• 3 آيار 2025
  • ثقافيات

  القدس - أخبار البلد - كتب المحرر الثقافي : 

  يعجبني دائما اسلوب الكاتب المبدع " زياد خداش" رغم حداثة تعرفي به ، خاصة محاكاته للماضي والاندماج فيه لدرجة أن القارئ يعتقد أنه كان في ذلك الوقت الذي يبعد عقودا من الزمن بين " زياد" وبين  هذا الماضي الجميل الذي جمله اكثر  قلم هذا الكاتب .

 وفي هذه العجالة فإننا  في " أخبار البلد" نعيد نشر ما تفتقت به ذاكرة وخطه قلم " زياد خداش" وهذه المرة عن الفنان الكبير " فريد الأطرش" وأصبح فيها جزءا لا يتجزأ من الحكاية ، أسلوب جديد جميل جذاب راقي : 

 واليكم حكاية "فريد الاطرش" مع "زياد خداش ": 

هذه ليست المرة الأولى التي يغني فيها فريد الأطرش، في فلسطين، فهذا العام 1937 غنّى ثلاث مرات، في مسرح مدرسة الساليزيان التي اديرها بحيفا، لكنها المرة الأولى التي أراه فيها بهذا الضعف، صوتاً وجسماً، كان يقف بشكل منحنٍ ويضع يده على ظهره، وكان وجهه متعباً، ويتصبب عرقاً، ما الذي يحدث لفريد العظيم؟

ركضتُ تجاه عزيز لحام، متعهد الحفلة الغنائية، كان هو الآخر مستغرباً، ويضع يده على رأسه، ماذا يحدث لفريد يا عزيز؟

لم يجب عزيز، اكتفى بإشارة من يديه، فهمتُ منها ان الوضع كارثي، وأن الناس بدأت تتهامس، هل هو مريض؟

بعد الحفلة جلست انا الخوري اللبناني نعمة الله وعزيز لحام مع فريد في مكتب الإدارة بالمدرسة، وفهمنا الحكاية، اعتذر فريد عشر مرات لأنه لم يكن بمستوى أدائه المعتاد، فهو يعاني منذ أيام من عرق النسا الفظيع، وكان يفكر في إلغاء الحفلة، أو تأجيلها.

(في هذه اللحظة بحلق فريد في وجهي: زياد أرجوك توقّف عن القص، أريد أن اخرج قليلاً من نصك؛ لأختلي بنفسي، أوجاع عرق النساء قتلت مزاجي كله، فتمهل يا صديقي حتى أستطيع الوقوف على قدميّ، والتحدث باتزان، لا تفضح أوجاعي يا رجل).

صدمتُ من هذيان فريد الأطرش، كذلك صُدمَ متعهد الحفلات، كان يتحدث مع شخص غير مرئي اسمه زياد، كان يقول كلاماً غير مفهوم.

في هذه اللحظة دخل شخص متحمس بدت على وجهه رغبة في عناق فريد:

-انا الصحافي وديع صنبر من حيفا، أرغب في عمل حوار مع الأستاذ الكبير، ضحك الأستاذ ومال على جنبه متوجعاً، وصاح: هادا اللي ناقصني، اذهب يا رجل الآن، أنتظرك في الفندق الليلة إن تحسنت حالتي.

غادر الصحافي، وبقينا المتعهد وأنا مع الأستاذ الكبير، نحاول أن نجد حلاً لأوجاع ظهره، قال المتعهد عزيز: لم لا نأخذه إلى الطبيب يعقوب زعرب؟ اتصلنا بالطبيب المشهور الذي نصحنا بأخذه إلى مركز الحمة للشفاء الطبي، تحمست للفكرة، هاتفت الأستاذ سليمان ناصيف صاحب شركة حمامات الحمة، الذي رحّب بالأستاذ فريد، عارضاً علينا بفرح كبير علاج الأستاذ على حسابه.

هاتفنا تاكسي الزهرة، وانطلقنا إلى حمامات الحمة، في أقصى الشمال.

(زياد خداش أيها القاص الغريب المتطفل، لا تقص على قرّائك ما حدث في حمامات الحمة أرجوك، هذه أشياء محرجة، لا تناسب اسمي وهيبتي).

عاد فريد إلى الهذيان، من هو زياد هذا؟. أيسبب عرق النسا كل هذه الهذيان؟!

وصلنا إلى الحمامات، كان هناك العشرات ينظرون إلى الأستاذ ويلوحون له من بعيد: أستاذ فريد.. أستاذ فريد. استقبلنا الأستاذ سليمان ناصيف، حجز له أفضل غرفة من غرفة الحمامات، خرجنا؛ لنجلس في الشمس، ونأكل البوظة، بانتظار انتهاء جلسة الأستاذ الكبير.

(زياد لا داعي للدخول معي في غرفة العلاج، هذا محرج لي ولك، اخرج أرجوك، وإلا سأشكوك إلى عيسى العيسى صاحب جريدتك التي تنشر فيها نصوصك).

هذا عجيب، هل جُنّ الأستاذ؟ أبلغني المعالج رأفت أيوب فيما بعد وهو سوري الجنسية، أن الأستاذ فريد كان يكلم شخصاً غير موجود قربه وهو يدخل الغرفة.

بعد ساعة خرج الأستاذ أحسن حالاً، كانت قامته أكثر استقامة من قبل، كان يبتسم، لكنّ قلقاً غريباً كان يسيطر على عينيه، ما بك أستاذ فريد؟

ثمة كاتب قصص غريب الأطوار مهمته الوحيدة في الحياة هو مطاردتي وكتابة أوجاعي، طردته من كل المواقع، لكنه لا يرتدع، يا له من كاتب ممل وفضولي ووقح.

-أين هو هذا القاص يا أستاذنا؟ سألته وأنا أنظر حولي.

-موجود في كل حرف من حروف هذه القصة القصيرة.

- ايّة قصة قصيرة يا أستاذ؟؟ .

فجأة ظهر يحيى اللبابيدي الموسيقار العظيم، كان يتمايل هو الآخر، يعاني من أوجاع ظهر، جلس معنا وهو يرحّب بصديقه فريد الذي لحّن له (يا ريتني طير واطير حواليك)، وأذيعت من إذاعة هنا القدس، وفجأة انفجرت يا (ريتني طير) من فم فريد، تجمع مرضى مركز الاستشفاء بالعشرات وهم يغنون مع فريد، كانت لحظات رائعة، خفّف فيها الفنان الكبير من أوجاع وملل المرضى، خرج صاحب الحمامات سليمان ناصيف عن طوره وراح يغني بحماسة، أما متعهد الحفلات، فقد رأيته يغني بفتور، استنتجت أنه كان يود لو أنه اتفق مع فريد على إحياء حفلة هنا مع المرضى؛ لكانت درّت عليه مئات الجنيهات، لكنه لم ييأس رأيته يقترب من فريد، ويهمس في أذنه بشيء ما، توقعت أن يكون هذا الشيء هو فكرة حفلة أخرى في حيفا يكون فيها جسم فريد أكثر استقامةً وعيناه أكثر توهجاً، رأيت فريد يرد على الهمسة بهمسة، ولم أعرف هل وافق أم لا، لكن شيئاً في بنية هذه القصة القصيرة اضطرب بعد الهمستين، لم يعد كاتب هذه القصة موجوداً، هذا يعني أن تتوقف القصة بعد قليل، عرفتُ فيما بعد أن الفنان الكبير وافق على حفلة أخرى بشرط إبعاد كاتب هذه القصة الذي يطارد أنفاس فريد حتى الاختناق، ابتسم المتعهّد وفكّر قليلا قبل أن يذهب للاتصال بحسن بسطة ضابط البوليس سيئ السمعة، نصف ساعة فقط، كان البوليس يقتحم الحمامات ويعتقل الكاتب زياد خداش، بتهمة إزعاج وإهانة الفنان الكبير.

(قلتُ لك يا زياد ابتعد عن حياتي الشخصية، هأنتَ ذا تقبع في السجن، وهأنذا أستعد لحفلة أخرى لن تستطيع استغلال جمالها وصخبها وأحداثها لكتابة قصتك).

عاد فريد إلى الحديث مع أشخاص وهميين، يا لغرابة الفنانين!

دعه يفعل ما يشاء، المهم هو الاستعداد لحفلة أخرى على مسرح مدرستك أيها المدير الرائع الخوري نعمة الله.

في الحفلة، كان زياد أحد كتاب جريدة فلسطين اليافاوية يجلسُ مستمتعاً متمايلاً ذائباً في لحن (يا ريتني طير) مع المئات من مجانين ومجنونات حيفا، سعيداً باختبائه في عيون وصوت أحد شخصيات القصة، الخوري نعمة الله، ومواصلاً كتابة قصته القصيرة التي سينشرها في جريدة فلسطين بتاريخ 9-8-1940.