• 31 كانون الثاني 2023
  • ثقافيات

 

 

بقلم : الدكتور زيدان كفافي

 

كان ذاك اليوم في الفصل الأول من العام الدراسي 1968/1969 حين أعلن أستاذنا المرحوم الدكتور فوزي الفخراني مدرس مساق "تاريخ اليونان والرومان"، أنه قرر لنا طلبة  السنة الثانية من قسم التاريخ والآثار في الجامعة الأردنية، وكان عددنا 44 طالباً وطالبة  رحلة لزيارة  مدينة جرش الرومية.  حضرت الحافلة التي ستقلنا إلى المدينة، التي لم أكن قد زرتها قبلاً، واندفعنا إلى داخله مسرعين ومتلهفين لرؤية آثارها العظيمة. وأذكر فيما أذكر أننا كنا مجموعة من بين الأربع وألربعين طالباً قد شكلنا شلة واحدة (يوسف سعسع، محمد رضوان كرجغلي، يوسف صالح حمد، زيدان كفافي ، فاطمة عليان وهالة كوع)، وانضمت للشلة زائرة اسمها كلوديا صديقة لفاطمة عليان.  

انطلق الباص من الجامعة الأردنية  إلى صويلح ومنها إلى جرش عبر طريق رئيسي باتجاهين لا تفصلهما جزيرة حتى وصلنا إلى "قوس هدريان" في يوم 2/ 1/ 1969م. نزلنا من الباص الواحد تلو الآخر ننظر إلى هذا القوس الذي نصب تكريماً لهذا الامبراطور الرومي  في عام 129/130 م، وكانت دائرة الآثار العامة الأردنية قد بدأت ترميم ما تهدم من هذا الصرح باشراف المرحوم المهندس يوسف العلمي وقد تمم العمل السيد عبدالمجيد مجلي. 

كان أول الأسئلة التي وجهت للدكتور الفخراني من أين جاءت تسمية المدينة بهذا الاسم؟ فأجاب:

لا نستطيع أن نحدد بالضبط الزمن الذي تحولت فيه جرش ن قرية صغيرة إلى مدينة هلنستية (332 -63 قبل الميلاد)، لكن الكتابات  أشارت على أنها سميت باسم "انطاكية على نهر الذهب Antioch on the Chrysorhoas". ومن المعلوم أن جرش بنيت حول عين القيروان والتي تصب مياهها في وادي جرش الذي يصب في وادي الزرقاء. كذلك فإن اسم “Antioch” هو نسبة لاسم الامبراطور السلوقي "أنتيوخوس"، وذلك لأن السلوقيين كانوا يسمون مدنهم بأسماء ملوكهم. أما خلال الفترة الرومية (حوالي 63 قبل الميلاد – 324 ميلادي) انضمت المدينة لتحالف مدن الديكابوليس وأصبحت تسمى "جراسا Gerasa".

لكن ماذا عن الإسم جرش؟ ذكرت كتابة نبطية في البترا الإسم "جرش أو جرشو"، مما يدل على أنها سكنت من قبل مجموعة سامية في يوم من الأيام. (التاريخ غير معروف) ويعتقد أن هذه المجموعة أقامت في الكهوف الموجودة بالقرب من معبد زيوس في المدينة والذي أقيم على أنقاض معبد مكرس للإله السامي "بعل- شمين". كما وتذكر عايده نغوي أن مدينة جرش ضربت مسكوكات برونزية خاصة بها كتب عليها اسمها باللغة اليونانية (جراسون)، كذلك فلوساً برونزية ونحاسية بالفترة الأموية عليها الإسم (جرش).

ويظهر أن جرش كانت على علاقة طيبة مع الأنباط خلال القرنين الأول والثاني الميلاديين، ويظهر أن واحد من  الجنود الروم الذي خدم في الجيش النبطي  قدم تمثالاً للنصر بلغ ثمنه 3000 آلاف دراخما  نصب في عهد الامبراطور الرومي "دوميتيان 81- 96م"، كما يدل على ذلك النقش اليوناني المنقوش على صفحة الجدار تحت الصف الأدنى للمقاعد من الغرب.  لكن هذا لا يعني أن المدينة لم تتأثر بالروم، بل على العكس وخلال القرن الأول الميلادي بنيت المدينة حسب تخطيط المدن اليونانية/الرومية، أي شارع رئيسي (Cardo) بنيت حوله الحوانيت، ويتقاطع معه شارعين فرعيين (Documanus) وبوابات (Tetrapylon) كما بني سور المدينة ومعبد زيوس ومعبد ارتميس والمدرج الجنوبي. ومع ازدهار تجارة المدينة في القرن الثاني الميلادي، تم إعادة بناء بعض المعالم المعمارية في المدينة مثل البوابة الشمالية، وبناء الحمّامين الشرقي والغربي فوصلت قمة عظمتها في مطلع القرن الثالث الميلادي.

وبعد أن أصبحت المسيحية هي الدين الرسمي للدولة، دخل أهل جرش في هذه الديانة ، فبنوا الكنائس والكاتدرائية ، كما شارك مطرانها في مجمع سلوقيا عام 359 ميلادي ، ومجمع خلقيدونيا عام 451 ميلادي.

ويظهر أن المدينة مرت بظروف صعبة خلال القرن الخامس الميلادي مما أدى إلى هجرانها بشكل تدريجي، ثم تعرضت للغزو الفارسي في القرن السادس، بعدها وبعد معركة اليرموك في عام 636 ميلادي دخلت تحت الحكم الإسلامي.  وقد عثرت السيدة عايدة نغوي على مسجد يعود للفترة الأموية. ومن الجدير ذكره أن المدينة تعرضت لعدد من الهزات الأرضية أدت إلى تدمير بعض من مبانيها. وقدم عدد من  الجغرافيين والمؤرخين المسلمين من أمثال ياقوت. وفي عام 1878م أرسل العثمانيون جالية شركسية للسكنى فيها.

نعود للحديث عن زيارتنا للمدينة، تركنا قوس النصر خلفنا لنصل إلى حلبة السباق (Hippodrome)  ولآول مرة أرى ساحة بيضاوية الشكل يبلغ طولها حوالي 261متراً ونصف وعرضها حوالي 76 متراً وقد تم بنائها في أواخر القرن الثاني الميلادي. بعدها وصلنا للبوابة الجنوبية  ذات الممرات الثلاث  ومشينا منها إلى الساحة العامة البيضوية الشكل (Forum)تحف بها الأعمدة ذوات التيجان الأيونية من جميع الجهات. ويطل على هذه الساحة من جهتها الجنوبية الغربية معبد زيوس والمدرج الجنوبي.  وقررنا أن نسير في الشارع الرئيسي المبلط، ونظرنا إلى أسفل أرجلنا فرأينا آثار عجلات العربات، وكذلك قنوات مياه الصرف الصحي، حتى وصلنا المصلبة الجنوبية  التي تتكون من أربع قواعد بنيت في سوق دائري الشكل، وكل قاعدة تحمل أربعة أعمدة.                     

    المتمعن بالنظر للصور الأربع أعلاه (للفورم وشارع الأعمدة) يرى كمية الطمم الذي تراكم عبر السنوات في المعالم الأثرية في مدينة جرش الأثرية، لكن من أزال هذا الطمم؟ والجواب أن الذي قام بهذه العملية هو سلاح الهندسة الملكي في عام 1956م.

تركنا المصلبة الجنوبية خلفنا حتى وصلنا إلى الكاتدرائية وفي محاذاتها يقوم سبيل الحوريات (Nymphaeum)الذي بني عام 191 م. بعدها ارتقينا الدرج على يسار الشارع حتى وصلنا إلى معبد آرتميس ومنه إلى المدرج الشمالي، وبعده إلى المصلبة الشمالية  والبوابة الشمالية. كما لم يسمح لنا الوقت بزيارة البركتين.

يعتقد الباحثون أن الكاتدرائية قد بنيت مكان بناء معبد وثني بني قبلها وكان مكرساً للإله "ديونيسوس" إله الخمر، ومخطط البناء عبارة عن بازيليكا وكون من ثلاثة أروقة. وإضافة للكاتدرائية هناك عدد كبير من الكنائس في جرش بعد دخول المسيحية إليها، نذكر منها: كنيسة القديس ثيودوروس ، مجموعة كنيسة القديس يوحنا المعمدان، وكنيسة القديس جينيسيوسن ، كنيسة القديس بطرس وبولس، كنيسة الأنبياء والرسل والشهداء وكنيسة بروكوبيوس. هذ العدد الكبير من الكنائس يدل دلالةة واضحة أن أن مدينة جرش كانت ذات أهمية كبرى خلال الفترة البيزنطية. 

ما قدمناه أعلاه حول آثار جرش يعدُّ بسيطاً جداً، لكن من يريد التوسع بالمعرفة يمكنه الرجوع للمراجع المذكورة أدناه. لكن أعود لعلاقتي مع المدينة.

عملت في الفترة بين 1972-1977 أميناً لمتحف آثار الجامعة الأردنية، وشاء حسن الحظ أن يكون من بين المبتعثين العائدين للعمل في الجامعة الأردنية بعد حصولهم على  درجة الدكتوراة، الدكتور عاصم البرغوثي الحاصل على الدكتوراة في الآثار الكلاسيكية من جامعة بنسلفانيا بأمريكا. قرر الدكتور البرغوثي أن يقوم في عام 1975م بالتنقيب في مدينة جرش ، تبعه فصول أخرى ، وبالطبع شاركت معه  في الموسم 1976 أيضاً. وهنا تشكلت بيني وبين جرش علاقة صداقة قوية لم تنفصم حتى الحاضر. 

تشكلت بين أعضاء فريق التنقيب والعاملين من أبناء المجتمع المحلي صداقة قوية، وبهذه المناسبة أسمح لنفسي أن أذكر شخصاً من بلدة "دير الليات" اسمه "حسين"، إذ كان يردد على مسامعنا جملة هي "إشتي علينا يا رب".

عاد الدكتور عاصم للتنقيب في جرش في السنوات اللاحقة، لكن لم يتسنى لي المشاركة في الحفرية بسبب سفري بتاريخ 6/ 10/ 1977م إلى المانيا لاستكمال درجة الدكتوراة.  لكن جرش بقيت ساكنه في الفكر. 

ولم يتوقف التنقيب في جرش عبر العقود الماضية، بل استمرت البعثات الوطنية من دائرة الآثار والجامعة الأردنية، والبعثات الدولية من عدة أقطار أوروبية وخاصة من فرنسا تعمل في الموقع حتى الآن. وكشفت لنا هذه الحفريات التي أجرتها البعثات الوطنية والدولية عن معلومات جديدة حول تاريخ هذه المدينة المسكونة من العصور البرونزية وحتى الحاضر  أسهمت في فهم وإضافة لتاريخ الأردن.

وشاءت الأقدار أن موضوع رسالتي للدكتوراة كان حول "الأردن في العصر الحجري الجديث"، وحيث أن ديانا كيركبرايد كشفت النقاب خلال خمسينيات القرن الفائت عن موقع "أبو الصوان " من هذه الفترة، أصبح لزاماً علي زيارة هذا الموقع الذي لا يبعد كثيراً عن قوس هدريان. لذا ، قمت وآخرون من فريق مسح عين غزال بزيارة للموقع عام 1987م.  ومن حسن المصادفة أن الأستاذ الدكتورة ميسون النهار من الجامعة الأردنية تقوم بالتنقيب في الموقع منذ سنوات وكشفت النقاب عن آثار نيوليثية غاية في الأهمية، أهمها مباني لا مثيل لها إلاّ في بلاد الأناضول.

وأما المنطقة المحيطة بجرش، فقد عملت في عام 1985م في موقع جبل أبو الثواب الواقع على الطريق بين صويلح وجرش، وكان أحد الطلبة من  عائلة العتوم من بلدة "سوف" يدرس في جامعة اليرموك، وأعلمني بوجود موقع أثري في موقع بالقرب من البلدة يسمى "ظهرة المدينة".  وبناء عليه وفي هذا العام قام الفريق العامل في أبو الثواب بإجراء تنقيبات  تجريبية في الموقع وكشف النقاب عن بقايا من العصور البرونزية المتوسطو والمتأخرة والعصر الحديدي والهيللنستي.

مراجع للقراءة لمن يرغب:

صفر، زاهده  (دون تاريخ)؛ جرش. عمّان: دائرة الآثار العامة.

هاردنج، لانكستر  2009؛ آثار الأردن.  تعريب سليمان الموسى. الطبعة الخامسة. عمّان: دار ورد الأردنية للنشر والتوزيع.

Browning, Iain 1982; Jerash and the Decapolis. London: Chatto & Windus Ltd.

Kraeling, Carl H. 1938; Gerasa, City of the Decapolis. New Haven:American Schools of Oriental Research.

Lichtenberger, Achim and Raja, Robina (eds.) 2017; Gerasa/Jerash from the Urban Periphery. Aarhus, Denmark: Fællestrykkeriert.

Zaydine, Fawzi (ed.)1986; Jerash Archaeological Project 1981-1983. Amman: Department of Antiquities of Jordan.