عالم آخر من العذاب وقرارات تجبره التنقل بين زنازين السجن وظلمته.

ولّدت المعاناة داخل الكاتب عواطف مختلفة، كعاطفة الحب والشوق والحنين المتمثلة بينه وبين الحبيبة، وعاطفة الحزن والغضب والألم المتمثلة في المعتقل، وراح يصفها بدقة تقشعر لها الأبدان، فتبكي العيون من هول المصائب والجرائم المرتكبة بحق الأسرى هناك.

فقد وصف زنزانة العزل التي لا يتجاوز طولها عن مترين أو أكثر، وعرضها متر ونصف بالكاد تتسع لشخصين، ويصف (الكردل) الموجود في الغرفة "لقضاء الحاجة" وقد وصف لون مطليّ بلون الاسمنت القاتم وجدرانه خشنة، وبها ضوء أحمر خافت جدا"

من هنا ندرك صعوبة العيش بمكان ضيق خشن، لونه قاتم لا ضوء يخترق ظلمته ولا يليق بحياة الآدميين.

وكلما زادت الأيام والشهور بذلك المكان القاسي، تزداد الأمراض الباطنية والجلدية وامراض المفاصل والروماتيزم بسبب الرطوبة في أغلب الأحيان" ص52.

 في ساعات الكتابة والتأمل، راح الكاتب  يسأل نفسه:( أيحق لمن مثله ومكانه أن يحبّ؟ أيحق له في لحظات الحرب والثورة أن يكون له زوجه وبيت وأطفال؟ أيحق لمن مثله ومكانه أن يكون له قلب ينبض بالحب؟ أيحق لمن مثله في الأسر أن يحتضن حبيبه في لحظة حلم عابرة؟ تجيبه صدى هواجسه وتفكيره، وحدهم الثائرون يا سيدي من يمتلكون القلوب المرهفة، وحدهم الثائرون يا سيدي من يتقنون فنّ العشق، وحدهم الثائرون الذين يضغطون على الزناد يا سيدي، يتقنون فن قطف الورد من الخدود القرمزية، وحدهم الثائرون يا سيدي يتقنون زراعة القبلات فوق الشفاه الجائعة).

ما أعمق التساؤل، وما أجمل البوح بشفافية دون تكلف او تصنّع، بوح يأخذنا إلى عالم من النقاء رغم الألم والشقاء، عالم مختلف بنواتجه النفسية والاجتماعية على الأسرى القابعون في غياهب الأسر.

  يذكر الكاتب المحتل بالدّم المنساب ورفات اجداده المدفونة في الأرض التي سلبوها قائلا:  أحفر تحت بيتك الموجود الآن في أم خالد أو تل الربيع أو أم الرشراش أو غيرها من مدن بلادي التي استوليتم عليها بالقتل والإرهاب، أحفر هناك ستجد رائحة أجدادنا تفوح من تلك الأرض" ص246.

يعتبر الكاتب أن الكتابة شكل من أشكال استمرار المقاومة، ووسيلة من وسائل النضال والواجب الوطني، ويعتبر أداة فعالة يعبر الأسير من خلالها عن مشاعره وأحاسيسه، ومعاناته من الواقع الصعب الذي يعيشه، ويعتبر كذلك أن الفرحة داخل الأسر مقاومة.

 تنتمي الرواية إلى أدب السجون، أدب تجريبيّ واقعيّ صادق، يخوضه الكاتب الأسير بطريقة لافتة متميزة، ويشير إلى الصعوبات التي يتحملها الكتاب الأسرى لاقتناء الأدوات اللازمة للكتابة، والمدهش انهم خاضوا الإضرابات عن الطعام من أجل توفير القلم والكتاب والورقة، وهرّبوا ما أبدعت أفكارهم وأينعت إنجازاتهم، عبر الزيارات والمحامين، بعد أن أخفوها عن عيون السجانين المشتعلة بالحقد، وقلوبهم المتوسمة بالكراهية، وعقولهم المتفننة في خنق الأحلام ومصادرة الكلمات. والمدهش حقا أن النصوص حين تخرج الى النور، تخرج متميزة بأسلوبها وأفكارها.

وثّق الكاتب في روايته ما تعرض له منذ لحظة وصول المركبات إلى بيته، واخذه من عالمه ومن أمه التي كانت تتحضر لعرسه، الى المجهول، إلى غرف التحقيق والزنازين المعتمة وطرق التحقيق القاسية.

 رافقت الرواية أساليب متعددة كأسلوب الاسترجاع والتذكر، وتميزت بذكر المصطلحات المستعملة داخل المعتقلات، كالبرش والفورة، والبوسطة وغيرها، ووصف كذلك الحياة اليومية والأيام البليدة التي تمرّ على الأسرى، فقد وصف في روايته قدوم شهر رمضان والأعياد والمناسبات واثرها النفسي على الأسرى، كذلك وصفه لاهتماماتهم وتنظيف غرفهم وأبراشهم، وكيف يتفننون في خلق الفرح رغم الفقد، وفي عمل الكعك من الأشياء البسيطة التي يملكونها، وصف تطلعاتهم، وأعمالهم وقراءاتهم وكتاباتهم وتوجهاتهم وتمنياتهم في الأعياد، وحزنهم لحظة تلقيهم خبر وفاة أعزاء فارقوهم دون قبلة وداع.

 تميزت الرواية برسائل حبّ جميلة متبادلة بين الكاتب الأسير ومحبوبته التي حملت له قبسا من النور في آخر محطات الانتظار، فكانت الوجه المشرق على مشارف الحرية، وراحت رسائله تشيّد لها قصورا جميلة من الأحلام، وبروجا قوية من القصائد.

عيناك من قمر وشمس،

يثور الكحل فيها

فتشعل النفس. ص(24)

من المفارقات اللافتة في الرواية، أنها تبرز الوجه غير الإنساني للمحتل في المقابل تبين الجانب الإنساني والعاطفي للأسير الفلسطيني، الذي يؤكد في كتاباته أنه يعيش الحياة الإنسانية بكل تفاصيلها وإن كانت داخل المعتقل والزنازين الانفرادية، فيغدو الأسير أكثر إبداعا وثقافة وقوة.

والمفارقة الاخرى أنه بالرغم من فقد الأسير لأحبتة وأهله ومدينته وبيته، إلا أنه يعلمهم الأمل والصبر على وجع الغياب. وبالرغم من الذل والقهر في غرفة الاستجواب، الا أنه تنكر لأسئلة المحقق وتذكر الحبيبة، في لحظات الضغط يعيش تفاصيل العشق، فيكتب لها ما يعجز عن كتابته الأحرار، لذا نجد أن الرسائل المتبادلة بينه وبين الحبيبة، كانت الخيوط المحركة للمشاعر الجياشة، الباعثة للالهام والأحلام عبر أحداث الرواية وتسلسلها.

 

 يتذكر الكاتب صبر محبوبته على بعده، والعهد الذي قطعته على نفسها بأن تنتظره طوال سنوات العذاب، ويصف لحظات الضعف التي تمر بها الحبيبة، كسحابة صيف عابرة لن تدوم، ويضيف أن الشوق والحنين أحيانا يضعفنا، لكن وحدهم الأقوياء من يجتازون الصعاب، ويواجهون المحنه بالإيمان، لا يسمحون للضعف أن يتمكن منهم.

 لله درّك أيها الحرّ، نبدو نقطة ماء أمام بحر عزيمتك وإصرارك، حرفا متأملا أمام رسائلك المتوّجة بالتحدي والأمل.. طوبى للمبدعين الذين يصنعون من حياة القهر حياة ابتهاج، رغم قسوة التيار وانجراف العدالة.