• 14 آذار 2024
  • ثقافيات

 

بقلم : إبراهيم نصر الله *

 

 قامت مجموعة بنسلفانيا للعدالة في فلسطين، المكونة من أعضاء هيئة التدريس والموظفين وطلاب الدراسات العليا، برفع قضية ضد الجامعة، وقد نشرت «القدس العربي» أمس تقريرًا عن هذه القضية؛ وتأمل المجموعة في إقناع الجامعة بعدم الامتثال لأمر الاستدعاء المحتمل من جانب لجنة التعليم في الكونغرس، والهادف إلى الحصول على ملفات التدريس ورسائل البريد الإلكتروني وغيرها، الخاصة بالأساتذة والطلبة، وإخضاعها للتدقيق السياسي».

هذا المقال كان يجب، لولا تكريس كل المقالات لغزة في الفترة الماضية، أن يُكتب في بدايات شهر أكتوبر الماضي، بعد عودتي من زيارة نيويورك وفيلادلفيا، ألقيت خلالها محاضرة في جامعة كولومبيا، قبل التوجّه إلى جامعة بنسلفانيا لإلقاء محاضرة أخرى ضمن مهرجان «فلسطين تكتب» الذي أقيم من 22-24 من أيلول/سبتمبر الماضي في الجامعة، وهي واحدة من أعرق الجامعات الأمريكية التي تمّ تأسيسها في أربعينيات القرن الثامن عشر، ومن أشهر خريجيها: أحمد زويل، ناعوم تشومسكي، نصر حامد أبو زيد، وإلى هؤلاء، للأسف، جو بايدن، دونالد ترامب اللذين يتنافسان الآن على من يكره فلسطين والفلسطينيين أكثر.

أسوق هذا لأقول إن حضور فلسطين وآدابها في رحاب هذه الجامعة كان حدثًا كبيرًا، ولا أبالغ إذا قلت إنه أكبر احتفاء أدبي بآداب فلسطين وفنونها، سمعتُ عنه، أو شاركت فيه، في أي مكان في العالم الغربي خلال السنوات الأربعين الماضية، وليس من المبالغة إذا قلت: وفي العالم العربي أيضًا، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار عدد الذين اشتروا تذاكر لحضور الندوات، أو تلك القاعة الضخمة التي عُقدت فيها اللقاءات، إلى جانب القاعات المجاورة لها، وأيضًا مقارنة بعدد الكتاب الفلسطينيين الذين حضروا من كل أنحاء العالم، ومن غزة المحاصرة، التي كانت على أبواب اجتياح سجنها الكبير في السابع من أكتوبر.

ولأن هذا الوطن الصغير، فلسطين، دائمًا أوسع من حدوده، كان من الطبيعي مشاركة عدد من الأسماء النبيلة التي تقف معه، أدباء وفنانين، ومنها روجر ووترز الذي غنّى لفلسطين منذ سنوات، كما غنّى ضد جدار الفصل العنصري، ما يجعلنا نستعيد عمله الفذّ مع فرقة «بينك فلويد»، «الجدار»، هذا الفنان الكبير الذي لم يصمت حين رأى جدار الصهاينة، ولم ينس أنه كان ضد الجدار منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي، فوقف ضد كل جدار عنصري جديد. وقد عانى كثيرًا من العنصريين وهجمات مناصري العنصرية، سواء بمنع حفلاته -كما تحدث عبر «زووم» مع الذين اكتظت بهم القاعة الكبرى- وتراجُع استوديوهات عن السماح له بتسجيل أغنيات جديدة، وكيف اتصل به صاحب أستديو قائلًا له، مرحبًا بك لتسجيل أغنياتك، وحين قال له ووترز: ولكنهم كلهم يرفضون! أجابه صاحب الأستوديو: نحن لا ننسى حين تبرّعت لنا ذات يوم وكان الأسوتديو الذي نملكه صغيرًا ومتعثّرًا، وبذلك التبرع أنقذتنا من الإغلاق.

ووترز هذا مُنع من دخول حرم جامعة بنسلفانيا عمليًّا، حين أخبروه أنهم لا يضمنون سلامته، ولذا لم يستطع المشاركة وجاهيًّا، مع أنه كان قد وصل إلى أمريكا، وقد سبق ذلك قرار من إدارة الشرطة يفيد أن إدارتها لا تستطيع حماية المشاركين وجمهور المهرجان، وأن على منظّمي المهرجان أن يؤمِّنوا رجال أمن من الشركات الخاصة لحماية أنفسهم والمشاركين.

في الجوار، أمام الجامعة، كان عدد من الصهاينة يتظاهرون ويلتقطون صورًا للقادمين لحضور الندوات، في حين كان الحضور أنفسهم منشغلين بشراء الأشياء التذكارية المتعلقة بفلسطين، وبعض منتجاتها الرمزية، من زيتون وزيت وخزف، وغير ذلك، وفي الداخل يشترون الكتب الفلسطينية الصادرة بالإنجليزية أو بالعربية التي ضمّها معرض الكتب الخاص بهذه التظاهرة.

كثرٌ هم الذي عمِلوا بصلابة لإقامة هذا المهرجان، وهو الثاني، بعد أن حال وباء كوفيد عام 2020 من عقد دورته الأولى، فأقيم عبر تقنية «زووم»، لكن اللقاء الشخصي المباشر كان يعني الكثير لكل إنسان حُرِم من تلك المشاركة التي تحققت في ما بعد بما هو أجمل وأعمق وأكثر تأثيرًا بالتأكيد، وكان على رأس العاملين من أجل تحقّقها الروائية الفلسطينية سوزان أبو الهوى، والشاعرة والأستاذة الجامعية اللبنانية هدى فخر الدين.

إن الاستماع لسوزان وهدى في تلك القاعة، يوم الافتتاح، كان مصدر فخر شخصيّ لي، فثمة حضور فذّ لهاتين الشخصيتين، آسر وعميق ودليل استثنائي على أن الفرد يستطيع أن يحقق المعجزات وهو يُسخِّر مواهبه وقدراته وحضوره والمكان الذي هو فيه لتحقيق الذي لم نتخيل أنه قابل للتحقّق.

ذلك المهرجان، بما أنجزه وبما حظي به من اهتمام إعلامي، مناصر ومضاد، كان كفيلًا بفتح أبواب الهجوم الشرس على منظّميه، والذي كانت طلائعه تنصّل قوات الشرطة من مسؤولياتها، و»الحصار المستفزّ» الذي ضربه المعادون حول مبنى الجامعة، ولكنه كان طليعة الحصار الأكبر. لذا، تطوّر الأمر في ما بعد بتلك الهجمة الشرسة التي طالت جامعة بنسلفانيا وعددًا من الجامعات الأمريكية المرموقة، ومنظميه، ومنهم سوزان وهدى، وصولًا إلى رئيسة الجامعة التي تمّ إخضاعها لاستجواب مهين في الكونغرس، ولعل المؤتمر كان واحدًا من أسبابه التي تبعته أسباب أخرى من بينها الحملة المكارثية التي تفجّرت بعد الحرب على غزة، وهو ما أجبر رئيسة الجامعة على الاستقالة، وهو أمر نادر الحدوث، ولكنه أمرٌ يتم السماح به حين يكون الأمر متعلقًا بالوقوف مع فلسطين، وتحويله إلى شكل من أشكال «معاداة السامية»، هذا السلاح الفاسد الأكثر فتكًا هناك، وفي أماكن أخرى، وكذلك كان استجواب رئيسة جامعة هارفارد، أيضًا، من قبل الكونغرس، الذي كان مثالًا صارخًا آخر على الطريقة البشعة التي يتمّ فيها إذلال الحرية الأكاديمية والعقل البشري من قبل سياسيين فظّين يذكروننا بأسوأ أنواع المحققين الذين نراهم في السينما، أو على الأرض، كما في معتقل «أبو غريب» ومعتقل «غوانتانامو».

وبعد:

كل ما يحدث هناك، ومن بينه الطلب الأكثر وقاحة من العاملين في الجامعة والطلاب للكشف عن رسائلهم ومراسلاتهم والتحقق مما جاء فيها، لاستخدام ذلك في حصارهم وطردهم، مثال بشع على نظام يُعلي من مرتبة الهراوة لتكون أعلى من العقل، ويجعل التذلل للصهيونية أعلى مرتبة من الحرية والحياة ومُواطن تلك الدولة نفسها، في هذا السعي لتحويل البشر إلى قطيع لخدمة الصهيونية وجرائمها وسحقها لكل قانون إنساني ولكل معنى للقيم التي ورثتها البشرية، من الأرض والسماء.

*عن القدس العربي