• 1 أيلول 2024
  • ثقافيات

 

بقلم :  نزهة الرملاوي.

 

رواية الأديب وليد الهودلي، الصادرة عن مركز بيت المقدس، الواقعة في 170 صفحة من الحجم المتوسط.

( هكذا أصبح جاسوسا) عنوان لافت لقصص جريئة توثيقية ومؤثرة للكاتب والروائي الفلسطيني الأسير المحرر (وليد الهودلي)، ذلك الكاتب الذي رأى قلمه مطاردا مطاردة ساخنة على مدى أربع وعشرين عاما، وعند القاء القبض عليها ( كتاباته) أعيد سجنه لأربعة أعوام اخرى ص171.

تعتبر فكرة الرواية أو الهدف منها، رسالة لبث الوعي الثقافي الوطني، والوعي الأمني السّياسي أثناء التّحقيق مع الأسير أو عزله، أو وضعه في غرف مشبوهة (العصافير) ومعروفة بإسقاط أو اعتراف من الأسرى لتحذيرهم.

من هنا جاء إصرار الكاتب على سردها، وهي نموذج من نماذج أدب الأسرى أو أدب المعتقلات، التي كتبها الروائي في الأسر، وتمثّلت الصعوبة في كيفية إخراجها من المعتقل ونشرها، كما أشار الكاتب في خاتمة الرواية.

 جاءت الرواية على شكل قصص حقيقية ملهمة، تناولها الأديب بأسلوب أدبيّ فنيّ لافت، وذلك من خلال تجربته في المعتقل السياسي، حيث رصد من خلال أسره، حكايات رويت من المعتقلين الذي يقبعون خلف زنازين القهر والتعسف ومحاولات إسقاطهم في وحل العمالة، مما أثار قريحة الكاتب لكتابتها، وإلقاء الضّوء على تلك الأساليب التي يستخدمها المحققون ضد الأسرى لإسقاطهم.

 وأشار إلى ذلك قائلا:

(اتخذت قراري، سأجعل من هذه الحكايات خلف ستائر العتمة فرصة لكتاب جديد يخترق جدران سجونهم، ويكشف مكوّن دولتهم ويُعرّي ألاعيبهم أمام القادمين إلى مرابض الأسود ومصانع الرجال).ص12

أشار  الكاتب من خلال قصصه إلى وجود بعض الثّغرات أثناء التّحقيق، يمكّن المحقق من بناء آمال لإسقاط الأسرى الشّباب وخاصة الأطفال منهم أثناء التحقيق. ص172

استخدم الكاتب  أساليب متعددة لبناء قصصه التسعة عشر، كأسلوب الاسترجاع (فلاش باك) والحوار والسرد الذي جاء سلسا مقنعا، التعمق في تحليل نفسيّات الأسرى من خلال التّحدث مع النفس، واستخدامه أسلوب التذكر من خلال تصوير ما يدور من إجراءات تعسفية وتخريب لمحتويات الأسرى وسلبهم حرية الرأي والكتابة ص 21 ،إضافة إلى سيرة الكاتب وتجربته الاعتقالية، وإثارة الأسئلة كمداخل للفكرة حول الإسقاط، واستنكار ذاتي يكمن في رصد أفعال الأسرى (العصافير) الذين يعيشون في نفس الغرفة، ص22 إضافة إلى تعريف القارئ بأن للعصافير غرفا تحاكي تماما الغرف الأمنية  ص16

اعتنى الكاتب بجمال وشفافية التّصوير، وانتقاء الجمل الوصفية بعناية، وذلك من خلال تصويره لحظة اعتقال المطلوب من بيته وما يترتب على ذلك من تأثير نفسي وخراب وتدمير للمنزل، إلى تصوير حال الأسير أثناء التحقيق، وما يمرّ به نفسيّا وجسديّا من تعذيب وضغط، حتى يجزّ به في الزنازين الجمعية والفردية، وإيهام الأسير بنعيم ينتظره إذا تعاون معهم، ليُعلم القارئ بأساليب ووحشية السّجانين، وما يدور في أقبية المعتقل، إضافة إلى إعلام القارئ عن قوة الأسرى وتعليم الآخرين من خلال تجاربهم الاعتقالية، وخبرتهم في مواجهة أساليب الإسقاط على حين غفلة، أو لحظة غباء وعدم وعي منهم.

حفلت الرواية كأيّ رواية من أدب السجون بمفردات تستخدم في المعتقل مثل: البرش، العزل الانفرادي، الفورة، اعتقال إداري، التشبيح، العصافير وغيرها، وهذا يعمّق الفهم والوعي الثقافي لدى القارئ. 

جاء الكتاب من خلال رصد الكاتب للتأزم النفسي وشدة الحذر من (المتعاونين، العصافير) ( كيف يضرب كبيرهم ويؤخذوا بكل هذا العنف، ويقمع بهذه الوحشية!! ص20 

أيقبل أحد من البشر أن يكون جاسوسا؟ 

  تمحورت القصص حول فكرة الإسقاط أو الجاسوسية، مشيرا إلى أحدها وهو ما يطلق عليه مصطلح (العصافير) وهم الأشد تمكنا من أولئك الأسرى، بحيث لا يتميزون عن المعتقلين كسحبهم بالضّرب الى غرف التّحقيق، ومكوثهم في الزنازين لفترات طويلة؛ حتى تمرّ تلك الحيل والخدع الماكرة،  على الأسرى، لتطمئن قلوبهم، ويفضون للعملاء بما ارتكبوا من أعمال، ليؤكدوا بذلك ما وجّه إليهم من اتهامات سواء صحيحة أو ملفقة، لتسهيل بعض الأمور لهم، كالعلاج والسفر والتعلم وغير ذلك.

 لقد مرّ الكاتب بتجربة الاعتقال عدة مرّات، وأفادنا من خلال قصته أن اعتقاله كان تعسفيا بسبب ثقافته وآرائه التي تشحذ الهمم، وأعلمنا أن المحققين يدركون جيدا دوره البارز في تثقيف المعتقلين القابعين في الأسر لأعوام طويلة، وأن اعتقاله يزيد من قوته الثقافية وتشبثه بآرائه، مما يجعل المعتقلين يلتفون حوله، وينهلون من ثقافته و يجتازون أعلى الشهادات، وإن دلّ ذلك، يدلّ على أملهم بالتّحرر و خروجهم من المعتقلات، و انخراطهم بالعمل، وانصهارهم بمجتمعهم متحدّين الأذى النفسي والجسدي الذي أصابهم، باقون على العهد والوفاء للوطن، كل الوطن دون تجزئة، مع حلول عادلة، حتى ترجع البلاد وتعيد العباد إلى وطنهم المسلوب.

قصص الرواية واقعية ذات معاني قيّمة ومثرية، تتسم بالرّمزية والسخرية أحيانا، وقد أشار الكاتب إلى ذلك عندما استقبل بحماس من قبل الأسرى السّياسيين قائلا: اليساريون ينادي أحدهم على الآخر: يا رفيق، والشّيخ يجامل بكلمات ذات طابع ديني : رضي الله عنك، وجزاك الله خيرا، وبارك الله فيك يا ِأخي. وعندما يتلى بيان لحركة فتح يختم بثورة حتى النصر، وعندما يكون حماس مثلا يختم: وإنه لجهاد، نصر أو استشهاد.

واصفا شعوره بين فصائل الأسرى بشعور مريح (أخذت راحتي وحريّتي دون أي إكراه، أجواء طيبة تشعر فيها بالروح الوطنية) ص18

 لغة الرواية جاءت لغة سلسة وبليغة، وأحداثها تتسم بالعمق والأسئلة التي تحرك المفاهيم والمبادئ التي تعتنقها الشخصيات، فتراها شخصيات مثقفة متعددة الأفكار والانتماءات، قوية ذات عزم وتحد وإصرار، ورغم قسوة السجن لم نلحظ ندمها، قصص تشدّ القارئ، تتسم بالوصف الجميل، في سردها وحوارها متعة وثقافة للقارئين. 

قصص من أجمل أدبيات السّجون، قصص منتمية جميلة المبنى وعميقة المعنى.

 الجديد في كتابات وليد الهودلي، أنها تحوّل إلى أفلام درامية، أو مسرحيات، حتى تصل بشكل أوسع للمتلقي، وذلك من خلال قنوات التواصل الاجتماعي، إضافة إلى أنّها تحقق وعيا سياسيا وثقافيا جميعا.