- 10 كانون أول 2025
- ثقافيات
القدس - أخبار البلد - كتب المحرر الثقافي:
العلاقة بين الكاتب والمجتمع وبالتحديد الطبقات التي لا يسمع صوتها علاقة مضطربة تارة ومحمودة تارة اخرى ، فهناك كتاب يفضلون ان يكتبوا من أبراجهم العالية بعيد عن المجتمع وهناك من كتب فقط عن تلك الطبقات الكادحة المهملة في المجتمع و لكن ماذا لو تحولت تلك الطبقات الى كارثة واصبحت هي مصدر الاذى ؟
سؤال حول الكاتب المغربي سعيد حجي الاجابة عليه من خلال الحديث عن حادثة وقعت في مراكش واثار الراي العام المحلي وحتى الدولية لان الضحية هي كاتبة ايطالية .
ويسعدنا في "أخبار البلد" المقدسية ان نعيد نشر ما نشر الكاتب سعيد حجي على صفحته في الفيسبوك لأهميته ولأنه يطرح الكثير من التساؤلات التي نضعها بين بيد كل متعاطي الشأن الثقافي والادبي في العالم العربي :
السائحة التي انتشر فيديو لها في الأيام القليلة الماضية، وهي تسقط بقوة في أحد أزقة مراكش العتيقة إثر عملية نشل عنيفة، لم تكن سوى الكاتبة الإيطالية نيكوليتا بورتولوتي، تلك التي بنت عالمها السردي من ضوء خافت يتسلل إلى هوامش الحياة، وامتهنت عبر كتاباتها الانصات العميق لمن لا يسمعهم أحد، وترميم الشخصيات المنسية التي فقدت صوتها في صخب العوالم الكبيرة. هي التي كتبت يوما في أعمالها الأدبية والانسانية عن من يقفون "في الثلج"، وعن من يُنادَون "بصوت خافت"، وجدت نفسها فجأة في قلب مشهد خشن، في زاوية لا تشبه زوايا الكتب، حيث الصدمة لا تتشكل عبر استعارة بل عبر جسد يهوى على الإسفلت، ورأس يوشك أن ينشطر...
الزمن في تلك اللحظة لم يكن زمنا سرديا. لم يكن مشهدا يعاد كتابته، ولا موقفا يمكن تأويله أدبيا. كان زمنا فوضويا، لحظة من العنف العاري، من التجريد الوحشي لأي تماسك داخلي. شابان جانحان، حركة مفاجئة، سقوط ثقيل، تروٍ من العابرين، وهلع من المارة، ثم كاميرا توثق كل شيء دون أن تملك القدرة على إيقاف أي شيء...
لكن ما لم تصوره الكاميرا هو ذلك التمزق الداخلي الذي عاشته نيكوليتا بعد الحادثة، وهي تقف أمام مفارقة أخلاقية مركبة، لا تلخصها ثنائية الجاني والضحية، بل تعيد طرح سؤال أكثر خطورة: ماذا يحدث حين تصطدم القيم التي نكتب بها، بالقسوة التي نعيشها؟ هل تصمد الإنسانية حين تُختبر في اللحم الحي؟ هل يبقى الدفاع عن المهمشين ممكنا، حين يكونون أنفسهم مصدر الأذى؟
هناك طبقة فلسفية أعمق في موقفها، تكشف كيف أن بعض الأفراد قادرون على تجاوز ذواتهم الجريحة من أجل إعادة إنتاج المعنى. نيكوليتا لم تكتب رواية، لكنها عاشت جملة وجودية ثقيلة: أن يكون الإنسان قادرا على مقاومة منطق القصاص، لصالح منطق الإصلاح. وهذه ليست نزعة رومانسية، بل مقاومة داخلية لما يسميه إدواردو غاليانو "تقنية إنتاج الأعداء"، حيث نتحول بسرعة إلى محاكم متنقلة، نحكم على الآخر بعنف لأننا لا نملك أدوات الفهم....
في موقفها هذا، مارست نيكوليتا شيئا أقرب إلى "الاستشفاء الأخلاقي"، وهو مفهوم يرتبط بالقدرة على تحويل الجرح الشخصي إلى أداة لإعادة النظر في البنية الاجتماعية الأوسع. فالشابان، في تصورها، ليسا فقط لصين، بل نتاجا لسياقات فشل، لتهميش مزمن، لهياكل اختلال لا يمكن اختصارها في اللقطة المصورة...
ولعل في هذه النقطة، تتقاطع تجربتها مع ما كتبه الطاهر بن جلون في روايته "تلك العتمة الباهرة"، حين صوّر كيف يمكن للإنسان، حتى في أقسى ظروف القهر، أن يحتفظ بشعلة ضوء داخلية، لا تنطفئ بالعنف، بل تستفز نوعا من السمو، من القدرة على النظر من فوق، لا من فوقية...
إن موقف نيكوليتا ليس امتيازا نخبويا، بل خيارا مُكلفا. كان بوسعها أن تصمت، أو أن تهاجم، أو أن تطلب إنزال أقسى العقوبات. لكنها اختارت أن تكون شاهدة على خيبتها، لا بصفتها ضحية، بل بصفتها إنسانة تكتب، ولأنها تكتب فهي مجبرة على ألّا تتنصل من مبادئها حين تتعرض لاختبار الواقع...
في إيطاليا، حين عادت إلى بيتها، لم تكتب بلاغا قانونيا، بل كتبت تأملا. لم تختبئ خلف غضبها المشروع، بل سمحت لضميرها السردي أن يتحدث. كتبت في تدوينة لها:
"لقد قبضوا عليهم، نعم، والتهمة قد تكون محاولة قتل، لكني آمل إن كانوا شبانا في سن أولادي ألا تكون العواقب قاسية فتدمّر مستقبلهم، بل كافية فقط ليدركوا حجم الضرر الذي ألحقوه، والضرر الأكبر الذي كان يمكن أن يُلحقوه، لأنهم بالتأكيد لم يتوقعوا كل ما حدث."
في هذه العبارة، يتجلى ما هو أعمق من التسامح، يتجلى الموقف الفلسفي من الآخر، ليس كهوية، بل كاحتمال. فالشابين، رغم فعلهم العنيف، لم يُسقطا عند نيكوليتا موقعهم الإنساني. لم يتحولا إلى صور مسطحة. ظلت ترى فيهما ذلك الجانب المحتمل للإصلاح، ظلّ فيها مكان للتأمل في ما قادهم إلى هذه الزاوية. لم تبرّئهم، لكنها لم تختصرهم في لحظة سُجّلت بكاميرا...
لقد مارست ما يمكن تسميته بـ"الكتابة الأخلاقية"، تلك التي لا تكتفي بوصف الألم، بل تتجاوزه لتفكيك أسبابه. وهذا ما يمنح لحضورها، ككاتبة، قيمة تتجاوز النصوص. لقد وضعت نفسها في قلب المعادلة، ورفضت أن تكون الضحية النموذجية التي تستثمر آلامها في خطاب انتقامي...
الكاتب الحقيقي لا يُختبر في مبيعات كتبه، بل حين تُهدَد قيمه الشخصية. وفي لحظة مراكش، كانت الكاتبة واقفة فعلا، لا في الثلج، بل في قلب النار. لم ينادها أحد بصوت خافت، بل سُرقت من لحظة أمان كانت تعيشها، وسقطت إلى مستوى التجربة المادية للفوضى. ومع ذلك، لم تتخل عن صوتها، ذلك الصوت الداخلي الذي يجعل من الكتابة فعلا أخلاقيا، لا مجرد سرد...
هذه الحادثة، بكل ما فيها من قسوة، تطرح علينا سؤالا يتجاوزها: ما الذي يجعل مجتمعا ما ينتج شبابا يرون في السرقة حلا؟ وأي خلل يسمح بتحول الضحية إلى كتلة صامتة من الألم دون مساءلة السياقات؟ هل نحن فقط نريد عقابا أم نريد إصلاحا؟ وهل نملك الشجاعة لنفعل مثلما فعلت نيكوليتا، حين وضعت إنسانيتها فوق غضبها؟
الجواب ليس سهلا. لكنه يمر عبر تفكيك البنية الاجتماعية، فهم الهشاشة، إدراك أن الجريمة لا تأتي من العدم، وأن الضحية لا تفقد عمقها إذا اختارت أن تفهم. هكذا فقط نكون قد بدأنا، لا في مراكش فقط، بل في كل زاوية من هذا العالم الذي يحتاج إلى كثير من الكتابة، وكثير من الشجاعة

