• 7 حزيران 2022
  • نبض إيلياء

 بقلم : خليل العسلي 

 

 لقد تفاجأت كثيرا  صباح السادس من حزيران ، من حديث ابني  بعبارة عظم  الله اجركم جميعا !! مما أصابنا بالصدمة وقبل أن نرد عليه مستفسرين ، استطرد فورا  قائلا:   هل نسيتم ان اليوم هو ذكرى استشهاد جدي  في القدس على يد الجنود الإسرائيليين الذين تمركزوا على تلة مطلة على حي وادي الجوز وقاموا بإطلاق النار على كل  شيء يتحرك فكانت النتيجة كارثية لشباب الحي والذي قتلوا بأعداد كبيرة، وتشهد على ذلك حجارة و شوارع الحي الذي كان هادئا وديعا واصبح الدم عنوانه .

 وكانت المفاجأة اكثر عندما ردت عليه ابنتي الكبرى : انا انوي  زيارة قبر جدي في باب الأسباط لقراءة الفاتحة ، على قبره وقبر عمه ، فجدها لم ترها في يوم من الأيام في حياتها ، ولم تنادي عليه ذات يوم بعبارة جدو.. سيدو …  حتى انا لم اره ابدا ولم اناديه ذات يوم بلفظ بابا … او ابي .. او والدي ، بقيت محروما كما هو حال الكثيرين من المقدسيين من حنان الأب  فلقد استشهد وهو لا زال في العقد الثاني من عمره.

 المفاجأة سببها ان هذا الجيل لم ينس تلك الذكرى المؤلمة  ، ولم تنس في يوم من الأيام أن القدس محتلة ومقسمة وستبقى كذلك الى ان يغير الله  من حال الى حال.

 ولم ينس الجميع  أنه لا يوجد منزل او حي في القدس إلا وانتشرت فيه رائحة الدم ممزوجة برائحة البارود، واختلطت معها روائح جثث الشهداء التي بقيت في الطرقات لأكثر من يومين حتى سمح المحتل  الغازي لاهل المدينة ( كبار السن والنساء)  أن يدفنوا شهداءهم  باسرع وقت ، لدرجة ان جدتنا الكبرى ( الحاجة ام خليل ) قامت بسحب جثة والدي ( حفيدها)  ودفنته تحت شجرة التوت أمام المنزل وقامت بسحب جثث شباب في ريعان شبابهم ودفنتهم في ارض ملاصقة للبيت بدون أن تعرف من هم ، المشاهد كانت غاية في القسوة والوحشية كما قالت لنا جدتنا الكبيرة أكثر من مرة وكأنها تريدنا ألا ننسى  ما حدث ،  فهي لم تنس في يوم من الأيام ذلك الجندي الأردني النشمي المبتسم الذي كان يحمل بيده كسرة خبز وقطعة من الحلاوة النابلسية وفي يده الاخرى البندقية ، وكيف ان رصاصة الغدر عالجته قبل أن يقضم لقمة واحدة من كسرة الخبز التي بقيت عالقة في فمه  .رحمة الله عليه وعلى جميع الشهداء 

 نعم ان هذه اليوم يثير فينا نحن المقدسيين  بشكل خاص الكثير من الذكريات المؤلمة  المبكية التي عشناها. وحرصنا على نقلها لأبنائنا، وهم بالتأكيد ينقلونها للاحفاد من اجل ان يعرفوا ان  الحرب (إن صح التعبير في تسميها ذلك) تعني الموت والدمار والالم .

 في القدس كانت هناك معارك طاحنة في الشيخ جراح وفي باب الأسباط وفي أماكن اخرى، بعد ان قرر النشامى الاردنيون مساعدة أهل المدينة للصمود والبقاء دفاعا عن المدينة المقدسة ، ولهذا فان الجنود الإسرائيليين لم يرحموا احدا ، وصبوا جام غضبهم على من بقي من  الجنود النشامي دفاعا عن القدس  وأبناء المدينة ، وفضل المحتل  قطف أعمارهم قبل فوات الأوان.

في السادس من شهر الموت كما يسميه المقدسيون اي شهر حزيران  استشهد والدي ظهرا وبعد دقائق استشهد عمه ايضا بالقرب من المتحف الفلسطيني، هذا حال الكثيرين من العائلات المقدسية ، ولذلك عندما تقول اسرائيل انها تحتفل بتوحيد المدينة  فهذا يعني بالنسبة لنا يوم موت المدينة ، فالقدس كانت قبل الاحتلال عاصمة عالمية بكل المقاييس ، كانت  مدينة مزدهرة  اقتصادية ومحط أنظار السياح  من جميع أنحاء العالم ، كان بها فنادق أكثر من غالبية الدول العربية ، كان فيها مطار دولي في الوقت الذي كانت الدول العربية غارقة في الرمل ، كانت  فيها بنوك دولية  في الوقت الذي كانت فيه غالبية  الدول العربية تتعامل بالمقايضة .

القدس كانت عاصمة الصحافة والثقافة والفن ، كانت المدينة حلم كل عربي لكي يأتي للعيش فيها او العمل في احدى مؤسساتها ، وكانت مرسى الكثير من المسلمين الذين  قصدوها لتقديس حجتهم وبقوا فيها  ودفنوا في ترابها المقدس.

 عاشت القدس عصرها الذهبي في الفترة الاردنية بكل المقاييس، وللاسف فان هذه الفترة مختفية من كتب التاريخ وبعيدة عن عيون الباحثين الأكاديميين الذين إما عن قصد أو عن غير قصد يتجاهلون هذه الفترة، هذا التجاهل يخدم الرواية الصهيونية الاسرائيلية التي تقول ان القدس كانت فقيرة وسكانها همجيون شحاتون وان اسرائيل انقذتهم باحتلالها مدينتهم .

 ما علينا .

 المهم أنه اذا تذكر اولادي هذا اليوم فان الكثيرين من اولاد المقدسيين تذكروا ايضا هذا اليوم ،  وبالتالي فإننا سنترك المدينة ونحن مطمئنون أن القدس بايد جيل يعرف ماضيه و سيحدد مستقبله على ضوء ذلك .

 سوف يغادر جيلنا المدينة ليتجمع هناك في السماء مع من منعته بندقية المحتل من الاجتماع به في الدنيا ،  وهو الجيل الذي عاش الحرب وويلاتها من ساعات الاحتلال الأولى وحتى يومنا هذا .

 هذا الحيل سيغادر الدنيا وهو شاكر لله على  أنه لم يخن  في يوم من الايام وعدا قطعه  لوالده  او جده  بالبقاء في المدينة وأن ينقل هذا الوعد للأجيال القادمة ، شاكرا ربه أن أبناءه يتذكرون  ولا ينسون ، شاكرا ربه أنه لم يفرط بذرة تراب من مدينته التي عشقها أجداده واوقفوا كل ما يملكون من اجل القدس ،  وضحى الاباء من اجلها بأرواحهم .

 شاكرا ربه انه أتم الرسالة، وانه ان لم يتمكن من البقاء للعام القادم فإن هناك من سيتذكره بالخير ويكمل المسير.

حماكم الله يا ابنائي وبناتي يا مهجة القلب وعين القدس ، وحما الله أبناء  وبنات القدس جميعا.

 وللحديث بقية.