- 10 حزيران 2025
- حكايات مقدسية
القدس - أخبار البلد - كتب نافذ عسيلة
قرب بطريركية الروم الأرثوذكس في البلدة القديمة، ظل صوت المطرقة شاهداً على استمرار واحدة من أقدم الحرف في القدس، وهي صناعة الطرابيش. هذه القبعة الحمراء لم تكن مجرد غطاء للرأس، بل كانت تعبيراً عن الهوية والانتماء، تعكس ما مرت به المدينة من تحولات. أما اليوم، فمع قلة الطلب وندرة الحرفيين، تراجعت هذه الحرفة تحت وطأة تحديات كثيرة.
لم يعد الطربوش مجرد حرفة تقليدية، بل تحول إلى رمز لذاكرة نابضة، يحمل في توثيقه توثيقاً لصمود مدينة ترفض الغياب رغم الصراع السياسي ومحاولات التهميش.
السياق التاريخي والاجتماعي
الطرابيش لم تكن يومًا مجرد أغطية للرأس، بل حملت في طياتها رموزًا ومعاني متعددة ارتبطت بهويات دينية واجتماعية وثقافية، خاصة في مدينة القدس، في الفترة العثمانية برز الطربوش كجزء أساسي من الزي الرسمي لبعض الطبقات مثل العلماء والموظفين الحكوميين وأصبح علامة فارقة تدل على المكانة والانتماء.
اللون الأحمر للطربوش ارتبط في فترات تاريخية معينة بالانتماء السني، مما يكشف كيف تحولت هذه القطعة البسيطة إلى وسيلة للتعبير عن الانتماءات الدينية والسياسية، ولم يقتصر هذا الدور على القدس بل كان جزءاً من مشهد أوسع في المدن العثمانية التي تأثرت بالتقاليد الرسمية والدينية في الملبس.
مع بداية القرن العشرين وانتهاء الحكم العثماني، بدأ الطربوش يفقد مكانته تدريجياً حتى كاد يختفي من الحياة اليومية، ليبقى اليوم رمزاً تراثياً يُنتج غالباً للسياح أو للمناسبات الفولكلورية.
ورغم تراجع دوره العملي، لا يزال الطربوش يحمل قيمة رمزية، يظهر اسمه في مطاعم ومقاهي، ويرتبط في الذاكرة بأغنية ارمي هالطربوش لنصري شمس الدين. تحوله إلى منتج تراثي لا يلغي عمقه التاريخي، بل يثير أسئلة حول معنى الحفاظ على الرموز في زمن التغير السريع.
العملية الحرفية والتقنيات
تُصنع الطرابيش تقليديًا من الصوف المغزول والمكبوس بعناية، حيث يُعالج الصوف يدويًا لضمان تماسكه وثبات شكله وتُزين أحيانًا بخيوط حريرية وشرشبية سوداء تضيف لمسة جمالية تعكس الذوق والمكانة الاجتماعية.
وتعتمد هذه الحرفة على أدوات تقليدية مثل المكابس اليدوية والإبر الكبيرة لتشكيل الطربوش بدقة، وهي أدوات حافظت على حضورها رغم تغير الوسائل وتطور تقنيات التصنيع. هذه الحرفة تتطلب مهارة عالية وصبرًا طويلًا، وغالبًا ما تنتقل من جيل إلى آخر داخل العائلات، في إطار علاقة وثيقة بين الحرفة والهوية العائلية أو الطائفية، لكن مع مرور الوقت وتراجع الإقبال على هذه الصناعة أصبح عدد الحرفيين المتبقين قليلًا جدًا، ما ينذر بخطر حقيقي على استمرارية المهنة.
غياب الدعم المؤسسي، وندرة من يرغبون في تعلم المهنة إلى جانب ضغوط الحياة المعاصرة، كلها عوامل تسرع من تآكل هذا التراث الحي. الحفاظ على هذه الصناعة لا يتطلب فقط التوثيق، بل دعمًا حقيقيًا للحرفيين وخلق وعي مجتمعي بقيمة هذه المهن كجزء من الذاكرة الثقافية للمدينة.
الدلالات الرمزية والهوية
مثلت الطرابيش نقطة التقاء بين الهويات المحلية المقدسية ومظاهر السلطة الحاكمة، سواء في العهد العثماني حيث كانت جزءًا من الزي الرسمي للموظفين والعلماء، أو في الحقبة البريطانية التي ورثت بعض الرموز الشكلية مع تغييرات في المعنى والدلالة. كان الطربوش في تلك الفترات رمزًا للانتماء، ليس فقط إلى طبقة اجتماعية معينة، بل أيضًا إلى منظومة سياسية وهوية ثقافية أوسع.
اليوم، ومع تلاشي دوره الوظيفي وانحسار حضوره في الحياة اليومية، يُنظر إلى الطربوش بوصفه تذكارًا من زمن مضى، يحمل في مظهره البسيط قصة مدينة عرفت تعددية دينية وثقافية غنية قبل التحولات السياسية الكبرى التي عصفت بها خلال القرن العشرين.
لم يعد الطربوش مجرد أثر مادي، بل تحول إلى رمز بصري لذاكرة مدينة كانت يوماً ملتقى لهويات متعددة. في الحاضر، يثير حضوره تساؤلات حول ما فُقد من مظاهر التعايش والتنوع مع تصاعد التوترات والصراعات. استعادة الطربوش اليوم لا تقتصر على الحنين، بل تحمل دعوة لإعادة التفكير في سبل الحفاظ على رموز تاريخية تعبر عن ماض مشترك وهوية حضرية جرى تهميشها أو طمسها.
التحديات المعاصرة
مع تراجع الطلب على الطرابيش وندرة الحرفيين الشباب الراغبين في تعلم هذه المهنة، باتت تُباع في الغالب كقطع تذكارية أو تحف سياحية وهو ما قد يُفقدها معناها الأصلي كرمز ثقافي واجتماعي متجذر في الحياة المقدسية. هذا التحول من وظيفة يومية إلى سلعة استهلاكية يفرغ الطربوش من قيمته الرمزية ويختزله في مظهر خارجي لا يعبر عن عمقه التاريخي.
في هذا السياق، تصبح حماية الطربوش أكثر من مجرد الحفاظ على منتج تقليدي، بل جزءًا من معركة أوسع للدفاع عن الهوية الثقافية لمدينة تواجه محاولات مستمرة لتغيير معالمها وطمس ذاكرتها.
البعد في التوثيق
يمكن أن يشكل توثيق حكايات الحرفيين المتبقين، مثل عائلتي النتشة والدجاني، مدخلًا لفهم أعمق لصناعة الطرابيش، ليس فقط كحرفة تقليدية، بل كجزء من شبكة معقدة من العلاقات بين الإنسان والمكان والمادة. فهؤلاء الحرفيون لا يصنعون منتجًا فحسب، بل يحملون في ذاكرتهم تجارب طويلة مرتبطة بالمادة الخام وأساليب العمل اليدوي والتحولات الاجتماعية والسياسية التي انعكست على المهنة.
توثيق روايات الحرفيين يكشف كيف تغيرت العلاقة مع الطربوش عبر الأجيال، في ظل تراجع الإقبال وتحديات السوق السياحية وغياب الورش الجديدة، وسط صراع أوسع على الهوية. أما السياح الذين يشترونه اليوم، فهم غالباً يبحثون عن صورة نمطية للشرق القديم، دون فهم خلفيته التاريخية والثقافية، مما يثير تساؤلات حول استهلاك التراث وفصله عن سياقه.
صناعة الطرابيش في القدس ليست مجرد حرفة، بل امتداد لذاكرة جماعية تكشف عن تاريخ المدينة كمكان تداخلت فيه التجارة والدين والثقافة. لمن يرغب في التعمق، يمكن الرجوع إلى كتاب أغطية الرأس في المجتمع المقدسي للباحث ناصر الدين الشاعر الذي يقدم قراءة تفصيلية لدلالات الطربوش في سياقاتها المتغيرة.