- 11 تشرين أول 2025
- من اسطنبول
اسطنبول - أخبار البلد - كتب أحمد هيمت:
لقد ذكرنا الصديق العزيز الكاتب المتألق "محمد تركي الربيعو" بروعة مدينة اسطنبول التي كانت وستبقى ذات تاريخ عريق لا زال قسم كبير من هذا التاريخ غير معروف بالنسبة للغالبية العظمى من الأتراك والعرب على حد سواء
فلقد خصص الصحفي الكاتب "محمد تركي الربيعو " مقالته الأسبوعية في جريدة
"القدس " العربية للحديث عن سيرة ذاتية لمكان غارق في التاريخ ويقع في قبل اسطنبول التاريخية أنها منطقة جمبرلي طاش القريبة من الجامع الازرق او السلطان احمد .
ويسعدنا في "أخبار البلد" ان نعيد نشر مقالة الصديق الربيعو:
عند الحديث عن السيرة الذاتية، يتبادر إلى أذهاننا عادة سيرُ السياسيين أو المثقفين والفنانين، بل حتى السير الذاتية لبعض أنواع الطعام والشراب، مثل الحمص، أو الشاي . وما يلفت النظر في السنوات الأخيرة هو ظهور كتب جديدة باتت تمنح أهمية متزايدة لما يعرف بـ"سيرة الأشياء" أو «السيرة الذاتية للأماكن» في المدن العربية والإسلامية. هذا التوجه يسعى إلى قراءة التاريخ من خلال الأشياء ذاتها، بوصفها كائنات حية تحمل ذاكرة وثقافة وتجارب بشرية متراكمة.
ومن الأمثلة اللافتة على هذا النوع من الدراسات، كتاب «حمام چمبرلي طاش في إسطنبول: السيرة الذاتية لحمام تركي». في هذا الكتاب، قررت المؤرخة النمساوية نينا ماكاريج أستاذة التاريخ في جامعة كوتش التركية، أن تروي لنا قصة أو «سيرة ذاتية» لحمام تركي عريق هو حمام چمبرلي طاش القديم. اسم الحمام يعني بالتركية «العمود ذو الحلقة» ويشير إلى عمود قسطنطين الشهير الموجود في إسطنبول، الذي كان في الأصل عمودا رومانياً نصب عام 330م في ميدان قديم يسمى اليوم ميدان چمبرلي طاش القريب من الحمام.
يقع هذا الحمام في أحد أركان حي بيازيد العريق، وهو حي يمتاز بطابعه التاريخي، إذ يزوره يومياً آلاف الزوار من مختلف أنحاء العالم. يقع الحمام على مقربة من السوق الكبير، غراند بازار، في قلب هذا الحي الحيوي. المفارقة أن كثيرين يمرون من أمام هذا المبنى، دون أن يدركوا أنه في الأصل حمام تاريخي، إذ لا يوحي شكله الخارجي بكل ما يحتويه من قصص وطبقات زمنية.
ليس هذا الكتاب دراسة عن «الحمام التركي» كمفهوم عام، بل هو سيرة مكان واحد بعينه: حمام چمبرلي طاش. ومن خلال تتبع تاريخه، نتعرف على ملامح الثقافة العثمانية والسياسة والاقتصاد والهوية الحضرية، كما تتابع تحولات العلاقة بين الماضي والحاضر في تركيا الحديثة. تقدّم المؤلفة الحمام، كما لو كان كائناً حياً له ولادة ونسب، ويمر بمراحل الطفولة والشباب والشيخوخة، وربما الولادة الثانية. هذه المقاربة السردية غير التقليدية تسمح بفهم الحمام من زوايا متعددة: معمارية واجتماعية واقتصادية وروحية، وتظهر كيف ارتبط هذا الفضاء اليومي بتحولات كبرى في بنية الدولة والمجتمع.
شيّد الحمام في أواخر القرن السادس عشر بأمر من نوربانو سلطان، زوجة السلطان سليم الثاني (1566ـ 1574 (وأم السلطان مراد الثالث، وصممه المعماري العثماني الشهير سنان. كان الهدف أن يخدم السكان قرب عمود قسطنطين ومسجد أتيك علي باشا، وليكون أيضاً وقفاً خيرياً يعود ريعه لأعمال البر. هذا الطابع الوقفي جعل الحمام مؤسسة دينية واقتصادية في آن واحد، تدر دخلاً وتؤدي وظيفة اجتماعية.
خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر، كانت الدولة العثمانية في أوج توسعها، وارتبط بناء الحمامات بترسيخ الشرعية الإمبراطورية وبناء البنية التحتية الحضرية. لكن مع القرن الثامن عشر، بدأت بوادر التغيير مع بروز سياسة مالية مركزية، أدّت بشكل مفارق، إلى خصخصة جزئية لبعض الحمامات. في القرن التاسع عشر، ومع إصلاحات التنظيمات، فقدت الحمامات كثيراً من مكانتها لصالح مشاريع التحديث العمراني من شوارع وساحات ومبانٍ على النمط الأوروبي.
مع القرن العشرين، تغيّرت أنماط النظافة الشخصية، وتقلّصت أهمية الحمامات العامة، لكن چمبرلي طاش نجا من الاندثار بفضل موقعه في قلب إسطنبول، فاستمر كمرفق عام، ثم تحول إلى وجهة سياحية. أصبح جزءاً من التجربة الثقافية التي يبحث عنها الزائرون لاستكشاف «روح الشرق» ولمس بقايا التاريخ العثماني في أجواء مفعمة بالبخار والعطور. تقول المؤلفة إن الحمام اليوم يسمع لغات العالم: التركية، والإنكليزية، واليابانية، والروسية، والإسبانية وغيرها، إذ يجتمع في قببه زوار من كل الجنسيات، بعضهم يبحث عن الراحة الجسدية، وبعضهم عن تجربة ثقافية، وآخرون عن الغرابة التي تحيي الخيال الاستشراقي حول إسطنبول. منذ إنشائه، خضع الحمام لإصلاحات متكررة، بسبب الحرائق والزلازل وتغيّر أنماط الاستخدام، لكن هيكله العام ظل ثابتا. قببه الحجرية وأنظمة التدفئة تحت الأرض بقيت شاهداً على مدى غنى العمارة العثمانية، بينما استمر القائمون عليه في صيانته ليظل صالحاً للاستخدام. لم يكن الحمام مكاناً للنظافة فقط، بل فضاءً اجتماعياً يجتمع فيه الناس من مختلف الطبقات لتبادل الأخبار، أو لإقامة طقوس الزواج، أو الولادة، أو لممارسة علاجات جسدية بالبخار والتدليك. كان يعمل فيه عدد كبير من الحرفيين، من المدلكين إلى المشرفين على الأوقاف، ما جعله مركزاً صغيراً للحياة الاقتصادية والاجتماعية في الحي.
مع دخول القرن التاسع عشر، بدأ الحمام يواجه تحديات الحداثة: تمدد المدينة، وتراجع عدد الزوار المحليين، مع ظهور الحمام المنزلي، وتغير مفهوم الرفاهية. ومع ذلك، بقي جمبرلي طاش مخلصاً لجوهره، محتفظاً بطرقه التقليدية في التسخين والاستحمام، حتى مع إدخال بعض المرافق الحديثة لضمان الراحة. هذا التوازن بين التقليدي والحداثة هو ما حفظ له مكانته حتى اليوم. تُظهر الدراسة كيف يمكن لفضاء واحد أن يعكس تاريخ مدينة بأكملها، وتاريخ نظافة العامة وطرقهم في الاستحمام. فحمام جمبرلي طاش كان في مراحل مختلفة: مؤسسة خيرية، ثم مرفقاً مدنياً، ثم معلما تراثياً وسياحياً. ومن خلاله يمكن قراءة تطوّر الوقف العثماني، والسياسات الاقتصادية، وحتى العلاقة بين الدولة والمجتمع في فترات التحوّل.
ذاكرة أهل الحمام
تسلّط الكاتبة الضوء على حياة العاملين في الحمام، النساء والرجال الذين حافظوا على الطقوس والمهارات التقليدية عبر الأجيال. هؤلاء ليسوا مجرد موظفين، بل حملة للذاكرة الحية، يمثلون استمرارية التقاليد وسط عالم سريع التغير. يغدو الحمام بفضلهم فضاءً للتواصل الاجتماعي والتعليم غير الرسمي، حيث يتعلّم الزوار العادات القديمة وأصول الحمام التركي. في العقود الأخيرة، ومع ازدهار السياحة في إسطنبول، أصبح جمبرلي طاش عنصراً أساسياً في الرحلات السياحية المنظمة، إلى جانب آيا صوفيا والبازار الكبير. هذا الدور الجديد أضاف له بعداً اقتصادياً وثقافياً مهماً، فقد ساهم في تنشيط المحلات المجاورة، والمطاعم، وورش الحرف اليدوية، التي تعتمد على الزوار. كما ساعد على نشر صورة التراث التركي عالمياً عبر الأفلام والمجلات والبرامج التلفزيونية، التي تستعرض تجربة الحمام التركي التقليدي. تحوّل الحمام إلى مساحة لقاء بين الثقافات، يجتمع فيها الزوار من الشرق والغرب، ويتبادلون التجارب والانطباعات. ومن خلال هذا التفاعل، أصبح الحمام ليس فقط مكاناً للنظافة الجسدية، بل رمزا للتواصل الحضاري، وجسراً بين الماضي الإمبراطوري والحاضر العالمي.
استغرق إعداد هذا الكتاب سنوات طويلة من البحث الميداني والأرشيفي. درست المؤلفة الوثائق العثمانية، والمخططات، والصور، والمراسلات المتعلقة بالوقف، وأجرت مقابلات مع العاملين في الحمام، وجمعت شهاداتهم عن الحياة اليومية فيه. ترى الكاتبة الحمام كائناً «عجوزاً نبيلاً» يستحق أن تُروى سيرته قبل أن يطويه النسيان، وتهدي كتابها «كخدمة متواضعة» لإحياء ذاكرته، شاكرة كل من ساهم في دعمها من أساتذة وباحثين وعمال الحمام أنفسهم، الذين «غسلوها وأطعموها السميت والشاي»، كما تقول.
ما جعلنا نتطرق للكتاب، أنه يُظهر أن التاريخ لا يُكتب فقط عن الملوك والمعارك، بل يمكن أن يُروى من خلال حياة مبنى واحد. فالحمام ليس مجرد أثر معماري، بل مرآة للتحولات الاجتماعية والسياسية، التي عرفتها إسطنبول منذ القرن السادس عشر حتى اليوم. ومن خلال «سيرته الذاتية» يكتشف القارئ كيف تتقاطع العمارة مع الذاكرة، والدين مع الاقتصاد، والجسد مع الهوية، وكيف يمكن أن يكون الكاتب مدخلاً لقراءة سير ذاتية لحمامات موازية في المدن العربية، مثل حمام نور الدين الشهيد في دمشق، والذي بقي أيضا صامداً لقرابة ثمانية قرون وأكثر، رغم كل التحولات التي عرفتها المدينة.