• 6 كانون أول 2022
  • ثقافيات

 

القدس - أخبار البلد -  ويستمر الاستاذ الدكتور زيدان كفافي بخواطره الاثرية البحثية الرائعة حيث يتحفنا في كل مرة من جديد بالمعلومة المفيدة والبحث الشيق باسلوب مشوق ، ويسعدنا في ” أخبار البلد“ المقدسية ان نستمر بنشر هذه الخواطر الاثرية الرائعة والمفيدة

بقلم : أ.د. زيدان كفافي

 

دعيت في عام 2014م  للمشاركة في أعمال  المؤتمر الدولي تحت عنوان: "علاقات مصر مع دول البحر التوسط عبر العصور"، وقدمت فيه بحثاً عنوانه: " علاقات مصر التجارية مع جنوبي بلاد الشام خلال الألف الرابع والنصف الأول من الألف الثالث قبل الميلاد“.

ونظراً لأهمية الموضوع قررت أن أستل منه خاطرتنا هذه. وسنحاول أن تشمل المعومات أدناه جميع الأقطار المجاورة لبلاد الشام بشكل عام، والأردن بشكل خاص ، وهي مصر ووادي الرافدين. والعلاقات التجارية لا تعني فقط تبادل البضائع، وإنما بناء شبكة طرق ومحطات تجارية، وسن القوانين والتشريعات، وتبادل الأفكار ونقلھا بین الناس. 

من الجدير بالذكر أن موضوع علاقات بلاد الشام التجارية  مع الدول المجاورة وخاصة مع مصر لقي ويلقى اھتماماً كبیراً من مجموعة من الباحثين.  والسؤال الآن متى قامت أول رحلة أو قافلة تجارية بين الأردن ومصر بشكل خاص؟ 

يرى بعض العلماء أنھا كانت خلال المرحلة الثانیة من العصر البرونزي المبكر أي في الفترة بین حوالي ٣١٠٠ - ٢٨٠٠ ق.م ، أي بعد تأسيس الأسرات ، الدولة القديمة في مصر.  لكننا نعتقد أنها كانت أقدم من ذلك، فمثلاً معرفة الزراعة في مصر بدأت خلال الألف السادس قبل الميلاد (الفيوم)، بينما في بلاد الشام في الألف التاسع قبل الميلاد،. من هنا نزعم أن معرفة الزراعة دخلت إلى مصر عن طريق جنوبي بلاد الشام عن طريق تحركات بشرية وليست تجارية.

 لكن  نراهن أن التجارة بدأت خلال النصف الأول من الألف الرابع قبل المیلاد إعتماداً على نتائج الحفریات الأثریة الأخیرة التي جرت في جنوبي الأردن، خاصة في موقعي المقص وحجیرة الغزلان بالقرب من مدینة العقبة في الأردن  التي أجرتها الجامعة الأردنية ممثلة بالأستاذ الدكتور لطفي خليل بالتعاون مع معهد الآثار الألماني ببرلين ممثلاً بالأستاذ الدكتور ريكاردو أيشمان (Ricardo Eichmann). إذ كشفت الحفریات التي جرت في موقع حجیرات الغزلان ، الذي یؤرخ للمرحلة الانتقالیة بین العصرین الحجري النحاسي والبرونزي الأول، أي النصف الأول من الألف الرابع قبل المیلاد، النقاب عن قوالب لصب النحاس وأواني فخاریة وأدوات صوانیة وجد ما یماثلھا في موقعي المعادي والفراعین في مصر من نفس الفترة ، كما يظهر في الصورة أدناه.ة

نود أن نشير أن تحرك البضائع يعني تنقل الأشخاص وربما المجموعات البشرية. تشكلت البضائع من القطع المعدنية وزيت  الزيتون والخمور(بلاد الشام/الأردن)  ، والرخامية (مصر)، والأختام الاسطوانية المسطحة (وادي الرافدين /ميزوبوتاميا).  وفي العادة فإن تصدير السؤال يحتاج لتعبئيه داخل جرار ، فعثر على أواني  فخارية مصنوعة في مصر  وأخرى في بلاد الشام في كلا البلدين، مثل تلك التي عثر عليها في مواقع باب الذراع (لسان البحر الميت)، وخربة البتراوي (الزرقاء)، وخربة الزيرقون (إربد)، وتل أبو الخرز (الأغوار الشمالية)، وفي  موقعي الشيخ أحمد العريني،  وعراد في فلسطين، وفي عدد من المقابر في  خاصة في منطقة مصر السفلى وجميعها تعود للفترة بين حوالي 3500 – 2800 قبل الميلاد).  وجاءت بعض الجرار تحمل على سطحها الخارجي تحزيزاً  يمثل علامة "السيرخ" والتي تخص الفرعون المصري "نعرمر"  مؤسس الأسرة  الأولى في الدولة القديمة في مصر.

أما البضائع المستوردة من مصر فكانت على الأغلب  رؤوس هراوات (دبسات/قناوي= قنوات)، تمائم حجرية، صحون حجرية/رخامية لطحن مساحيق التجميل.  رأى بعض الباحثين  أن وجود مثل هذه البضائع المتبادلة  دليل على أن المنطقة وقعت تحت السيطرة المصرية خلال  الفترة بين حوالي 3500 و 2500 قبل الميلاد،  لكننا نرى  أن تبادل البضائع يدل على  التبادل التجاري.

تغيرت الأحوال في حوالي 3000 قبل الميلاد، إذ وحّد  نعرمر/مينا الوجهين القبلي والبحري في دولة واحدة، كما شهدت منطقة جنوبي بلاد الشام تأسيس المدن  الأولى، مثل، خربة الزيرقون، والبتراوي وباب الذراع في حوالي 2900/2800 قبل الميلاد.  وشهدت الفترة بين حوالي 2800 – 2400/2300 قبل الميلاد تراجغاً في التبادل التجاري. وربما يكون السبب في هذا أن  الفراعنة وبعد تأسيس الدولة القديمة  حاولوا احتلال المنطقة عسكرياً بدلالة صلاية نعرمر، فجردوا عدة حملات عسكرية  للسيطرة على مناجم النحاس في وادي عربة ، مما جعل الطريق التجاري غير آمن. كذلك يظهر أن الفراعنة قد وجهوا أنظارهم  خلال  هذه المرحلة على منطقة  ساحل البحر المتوسط ، بخاصة لبنان من أجل الحصول على خشب الأرز، والخمور، وزيت الزيتون  والمنتجات الزراعية الأخرى، فأصبح ميناء بيبلوس (جبيل) تحت سيطرة الفراعنة.

 هكذا كان الوضع التجاري  بين الأردن ومصر خلال الفترة بين حوالي 3500 – 2400 قبل الميلاد، لكن كيف كانت العلاقات التجارية مع بلاد وادي الرافدين/ ميزوبوتاميا؟  عثر في عدد من المواقع الأردنية المؤرخة للفترة بين حوالي 2800 – 2400/2300 قبل الميلاد (العصر البرونزي المبكر الثالث) على عدد من طبعات الأختام المسطحة والأسطوانية ، والدمى الحيوانية الصلصالية  أصولها رافدية. ويعتقد بعض الباحثين أمن معظم الأختام المسطحة كانت تصنع من الخشب بسبب أنها كانت تضغط على سطوح الجرار الفخارية قبل جفاف عجينتها فتركت حواف واضحة لها.

وأما بالنسبة للطرق التجارية التي كانت تربط بلاد الشام مع مصر فكان هناك طريقين رئيسيين، الأول ساحلي (عن طريق البحر Via Maris)  ويبدأ من شرقي مصر مروراً بمواقع تل السكن وتل العجول  في قطاع غزة، ويتجه شمالاً إلى يافا وقيسارية ودور، بعدها ينحرف شرقاً إلى وادي عاره حيث مواقع تل المتسلم في سهل مرج إبن عامر. بعدها يتفرع إلى فرعين ، هما:

الأول: إلى وادي جالود في فلسطين ومن ثم يدخل إلى وادي اليرموك في الأردن (حيث موقع المقارن).

الثاني:  يسير بمحاذاة الشاطئ الغربي لبحيرة طبرية ومن ثم إلى شمالي بلاد الشام. كما أننا نستطیع الافتراض أن ھناك طریقاً فرعي آخر یبدأ من تل المتسلم باتجاه وادي الفارعة الشمالیة، وبعد أن یعبر الوادي یقطع نھر الأردن حتى یدخل وادي الزرقاء إلى شرقي النھر.

وأما الطريق البري  فهو يبدأ بمنطقة دلتا مصر باتجاه وادي غزة  مروراً بوادي السبع ومن ثم إلى وادي عربه، خاصة إلى منطقة وادي فينان حيث خامات النحاس، كما أن هناك دراسات تبحث في إمكانية وجود طريق  بري ربط بين جنوبي الأردن ومصر عن طريق وادي العريش.

خاتمة القول  ارتبطت  الأردن بشكل خاص، وبلاد الشام بعلاقات تجارية قوية ابتداء من الألف الرابع قبل الميلاد وحتى الوقت الحاضر، وتبادل الناس أصنافاً متعددة من البضائع، وصاحب انتقال البضائع انتقال الأفكار والمعتقدات، وتجلى هذه الأمر  كل وضوح في الفترات اللاحقة  للعصور البرونزية. وتعدُّ المواقع الأثرية هي مستودعات القطع الأثرية الدالة على هذا التبادل والتواصل التجاري والحضاري.  من هنا نناشد بضرورة المحافظة على هذه المواقع الأثرية وحمايتها من عبث العابثين، ولا يكون هذا إلاّ بوعي الناس بأهمية هذا التراث. والله من وراء القصد.

مراجع للقراءة:

كفافي، زيدان 2014؛  علاقات مصر التجارية مع جنوبي بلاد الشام خلال الألف الرابع والنصف الأول من الألف الثالث قبل الميلاد. الصفحات  106 - 128 في أعمال المؤتمر الدولي الأول "مصر ودول البحر المتوسط عبر العصور" 15 - 18 أكتوبر 2014، كلية الآثار - جامعة القاهرة  تحرير جمعة عبد المقصود ومحمد حمزة. القاهرة: جامعة القاهرة. 

Eichmann, R. et al. 2009; Excavations at Tall Ḥujayrāt al-Ghuzlān ('Aqaba/Jordan). Excavations 1998-2005 and Stratigraphy. Pp. 17-79 in L. Khalil and K. Schmidt (eds.); Prehistoric 'Aqaba I. Orient-Archäologie 23. Rahden/Westf.: Verlag Marie Leidorf GmbH.

Kafafi, Z. 2011; Jordan-Egyptian Interaction during the Third Millennium B.C.E. as Evidenced by the Abydos Ware. Pp. 139- 153 in M. S. Chesson, W. Aufrecht and I. Kuijt (eds.), Daily Life, Materiality and Complexity in Early Urban Communities of the Southern Levant. Papers in Honor of Walter E. Rast and R. Thomas Schaub. Winona Lake: Eisenbraun.

De Mirschodji, P. 2002; The Socio-Political Dynamics of Egyptian Canaanite Interaction in the Early Bronze Age. Pp. 39-57 in E.C.M. van den Brink and T.E. Levy (eds.), Egypt and the Levant. Interactions from the  4th through the Early 3rd Millennium B.C.E. London/New York: Leicester University Press.

Sowada, K. N. 2009; Egypt in the Eastern Mediterranean during the Old Kingdom. An Archaeological Perspective. Orbis Biblicus et Orientalis 237. Fribourg: Academic Press Fribourg