- 22 آب 2022
- من اسطنبول
بقلم : د كاظم المقدادي
ربما لا يعرف السلطان محمد الفاتح ان "القسطنطينية " التي فتحها سنة 1453 م ، وكانت عاصمة البيزنطيين ستكون يوما .. الاجمل والابهى من بين مدن العالم .. فنعم الامير اميرها .. كما اشار الرسول العربي .. وهو يتنبأ بفتح المسلمين لها .
هي عشق السلاطين التي تمناها نابليون والفرنسيون عاصمة لامبراطوريتهم ، وهي مدينة اليونانيين في مخيلتهم وفي احلامهم ، وهي ايضا .. قرة عين الاتراك ، بعد ان استقرت في تاريخهم ، وترسخت بعواطفهم ، وعقولهم .
مدينة لاتمل ، ولاتكل ، نصفها اوربي ونصفها اسيوي ، كل مافيها جميل ، شوارعها العريضة ، وبزاراتها العتيقة ، ومتنزهاتها الفريدة ، وزهورها التي طرزت كل مكان فيها .. النوارس لا تفارق بحرها ، ومضيقها ، وخلجانها .. و القطط مدللة مستأنسة فيها ، والكلاب تجد من يعتني بها ويأويها .. اما السياح فيرفعون القبعة اعجابا ، لحاضرها وماضيها .
هي امرأة من حرير .. ترتدي فستانا شفيفا ، يبهر الناظر والضرير .. مثل ملكة الجمال ، يبهرك كل جزء فيها ..وهذا بائع الدوندرمة ، يعلن عنها جهارا نهارا ، ويتفنن بها ، يطويها ويلويها ، حتى يجبر شاريها .
مدينة .. تغويك بالتسكع في اناء الليل ، واطراف النهار .. من دون هدف ولا إشعار ، تحبها بشغف ، وتعيش معها نزهة بترف ، يعشقها الثري المتخوم ، ويتعلق بها المتسكع المحروم .. ولك ان تصبح سلطانا عظيما بليرة وخمسين ، بعد التقاط صورة بملابس السلاطين ، فتعود بذاكرة الدولة العثمانية .. التي سيطرت وحكمت العالم لمئات السنين .
مدينة .. يعيش فيها اصناف البشر ، الاسيوي والافريقي ، والاوربي ، والامريكي والروسي .. والياباني .. واخيرا اهتدى اليها السود لحسها الانساني .
ما ان تغادرها .. تشتاقها ، فتفكر بالعودة اليها ، مرات ومرات .. حتى تود الاقامة فيها كأمنية من اجمل الامنيات .
السفر .. الى مدن الحضارة والجمال .. اسطنبول وباريس وروما .. وغيرها من عواصم الأنسان ، تتأملها جليا ، فتشعر بقيمة النظام والأمان ، وبقيمة المكان والزمان ، وتحس بالفارق .. بين العيش في عواصم عربية ..شبعت من الموت ، والكبت والمرض ، وبين اسطنبول ، جنة الله على الارض .
تتجول في شوارعها ، وتقف امام مساجدها .. فتجد "خط الثلث " العربي يطرز قبب مساجدها ، ومداخلها و واجهاتها .
معظم جوامعها الكبيرة ، صممها المعمار التركي الشهير سنان .. اراد لها ان تكون اجمل من الكنائس التي بناها البيزنطيون مثل الكنيسة الشهيرة ( ايا صوفيا ) وما تلاها من اعمار وبنيان . مساجدها .. سميت باسماء اعظم الفاتحين والمؤسسين .. السلطان محمد الفاتح ، وسلطان احمد ، وسليم ، ومراد والسلطان سليمان القانوني ، وعبدالحميد الثاني .. اخر السلاطين .
على مر السنين ، ظل الحرف العربي ، والختم العربي ، ضالة الحاكم والمحكومين .
بعد اندلاع الحرب الثانية ، وانهيار الدولة السنية ، ومجيء حزب "الاتحاد والترقي" واختيار مصطفى كمال اتاتورك رئيسا لجمهورية تركيا الفتية ، وسقوط الباب العالي ، وعزل عبد الحميد الثاني .. عن الخلافة و الخليقة .
اتخذ اتاتورك اول القرارات لتقويض تاريخ الدولة العثمانية ، فاستبدل الحروف العربية ، بحروف لاتينية ، وجاء قومه بلغة تركية هجينة .. ثلثها اذري ، واخر عربي ، والاخير اعجمي .
كان الاتراك بعد اسلامهم ، يتوزعون على هضبة الاناضول وما حولها وجاورها .. بتحدثون اللغة الأذرية ، ويكتبون بالحروف العربية .. في المدارس والجامعات و الدوائر الرسمية .. وفي سنة 1928 تم احداث "هيأة اللغة التركية " مهمتها استبدال الحروف العربية بحروف لاتينية ، بأمر من حاكم الرعية ، مصطفى كمال اتاتورك ، صاحب الطلة البهية .. و وضعت الهيأة سقفا زمنيا .. من خمس الى عشر سنين مددا .. لكن الجنرال اتاتورك ، جعلها ثلاثة شهور عددا .. بل زاد على ذلك ، شارك بحماس بحملات التوعية اللغوية .. وكأنه اراد القول .. وداعا لموروث ومخلفات الدولة الأسلامية .. فاغلق المدارس الدينية ، ومنع الاذان باللغة العربية .. الى ان حل الاسطنبولي عدنان مندريس ، الفائز بالانتخابات البرلمانية ، وسط الخمسينيات .. والمتوج رئيسا للوزارات التركية ، متخذا قرارات تأريخية بأستعادة الهوية الاسلامية .. ولم يمهله جنرالات الانقلابات العسكرية طويلا .. حوكم وشنق لمخالفته بعض المواد الدستورية ، وتعاليم الدولة العلمانية .
التحول من الدولة العثمانية ، التي كانت مهيمنة على اجزاء كبيرة من الكرة الارضية .. الى جمهورية صغيرة فتية ، خلق تحديات ومشاكل بين الراعي والرعية .. بدءا من تغيير الابجدية التركية ، وانتهاء بقرارات وقوانين متسرعة وغبية .
منذ عام 1860 وبعد دخول المطابع الى الولايات العثمانية ، تنوعت الحروف المستخدمة .. بين ايغورية ومانوية وصينية .. الى ان استقرت لصالح اللغة العربية .
اليوم ..يتوهج التاريخ الاسلامي ، في اسطنبول وداخل المدن التركية .. ينبهر السائح العربي ..بكثرة الزخارف والنقوش بالحروف العربية ..نبصرها على واجهات اقدم البنايات العثمانية .. بناية البريد والتلغراف ، ودوائر مدنية وعسكرية ، وجوامع وصوامع تركية .
بفوز الحزب الاسلامي" العدالة والتنمية " المؤطر بالوطنية العثمانية ، بحلول سنة 2002 .. نشطت السياحة العربية في اسطنبول وفي المدن التركية .. وتحركت معها من جديد ، الحاجة الى ترجمان اللغة العربية .. في المتاحف والمتاجر ، والفنادق والمطاعم ، والاسواق ، والملاهي الليلية .
وصرنا نلاحظ لوحات خطت باللغة العربية ، على واجهات الصيدليات والمقاهي والمطاعم العربية ، وكانت للاشقاء السوريين حصة الاسد .. مما خلق منافسة واحتكاك بين الاتراك والجالية السورية .. انتجت مظاهر وتصرفات عنصرية .
ما يقارب خمسة ملايين عربي يقيمون اليوم فوق الاراضي التركية .. ثلثان من سوريا ، والبقية من عرب افريقيا الشمالية .. اما الجالية العراقية فهي حديثة العهد بالاقامة ، والعمل والتمتع بالاجواء التركية .. اغلبهم من المتقاعدين ، اشتروا عقارات واستقروا في اسطنبول وسكاريا وسمسون وطربزون ، وانقرة وانطاليا وألانيا ويلوا .. برضا وقبول و باحترام مأمول .. لكن الموجة الجديدة في ارتفاع الاسعار ، وتشديد قوانين الهجرة على الاجانب في الاقامة والسفر .. جعلتهم يعيدون حساباتهم من وقت لأخر .. وسط ذهول بتسريع الأجراءات المؤذية للمقيمين الاجانب ، و للجاليات العربية .
المقيمون العراقيون قلقون و يتساءلون .. اين المفر وفي العراق لامستقر ، ولا تطمين .. بعد ان تحكم باحوال البلد .. شلة من اللصوص ، والقتلة و المجانين ..
*كاتب عراقي