• 14 شباط 2023
  • ثقافيات

بقلم : محمود شقير 

بعد 45 عامًا على رحيله أعيد نشر هذه المقالة عن الأديب محمد أديب العامري التي نشرت حينها في صحيفة الرأي 

أعترف أنني لا أجيد الكتابة في المناسبات، وأعترف أن المناسبات الحزينة تجعلني أكثر عجزًا عن الكتابة.  لكنّ موت العامري وهو يؤدّي خدمة لحركتنا الأدبية دفعني إلى الكتابة اعترافًا بالدور الكبير الذي لعبه الرجل في رابطة الكتاب الأردنيين والحركة الأدبية عمومًا، وإقرارًا بواقع الخسارة الأكيدة التي نتجت عن رحيل هذا المفكر الإنسان.

 حينما كنت أقرأ للعامري قبل سنوات طويلة في مجلة الأديب اللبنانية شعرت بأنني أمام واحد من كتابنا المخلصين لشرف  الكلمة ونقائها. وحينما أتيح لي أن أقرأ في وقت لاحق مجموعته القصصية "شعاع النور" التي جمع فيها بين القصة الموضوعة والقصة المترجمة، أحسست بالإكبار العميق لهذا الكاتب الذي تعرف على المنهج الواقعي في وقت مبكر، فراح يستند إليه في كتاباته الإبداعية، وفي ترجمة بعض أعمال ممثلي هذا المنهج من أمثال مكسيم غوركي وآخرين.

 ثم حينما تعرفت على العامري من خلال عملنا المشترك في رابطة الكتّاب أيقنت أنني أمام إنسان لا ينفصل فكره النظري عن سلوكه العملي، بل إن سلوكه يشكل امتدادًا منطقيًّا لفكره من دون تكلف أو تظاهر أو افتعال.   قبل أن أتعرف على العامري شخصيًّا كنت أسمع من بعض الزملاء في رابطة الكتاب أن هذا الرجل يولي الرابطة عناية كبيرة، وهو من  المتعاطين معها من زاوية أنها الموقع الذي لا بدّ منه لرعاية الأدباء ولتطوير الحركة الأدبية واغنائها.

 ثم تأكدتُ من صدق هذا التعاطف وجدّيته حينما جاء العامري إلى رئاسة الرابطة، فقد كان مثلًا نادرًا على الانضباطية والنزاهة والديمقراطية والإخلاص. وكان يؤكد دومًا على أنه لا يطيق أن تناط به مهمّة فلا ينجزها على خير وجه، ولهذا ظل مثابرًا على خدمة الرابطة وأعضاء هيئتها العامّة من دون تمييز، وظلّ كذلك حتى مات وهو يكافح من أجل توطيد مكانة الحركة الأدبية في الأردن، وتوطيد صلاتها مع مختلف الروابط الأدبية الصديقة عربيًّا وعالميًّا.

 وكان العامري في قيادته لنشاط الرابطة اليومي يقدّم الدليل الحي على صدق نزعته الديمقراطية، واحترامه آراء الآخرين مهما كان اختلافهم معه واسعًا، فلم يحدث أن فرض رأيًا على أحد، وكان دومًا يعمد إلى أسلوب النقاش الموضوعي الهادئ، يحاور، ويصغي، ثم يصمت مفكرًا، ويقرّر موقفه بعد الرجوع إلى الفريق الذي يعمل معه، فيخرج القرار متزنًا عقلانيًّا مقنعًا، نظرًا لاستناده إلى روح الفريق واعتماده على التفاعل الجماعي للآراء.

 وبقدر ما كان العامري يؤمن بالديمقراطية ويحترم آراء الآخرين، فقد كان يكره الثرثرة الفارغة، ويلتزم بالانضباط والحزم في معالجة الأمور. كان حريصًا على الوقت شديدَ الإيجاز حينما يتكلم، قادرًا على إيضاح أفكاره من دون لبس أو إبهام، وكان يعلّق أحيانًا وابتسامة مشفقة ترتسم على شفتيه: "في عالمنا العربي لا يحترمون الوقت، ولذلك تطول اجتماعاتهم من دون فائدة تذكر".

  ولم يترك العامري جهدًا إلا بذله من أجل توطيد مكانة الأديب الأردني ورفع شأنه. كانت لديه قناعة راسخة بأن رابطة الكتاب هي من أهم المؤسسات التي يجب أن تُصان في هذا البلد باعتبار الفكر والأدب من أهم الركائز التي تستند إليها الأمم في رقيها ونهضتها، ولهذا السبب كان العامري مستعدًا لأداء أيّة مهمة توكل إليه خدمة لرابطة الكتاب وأعضائها. وما موته الذي ارتدى طابع الاستشهاد من أجل خدمة الحركة الأدبية في الأردن إلا تعبيرًا صادقًا عن قناعات العامري وصدق التزامه بهذه القناعات. 

بقي أن أشير إلى قضية مهمّة في فكر العامري وحياته معًا؛ وهي أن المنهج العلمي الذي آمن به العامري واتّخذه مرشدًا له على كل صعيد، إنما هو الأساس في كلّ السمات العظيمة التي كان يتحلّى بها والتي أشرنا إلى بعضها آنفًا. 

 وبقي أيضًا أن أقول إنّ رابطة الكتاب قد خسرت الشيء الكثير بعد رحيل العامري، كما أن حركتنا الأدبية قد مُنيت بخسارة فادحة هي الأخرى، ولكن ما يعوض هذه الخسارة هو استيعاب الدروس التي تركها العامري من خلال فكره وسلوكه، والسير على خطاه تكريمًا لذكراه، وخدمة للشعب الذي آمن به وللوطن الذي أحبّه*.