• 31 تشرين أول 2022
  • نبض إيلياء

 

بقلم : خليل العسلي 

 

 مرة اخرى نفشل نحن المقدسيون بتحويل المكان العام الى معلم ثقافي ورمزي لوجودنا ، فرواية المكان هي جزء من بناء الرواية المقدسية،  فهناك الآلاف من المباني في  حارات وأزقة واحياء البلدة القديمة وتستحق ان تكون جزءا من هويتنا وروايتنا للمدينة ، فهذه هي روح المدينة.

  هذه ما فكرت به وانا أقف أمام قصر إسعاف النشاشيبي " أديب العربية " في حي الشيخ جراح واتساءل: هل يرضى أديب العربية أن يكون حال منزله الذي كان محج الادباء والشعراء  كما هو عليه الآن ؟ والعديد من الاسئلة التي تراودني وانا اقف حزينا أمام هذا المبنى الاجمل  والاعرق في القدس الشاهد على شموخها وعظمة من كانوا قبلنا ، أما نحن فلم نحافظ على هذا الأثر بل عملنا كل ما باستطاعتنا على طمسه والتقليل منه اما عن جهل أو عن علم.

 انظر الى  درج القصر الذي يقودك الى مكتبه  واتخيل  كيف  أن  عمالقة  الأدب والفن والفكر كانوا يصعدون  هذا الدرج ذات مرة  ويتجولون في بستانه تحت أشجار الصنوبر في أمسيات القدس الساحرة، ويتسامرون بارقى حديث وعذب الكلام   .

 انظر الى غرفة مكتبه في الطابق العلوي  واتذكر قول ناصر الدين النشاشيبي الكاتب وابن شقيقة أديب العربية محمد إسعاف النشاشيبي " عندما استيقظ فجرا أرى النور لا زال مضيئا في مكتبه فاعرف أن أديب العربية يقرأ  أو يكتب حتى ساعات الفجر الأولى، وكان " لسان العرب" كما لقبه زميله  السكاكيني يقلب صفحات "عيون الأخبار" أو "نهج البلاغة.

 انظر الى القصر وتجدني أحدث نفسي بأن أديب العربية يبكي دما في قبره بسبب الحالة التي وصل لها قصره ، وأن القائمين عليه لم يحافظوا عليه كما اوصى بذلك ناصر الدين النشاشيبي الذي  سلم القصر الى السيدة "هند الحسيني" مؤسسة دار الطفل العربي مقابل مبلغ زهيد فقط من اجل الحفاظ على ذكرى إسعاف النشاشيبي ، والإبقاء على ارثه الثقافي الحضاري الإسلامي ،  بان يكون هذا المكان مركز إشعاع ثقافي مقدسي من القدس للعالم الإسلامي والدولي على حد سواء ، وبسبب غياب الاستراتيجية الواضحة والرؤية بعيدة المدى  تحول ذلك المكان لمجرد مكتبة  وكافتيريا ، وهكذا لم يتم المحافظة على ذكرى  أديب العربية  "محمد إسعاف النشاشيبي" الذي عاش  يغنى موال الله والرسول والقرآن واللغة والتراث في ذلك القصر وأفنى عمره في شراء المخطوطات الأدبية النادرة وجمعها  وضمها في المكتبة الغنية التي تبارى الجهلة واللصوص من بني العرب واليهود في سرقتها وحرقها وتبديدها.

 ولا زلت اذكر ان الكاتب ناصر الدين النشاشيبي كان قد طلب أن يتم تحويل قصر إسعاف النشاشيبي إلى مقر للدراسات الإسلامية المقدسية ، واذكر انه تم  اطلاق جائزة الأبحاث الإسلامية ، ولكن حتى هذا لم يتم احترامه من قبل القائمين الذين استخفوا بهذا الإرث العظيم.

 للأسف لم يتم احترام هذا الطلب ، وبدل ذلك تحول الطابق الاسفل الى كافتيريا للأكل والشرب والأحاديث الجانبية التي لا تمت بصلة لعراقة المكان وروحه.

 "محمد إسعاف النشاشيبي" كان الجسر الأدبي والقومي الذي يشد مدينة القدس الى القاهرة وبيروت ودمشق ، ولا زالت ابيات الشاعر العراقي الذي جلس مع النشاشيبي في الحديقة التي أصبحت كافتيريا  تتردد في غرف القصر:

 لأجعلن إلى بيروت منتسبي                لعل بيروت بعد اليوم تؤويني

قد كان في الشام للأيام مذ زمن            ذنب محته الليالي في فلسطين 

إذ كان فيها النشاشيبي يسعفني                وكنت فيها خليلا للسكاكيني

وكان فيها ابن جبر لا يقصر في             جبر انكسار غريب الدار محزون 

ان كان في القدس لي صحب غطارفة      فكم ببيروت من غر ميامين

 

اذا  يبقى من قصر النشاشيبي؟!

 حتى اللغة العربية التي كانت رايتها مرفوعة فيه لم تعد  تحترم اطلاقا ، حتى من قبل الضيوف او من يطلقون على انفسهم لكتاب ، الذين ينصبون المجرور ويرفعون المنصوب ،  مما يزيد من عذاب روح صاحب الق.

 كان من المعروف عن النشاشيبي أنه كان متحمسا للغة العربية عارفا بها وادابها ، فلقد قال في خطبه الكثيرة المتعددة " إن الخلل يكمن في فقد الحمية اللغوية والتحمس لها ، وليس في معرفة علومها وفنونها وحسب، وهذا ما اقطعه لكم ولها عهدا على نفسي… الا اهتم الا ببعث الهمم للإقبال عليها بحزم وعزم ، وهوى يخالط أعماق النفس.

 ولكن للأسف يا أديب العربية " محمد إسعاف النشاشيبي" ويا ابن اخته " ناصر الدين النشاشيبي "  لم تعد العربية الصحيحة هي التي تسود قصرك  ولا  تسبح في فضاءه  الثقافة والفكر والأدب، ذلك القصر  فقد لونه وطعمه وقريبا حتى شكله واحترامه.

 ان قصر أديب العربية محمد إسعاف النشاشيبي ليس مجرد مبنى جميل بل هو رمز للعربية والفكر والثقافة يجب الحفاظ عليه وعدم التعامل معه بطريقة سطحية لا تدل على قيمة هذا المبنى، فهو ليس مجرد صالة لاستضافة أدباء لا يفرقون بين الجار والمجرور وليس مقهى لتناول الكابتشينو وليس طابقا يمكن تأجيره لفئات لا تمت للمجتمع بأية صلة ولا تحافظ على أصالة المجتمع المقدسي المحافظ.

 حرام والله ان يتم تحطيم كل ما بناه وعمل من اجل  أديب العربية محمد إسعاف النشاشيبي في عقر داره ،  ولا حتى ابن شقيقته الكاتب ناصر الدين النشاشيبي الذي حرص كل الحرص على نقل هذا المبنى الجميل لجهة تحافظ عليه  بناءا وروحا.

ما إن غاب ناصر الدين عن الدنيا حتى تدهور المكان ولم يعد المركز الإسلامي للدراسات المقدسية  كما كان يرغب فيه.

 أيها القائمون على قصر إسعاف النشاشيبي أعيدوا النظر في طريقة تعاملكم مع هذا المكان فهو ليس كأي مكان آخر …. وإلا .فإن الأجيال القادمة  لن ترحمكم …

 وللحديث بقية ..