• 27 آذار 2023
  • ثقافيات

 

بقلم : محمد عثمانلي* 

صدر حديثًا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب ''أتاتورك: سيرة حياته" للمؤرخ الألماني (المستترك/المتعثمن؟) كلاوس كرايزر بترجمة سمية قوزال. وقد ولد مؤرخنا سنة 1945. من مختصر سيرته الأكاديمية الحافلة أنه ترأّس قسم اللغة التركية والتاريخ والحضارة في جامعة بامبرغ بين عامي 1984 و 2002.  كما عمل في جامعتي كولونيا وميونيخ. حاز على درجة الدكتوراه من جامعة ميونيخ عام 1972، أقام في ميونيخ ودرّس اللغة العثمانية والتركية بين عامي 1975-1977 و1981-1984. أصبح مساعد باحث في معهد الآثار الألماني في اسطنبول بين عامي 1977 و 1980.  منذ عام 2004 ترأس تحرير القسم العثماني والتركي من الموسوعة الإسلامية.  كتب العديد من المقالات والمؤلفات عن التاريخ العثماني والتركي الحديث. من مؤلفاته: ''تاريخ الدولة العثمانية (١٣٠٠-١٩٢٢)''؛ "إستانبول: دليل تاريخي-أدبي" (كلاهما بالألمانية) و "تاريخ تركيا الصغرى" بالتعاون مع كريستوف ك. نيومان؛  وحرّر كتاب ''بدايات الطباعة في الشرقين الأدنى والأوسط: اليهود والمسيحيون والمسلمون" (بالإنكليزية).

حاول المؤلف وضع مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال في سياقه التاريخي واصفًا مسار تطوره بأنه "رأى في البداية ذاته كجندي وسياسي جاء مجسدًا للإرادة الوطنية ثم تشكلت شخصيته ليكون ثوري الثقافة مُبدلًا عادات دينه ولغته وثقافته بشكل عميق بل والوقوف ضدها. وهنا قد أبدى أختلافي مع المؤلف في موقفه هذا، لاعتبار تبيئة هذه الشخصية ضمن تاريخها.

وذلك لأن التاريخ لا يتمحور حول شخصية بحيث ينتهي التاريخ إليها وينقلب عبرها، مما يجعل من هذه الشخصية هي نهاية التاريخ، و كمحصلة ينبغي فهم أهواء وأفكار هذه الشخصية من هذا المنظور، وقد يكون منظور له جانبين أو طريقين: الأول هو تاريخاني يحقق طبيعة هذه الشخصية والثاني منطلق من السوسيولوجيا التاريخية يحاول موضعتها في إطارٍ ما.

وأبرز ما يجعل المؤرخ الحذق يدقق على هذه النقطة أن دراسات التاريخ المُصغّر ومثلها مقاربات الألماني كارل لامبرخت والفرنسي فرانسوا سيميان في تشكل التاريخ الثقافي (وشخصية هذا الكتاب برأيي خاضعة لهذه المقاربة الثقافية) وغيرها من المصادر التاريخية تحطم هذه النظرة المحتكرة للدين والتدين والعلمانية والتغير في التاريخ، وتجعل المؤرخ الحذر لا يخدع بمقولة 'الشخصية الفردية التي تصنع او تهدم التاريخ' وغيرها من مقولات التاريخ الشعبوي التي يتداولها المؤرخون القوميون الأتراك في تقديس الغازي أو المؤرخون الإسلاميون الذي يدنسونه أو المتوسط بينهما يدّع الموضوعية بجعله حاجة ضرورية لتغيير التاريخ (!).

فهذه الزُمر واضرابها توصله لمرتبة فوق التاريخ (ميتا هيستوريا) بحيث يصبح تفسير وجوده نوع من اللاهوتية والهرطقة التاريخية وكأن ثقافة التدين الإسلامي خالدة لدى التركي ولو بشكل معلمن بحيث يحرّم المساس بشخصيات التاريخ أو يتعامل معها بمنطق التكفير والطرد والحرمان من صكوك الإسلام. 

كما أشار كرايزر لطبيعة فهم أتاتورك الخاصة للقانون والتاريخ، وليس انتهاء بهندامه والموسيقى التي فضلها.  يعرّف كرايزر "نظام أتاتورك" بأنه "دكتاتورية تربية وتعليم" قاسية جلدة، ومع ذلك فهو يصنفه ضمن نظام مختلف عن الأنظمة الديكتاتورية التي سادت بين الحربين العالميتين، ويُمثّل على ذلك باعتباره أن الخطاب الاستبدادي والكاريزمي لـ "المعلم الأول = أتاتورك Ata-Türk (سلف الأتراك وجدّهم)" كونه ليس خطابًا يستهدف استلاب عقول الجماهير (نقطة تحتاج للنظر؟!).

ما يهمني هنا أن كرايزر فشل فشلًا ذريعًا في تمجيد الغازي الباشا مصطفى كمال أتاتورك كما يفعلها المؤرخ الشعبوي أو في جعله ثيمة حطّمت 'صرح الإسلام الأخير' كما ينعتها المؤرخ الإسلاموي، وقدّم بدلًا عن ذلك ذات لهجة 'مختلفة' ؛'علمية' (بلغة قسطنطين زريق ضمن تقسيمه الرباعي للتأريخ التي انتقدها كوثراني)  غنية المعلومات والتفاصيل، وليست بلغة أكاديمية صلبة تتبع المراجع، تستحق تصدّر الصفوف الأولى من كاتبي سيرة أتاتورك بلا أدنى شك، على العكس من كثير السير الغثّة التي درجت التُرك على تسطير خرافات وأساطير كثيرة حولها لا تسمن من الكتابة التاريخية قدر أنملة. 

ولا نظلم الكتابة التركية بشقيها الأكاديمية وتلك الشعبوية لو قلنا بأن الغرب كان سبّاقًا في اكتشاف سيرة أكثر علمية لأتاتورك، وأن التأريخ التركي بات مؤخرًا فقط يحاول الوصول لشيء أقرب لحياته سواء على صعيد المؤلفات والبحوث، وهذا له دواعي مفهومة وغير مفهومة لا مجال للحديث عنها هنا.

قسّم كرايزر كتابه لإثني عشر فصلًا، انتقل بطريقة كلاسيكية كرونولوجية عبر السنوات، قدم فيها قراءة لا شك أنها ممتعة لسيرة "عظيم الترك" . طَبعت الفصول الثلاث الأولى (١٨٨١-١٩٠٨) في ذهن كاتب هذا المقال عن كرايزر أنه يريد الحديث عن "النشأة والعسكرية" تحت مواضيع ثلاثة شملت الحديث عن (سنوات طفولته وشبابه في مقدونيا؛ ترقية وانخراطه في الجمعيات والعُصبات السرية؛ غزواته الأولى وخوضه ميادين المعارك). 

في الفصلين الرابع والخامس جسد برأيي مسألة "تركيز النضوج العسكري والقيادة والخطابة" (١٩٠٨-١٩١٩) تحت موضوع تناول (جبهات الثورة وحرب السفربرلك) وموضوع لا يخفى من الإثارة والتساؤلات المهمة التي كشفها كرايزر حول (السعي بين كردستان وكارلسباد في التشيك).

في الفصول السادس والسابع والثامن، رصد المؤرخ كرايزر ''انتقال أتاتورك العسكري للسياسي" (١٩١٩- ١٩٣٠)؛ (ولكم أن تتصوروا إلى أي درجة هذا صحيح؟! بالنسبة لي موضوع التحول هو موضوع تشكيك دومًا لكونه تابع لطبيعة راديكالية في الثقافة التركية) فالمهم أنه رصد هذا التحول ''الأساسي'' عبر المواضيع (الجهاد في سبيل القضية والخروج في سبيل الملة لعام ١٩١٩ (هل فعلا خرج في سبيل الملة؟)؛ سنوات الحرب الداخلية وجبهاتها وتشكيل مجلس الملة التركي الكبير؛ تبلور الأبوية التركية والنزاع الحزبي المعارض ونزاعه الأخير وملامح تلك الأبوية الثقافية (وهل أضيف من عندي أنه تحدث عن أنثروبولوجيا أتاتورك هنا دون تأكيد منه؟ ربما!)

من الفصل التاسع وحتى الحادي عشر (١٩٢٢-١٩٣٥) وقبل الأخير، أتى كرايزر على تشكيل "الجمهورية الأتاتوركية" (مصطلح يصف مراد المؤلف برأيي) في طبائعها الداخلية والخارجية وتبلور مفاهيم الدولة القومية التركية (بل المستتركة) مثل الثورة والملة والتربية العلمانية..إلخ. ثم كان الفصل الثاني عشر والأخير هو خاتمة هذه الشخصية المثيرة : وفاة الخالد، وخلود الإنسان أو هكذا أتخيل وصف المؤلف لشخصيته التي وضعها تحت الفحص.

في نهاية المطاف غير المختوم حالًا. والذي أريد الرجوع مكررًا لتقديم قراءة داخلية لكتاب السيرة هذا (الرواية 'العلمية')، وددت القول بأنني لم أقرأ هذا الكتاب المهم من نسخته الألمانية بل من ترجمته التركية قبل سنوات والتي صدرت فقط بعد سنتين (٢٠١٠) من الألمانية (٢٠٠٨) مع التأكيد على طباعته ٤ طبعات تركيًا بين ٢٠١٠ و٢٠٢١ (ينبغي التدقيق في عدد الطبعات والمشتريات فهذه تحتاج لدراسة خاصة لاكتشاف مكانته في البيئة التركية).

في هكذا نوع من الدراسات يمكننا الحديث أن كمّ وتنوع المصادر ليس مهمًا تمامًا؛ لأن لهجته تقترب من الرواية ومخاطبة شريحة أوسع من القراء، رغم كون المؤلف من أهل التخصص بالمصادر متعددة اللغات واعتماده كما هو ظاهر في الغالب اعتماده على مصادر تركية (مع خلّوه من الهوامش).

لذلك فبعدها يمكن نقل مستوى النقد إلى داخل الكتاب، وبرأيي الشخصي -الذي أعتبر نفسي مسؤولًا عنه- أن كلاوس كرايزر لم يجسد لنا أطروحة بمعنى الثيسِس thesis بقدر ما أنه كان قُطبًامن أقطاب كُتّاب سيرة أتاتورك، نقلنا من مرحلة ثقافة الكتابة التاريخية الأسطورية إلى التأريخ الذي يتعامل بوضعانية محضة -إلى حدّ ما- مع شخصية أتاتورك، وليس كأنه إله نازل من السماء. 

ولكن هذا الأمر لا يكفي، وهو يدل على تأخر نسبي في الحديث عن أولوية 'تاريخ الشخصية' على 'الشخصية التاريخ'(والفرق واسع بين الحالتين)، رغم كونه جسرًا لهذه الأولوية أي تقديم قراءة سيرة هذه الشخصية المهمة في التاريخ التركي وكذا الإقليمي.

موضوع آخر أضيفه هنا وهو وجوب طرح مزيد من النظر في قضية الحديث عن منهجية التأليف حول أتاتورك بالعموم، فهنا ماذا يعني أن أكتب سيرة أتاتورك في "سياقها التاريخي" كما يرومه كرايزر؟ هل يعني ترتيب أحداث حياته كرونولوجيًا فقط؟ أم هنالك طريقة أخرى؟ سبق وأن تحدثتُ عن تفاصيل أخرى في خاتمة قراءتي لكتاب سيرة أتاتورك لأندرو مانغو الذي كتبته في دورية أسطور العدد الثالث عشر (اضغط هنا للوصول إلى المقال).

وهذا يوصلنا  الى الحديث عن فقه علم "التاريخ الجديد" الذي تبلور مع جيل الحوليات الثالث ومن أشهرهم جاك لوغوف، وكيفية توظيف نظرياته -التي لا يُلتفت كثيرا إليها من مؤرخينا- في اكتشاف طبائع مختلفة عما يمكن أن يُسمى بـ"جلبة أتاتورك التاريخية"، أي السمة الاجتماعية الاقتصادية على وجه الخصوص، وبالتالي ما هي علاقة النخبة بالعوام والمجتمع هنا؟ وغيرها من الأسئلة المهمة التي لم يخصص لها مجالًا واسعًا في الكثير من الدراسات حول هذه الحقبة ومنها مؤلف هذا الكتاب.

*باحث يعد رسالة الدكتوراه في التاريخ العثماني الحديث -