• 26 آذار 2023
  • ثقافيات

 

بقلم : محمود شقير

 

نشر الناقد الدكتور إبراهيم خليل مقالة في الدستور الثقافي بتاريخ 17/ 03/2023 حول كتابي الموسوم ب "أنا والكتابة...من ألف باء اللغة إلى بحر الكلمات" وأثار من حوله عددًا من التساؤلات، وعبّر من خلال مقالته عن استيائه لأنني تجاهلت ذكر قاصين مشهود لهم بالتميز؛ رشاد أبو شاور، خليل السواحري، ومحمود الريماوي. 

      وأرجو أن يخف استياء الدكتور حين يعلم أن كتابي المنوّه عنه لم يكن تأريخًا للقصة القصيرة في الأردن وفلسطين، ولم أكن أفكر وأنا أكتب هذا الكتاب أن أتجاهل أيّ أحد من الزملاء، فقد كنت أدوّن اجتهاداتي حول تجربتي في الكتابة، وحين يرد ذكر كاتب مثل زكريا تامر أو عدي مدانات، فإن ذلك لا يجري من باب التحيز أو المحاباة.

     وما دمنا بصدد الأسماء، فقد عبّر الناقد عن استغرابه كيف أنني ذكرت أسماء بعض العائدين إلى فلسطين من جراء اتفاق أوسلو لأنهم كتبوا كتبًا عن هذه العودة وما رافقها من انطباعات، لكنني لم أذكر آخرين كانت لهم كتب مشابهة. والصحيح أنني كنت معنيًّا بالتحدّث عن كتب العائدين، وليس عن أي كتاب جرى تأليفه خارج هذا السياق، من دون أن يعني ذلك أنني أقلّل من مكانة أيّ كتاب لأيّ زميل.

     واستطرادًا مع مسلسل الأسماء، فقد لاحظت نوعًا من التعالي لدى الدكتور إبراهيم، أثناء الحديث عن كتابي القصصي "احتمالات طفيفة"، فلم يذكر اسم الناقد والمثقف المرموق حسن خضر، ولم يوافق على منحه لقب الناقد، وإنما اكتفى بالقول: من أسميتَه ناقدًا، وجعل إشارتي إلى ما كتبه أ. حسن خضر عن النسق الروائي في الكتاب، إشارة ساذجة، مؤكدًا على هذه السذاجة بذكر تجارب سابقة على ما ذكره أ. حسن، ممثلة ب "مراعي السماء" لجون شتاينبك، و "سداسية الأيام الستة" لإميل حبيبي، و "مقهى الباشورة" لخليل السواحري. 

     هنا يمكن أن ترتد السذاجة إلى الدكتور وعليه، ذلك أن حسن خضر لم يقل إن ما فعلته لم تأت بمثله الأوائل، وكانت له علاقة محددة بالكتابة القصصية القصيرة جدًا، وضرب مثلًا على ذلك رواية "حرير" للكاتب الإيطالي إليساندرو باريكو "حيث المشاهد المكثفة التي تفضي بمجموعها إلى رواية تقع في 128صفحة من الحجم المتوسط في ترجمتها العربية".

2

وما دمت قد ذكرت "مقهى الباشورة" في هذا السياق، فإنني أعود إلى تذكير الدكتور إبراهيم خليل بذلك الخطأ الذي وقع فيه من دون أن يسعى صراحة إلى التراجع عنه، وإنني أستغرب كيف نسي الدكتور أو تناسى أن قصص مجموعتي  الأولى "خبز الآخرين" صدرت عام 1975 متأخّرة عن زمن صدورها الفعلي عشر سنوات، وهي بذلك أسبق من قصص "مقهى الباشورة". 

     فقد نشر الدكتور إبراهيم مقالة نقدية في الدستور أوائل ثمانينيات القرن العشرين أكد فيها أن قصص "خبز الآخرين" متأثرة بقصص "مقهى الباشورة"، وراح يعدّد أشكال هذا التأثّر وتجلياته. وكنت كتبت في حينه ردًّا على مقالة الدكتور نشرتْه الدستور، وفيه تساؤل عن الكيفية العجيبة التي تجعل قصص "خبز الآخرين" التي كُتبت ونُشرت في مجلة "الأفق الجديد" المقدسية قبل هزيمة حزيران 1967، متأثّرة بقصص لم تكتب إلا بعد هزيمة حزيران 1967؟! فلم يردّ الدكتور على تساؤلي وأظنّه لن يردّ الآن.

3

وحين كتب الدكتور إبراهيم خليل مقالة جيدة عن روايتي "مديح لنساء العائلة" فإنني أتفهّم بذله جهودًا مضنية مع الروائية ليلى الأطرش التي هاتفته بعد أن قرأت مقالته لكي تقنعه بأن "مديح..." ليست رواية بل سيرة ذاتية، وقال إنه لم يفلح في إقناعها بتغيير رأيها. لكنّني أطمئنه إلى أن جهوده لم تذهب عبثًا، فقد وصلتني رسالة من ليلى تشير فيها إلى ما يلي: "بدا مديحك لنساء العائلة يطوّح بي في صفحاته الأولى، وجدته مثقلا بفيض من الأسماء حيرني، ثم بدأ المديح ينساب جدولا عذباً يخترق غابات يانعة من الخصوصية التي تكمل حياة عشيرة العبد اللات، وهي تغرس جذورها في حياة حديثة، وتتواءم معها. كم بدا ساحراً ذاك السرد الشفيف في رسائل عطوان لوالده منّان! وكم ضحكت معك لألف حمل سلام! مبروك وننتظر جزءها الثالث". 

     أما المشكلة اللافتة للانتباه فهي أن الدكتور هو الذي غيّر رأيه بعد سنوات من حواره على الهاتف مع ليلى، إذ ورد في مقالته الأخيرة أنني كتبت ثلاث روايات؛ من بينها بالطبع مديح لنساء العائلة، هي في الأصل سير ذاتية بأقنعة روائية. ثم يشير إلى أنني والروائي إبراهيم نصر الله الأكثر شغفًا بكتابة السير الذاتية. وما دام الأمر كذلك، فأرجو أن ينتبه الدكتور إبراهيم إلى حقيقة أننا نحن الفلسطينيين أحوج ما نكون إلى الإكثار من كتب السيرة التي تذهب مباشرة إلى الوقائع لا إلى الخيال لتأكيد وجودنا البشري اليومي في بلادنا أمام حملات المحو والتغييب التي تمارسها الحركة الصهيونية وأداتها الحاكمة المتسلطة ضد الذاكرة الفلسطينية والوجود الفلسطيني، من دون أن يعني ذلك التقليل من أهمية الإبداع الأدبي وضرورة تكثيره. ولعلنا جميعًا انتبهنا إلى التصريح الأخير الذي أطلقه الوزير الصهيوني الفاشي سموتريتش الذي يقول فيه: "ليس هناك شيء اسمه الشعب الفلسطيني".

      غير أن الناقد لا يكتفي بالتحفّظ على كثرة كتب السيرة التي كتبتُها وكتبها إبراهيم نصر الله، بل إنه يخرج علينا برأي متطرّف حول معنى الرواية، فلا يجعل لسيرة كاتبها أي أثر فيها وإلا فإنها تعد من  وجهة نظره سيرة صرفة، أو في أحسن الحالات سيرة متخفّية في إهاب رواية،  ومن خلال هذا المنظور يمكننا أن نسأله: أين نذهب بروايات إميل حبيبي التي لا يخلو أيّ منها من بعض أجزاء سيرته الذاتية؟ وأين نذهب ببعض روايات آرنست هيمنغواي؛ "وداعًا للسلاح" والمشاهد التي وصفت علاقة الحب بين بطل الرواية الذي جسّد شخصية هيمنغواي نفسه وبين الممرضة التي أشرفت على علاجه من جرح في المستشفى؟ وكذلك، "لمن تقرع الأجراس" التي انعكس فيها عشق هيمنغواي لمصارعة الثيران وصداقاته مع أبطال هذه المغامرة الخطرة؟ وأين نذهب برواية "طفولتي حتى الآن" لإبراهيم نصر الله، التي يصف فيها حياته هو وبعض أفراد أسرته، ويصف في الوقت ذاته المخيم ومظاهر نزوعه نحو المقاومة، وغير ذلك من أحداث جاء بها خيال الكاتب ووظّفها في روايته؟!

4

أتفق مع الدكتور إبراهيم على أن ثمة تكرارًا ورد في الكتاب، ولم يكن غائبًا عن بالي هذا التكرار، فقد توقعت أن ورود اسم شاكيرا مثلًا في غير موضع إنما يأتي كلّ مرة ضمن سياق جديد. مع ذلك كان يمكن لملمة الموضوع في موقع واحد كما اقترح الناقد، وبالمناسبة فهي شاكيرا ابنة عائلة شاكيرات، وليست خالتي شاكيرا كما ورد في مقالة الناقد.

     وأتفق معه كذلك على أن ثمة تطويلًا في الحديث عن هونغ كونغ، لكنني حين تحدثت عن الوالدة في معرض الحديث عن ابن رشد، أكثرت من التوضيحات بأن أمي لا تعرف ابن رشد ولم تسمع باسمه، غير أن الدكتور إبراهيم راح يستهجن كيف ذكّرني حرق أمي لكتبي أثناء اعتقالي على أيدي المحتلّين الإسرائيليين بحرق كتب ابن رشد بأمر من السلطان أبي يوسف المنصور، قائلًا إنني لست ابن رشد وأمي ليست السلطان. هوّن عليك يا صديقي، لم أقل ذلك ولم أفكر فيه، إنما الشيء بالشيء يذكر كما يقال.

     بقي أن أشير إلى قضية أخيرة ذكرها الناقد في مقالته؛ فقد غلب عليه الظن أنني بعد أن زايلتني حمّى التأليف والتخييل لجأت إلى الإكثار من كتب السيرة. ولحسن الحظ، ومن باب المصادفة البحتة، فقد نشر الدستور الثقافي بعد أيام من نشر مقالة الدكتور إبراهيم خليل مقالة جميلة للأستاذ الدكتور محمد عبيد الله عن كتاب قصصي لي موسوم ب " نوافذ للبوح والحنين"؛ فيه من حمّى التأليف ومن التخييل ما فيه. وهذا يعني أن الدنيا، برغم كل شيء، ما زالت بخير