• 17 آذار 2023
  • حارات مقدسية

 

بقلم : د. زيدان كفافي

 

عقدت مؤسسة شومان ومؤسسة الفكر العربي يوم الثلاثاء الموافق 13/ 3/ 2023م ندوة بعنوان "المدن العربية  بين العراقة والاستدامة"، وبرأي أن معالجة المدينة العربية أمر ضروري وهام، وبرأيي ومع كل الاحترام أن المشاركين في الندوة قد دقّوا (ضربوا) الباب. وحيث أن العنوان يدور حول المدينة العربية وعراقتها، وبما أن المدينة هي مكان وسكان، فقد تحدثت معالي وزيرة الثقافة هيفاء النجار في كلمتها الترحيبية حول سكان المدينة . وبما أنني كنت قد تحدثت في كتاب صدر لي عام 2005 م  عن دار القوافل بالرياض بالمملكة العربية السعودية   عنوانه "أصل الحضارات الأولى"، عالجت فيه أصل المدينة في بلاد المشرق، أود أن أقدم لقرّاء خواطر ي مقتبسات مما نشر حول الموضوع.

اختلف الدارسون والمشتغلون بدراسة الحضارة الإنسانية في تعريفهم لمفهوم الثقافة والحضارة والمدنية (وما تعنيه هذه المصطلحات): وفي الغالب، نجد أن كثيرًا منهم يخلطون بين تعريف الحضارة والمدنية ويستخدمون الكلمتين بنفس المعنى، علمًا أن المدنية هي مرحلة متطورة من الحضارة. وحتى نستطيع فهم هذه المصطلحات لا بد لنا من دراسة ماضي المجتمعات البشرية وما يمكننا التعرف إليه من خلال دراسة وتحليل المخلفات الإنسانية من عمارة وقطع أثرية وبقايا حيوانية ونباتية.  وهذا يعنى بالضرورة محاولة معرفة أصول الإنسان وتفاعله مع البيئة التي عاش فيها حتى وصل إلى مرحلة فكرية ومادية متقدمة.

شهدت منطقة بلاد الشرق الأدنى القديم في النصف الثاني من الألف التاسع قبل الميلاد توصل الإنسان لمعرفة الزراعة والاستقرار في أماكن ثابتة طيلة أيام السنة. وهذا الأمر هو في رأينا السبب الرئيس في تعدد الثقافات والدخول إلى الحضارة ومن ثم إلى المدنية. ولقد بلغ الإنسان ذروة تقدمه في بلدان الشرق الأدنى القديم عندما استطاع سكان وادي الرافدين ووادي النيل خلال النصف الثاني من الألف الرابع قبل الميلاد التوصل لمعرفة الكتابة، وبذلك نقلوا المجتمعات البشرية من عصور ما قبل التاريخ إلى العصور التاريخية. ورافق هذا الأمر التحول الكبير الذي حصل في طبيعة المجتمعات البشرية من حيث الانتقال لمرحلة الدولة أو دولة المدينة.

يمكننا القول أن المجتمعات المتمدنة تسود حاليًا على غيرها من المجتمعات خاصة في العالم الغربي.  ويقدر بعض العلماء أن ما نسبته 65% من عدد السكان تعيش داخل مدن في العالم المتحضر. أما من الناحية التاريخية، فإن عمر المدينة لا يتجاوز الستة آلاف عام، وهذا يعني أن نسبة ضئيلة فقط من الناس عبر التاريخ قد سكنت في مدن.  وعلى الرغم من ضآلة العدد لكن تأثير سكان المدن على الحياة الاجتماعية كبير جدًا، وهذا الأمر دفع كثير من العلماء للبحث في التمدن وهي كلمة مشتقة من كلمة "المدينة".  أي أنها المكان الذي حصلت في تطورات ثقافية وحضارية على مستوى عالٍ مثل الفنون والعمارة. وعلى العكس من هذا فإن المدينة تعكس صورة سلبية عن نفسها عند بعض الناس بسبب أن مجتمعها يسوده الفقر أو المرض والجريمة والفساد. وفي الواقع فإن نظرة  الإنسان أو الشخص للمدينة تعتمد على مكانته الاجتماعية وثقافته ومركزه العلمي والعملي ونظرته هو للأشياء.

وعلى أي حال، فإن عند دراستنا للمدينة تبرز عدة تساؤلات أهما:  ما هو تعريفنا للمدينة؟  وما هي المقومات التي يجب توافرها حتى نسمي المكان: مدينة؟ وكلا السؤالين مرتبطان بأصل المدينة، أي لماذا وكيف نشأت المدن؟ وما هي المراحل التي مرت بها مجتمعاتها حتى وصلت إلى مرحلة التمدن؟

تعني كلمة تمَّدن باللغة العربية تخلق بأخلاق أهل المدن، وانتقل من الهمجية إلى الأُنس والظرف، وتَمْديَنَ: تنعّم وأن المدينة هي مجتمع بيوت يزيد عددها على بيوت القرية أو هي المصر الجامع . وأما باللغة الإنجليزية فإن كلمة (Urban) والتي تعني تمدن مشتقة من الكلمة اللاتينية (Urbs) ومعناها بلده (Town) وأما باللغة اليونانية فإن كلمة  (Polis) هي الدالة على معنى المدينة وعلى هذا الأساس نجد أن مصطلح (Decapolis) اليونانية يعني المدن العشر باللغة العربية إذ أن كلمة (Deca) تعني عشر و (Polis) مدينة. من هنا نرى أن التمدن والمدنية قد ارتبطتا بحياة المدينة، لكن المدينة لا تعني بالضرورة فقط المنازل والشوارع والناس، لكنها تشمل أيضًا الممارسات الإنسانية غير المحسوسة أو المرئية مثل النواحي الفكرية والعقائدية والثقافية الأخرى.  وعلى أية حال فإنه يجب الاعتراف أنه لم يستطع الدارسون حتى الآن الاتفاق على وضع تعريف موحد لمصطلح المدينة بسبب الاختلافات الحاصلة في فهم أشكال ومظاهر الحياة العامة فيها.  ويتجلى هذا الأمر بكل وضوح في الوقت الحاضر بين الدارسين في أوروبا وأمريكا وغيرهم في العالم العربي.  إذ أننا نجزم القول أن تعريف ومقومات المدينة في الغرب تختلف عنها في العالم الثالث...!

وهنا يبرز سؤال : هل هناك تشابه بين المدينة المعاصرة والمدينة في العصور القديمة؟. وللإجابة على هذه التساؤلات والاختلافات في وجهات النظر قدم لنا العلماء مجموعة من الآراء نجملها بما يلي:

أن مفهوم المدينة يعادل مفهوم الحضارة ولكن المستوى الاجتماعي للمدينة هو الأعلى.  ومن العلماء الذين نادوا بهذا م.فيبر وذكر بأن مراكز التمدن الأوروبية تتصف بما يلي:  أنها محصنه، بها سوق، لها محكمتها وقانونها الخاص، لها ارتباطات من نوع ما، مستقلة ولها قيادة واحدة. وكذلك رأى بعض العلماء الذين يساندون هذا الرأي ضرورة الفصل بين مجتمع المدينة ومجتمع الريف المحيط بها. وهناك مجموعة من  النظريات والمواصفات الأخرى للمدينة لا مجال لذكرها في خاطرة.

نجد أنه من الصواب القول بأن عملية الوصول إلى مرحلة المدينة قد اختلفت من منطقة لأخرى في هذا العالم. كما اختلفت أشكال ومعاني ودرجات المدنية لدى المجتمعات البشرية وذلك باختلاف الأحوال الاقتصادية والثقافية.  وحيث أن العلماء يعتقدون أن الناس في بلاد الشرق الأدنى القديم قد وصلوا إلى هذه الحالة المتقدمة في حياة الشعوب قبل غيرهم من المناطق الأخرى، فإننا نطرح هذا السؤال ونحاول الإجابة عليه: كيف توصل الإنسان إلى المدنية في بلاد الشرق الأدنى القديم؟  وما هي التقنيات وأشكال التنظيمات الاجتماعية والسياسية التي كانت قائمة قبل مرحلة التمدن؟

مرت المجتمعات البشرية في منطقة بلاد الشرق الأدنى القديم بعدة مراحل قبل ظهور المدن الأولى في بلاد الرافدين ووادي النيل.  وجاءت أقدم البقايا الإنسانية في هذه المنطقة من وادي الزرقاء  (تشكيل  دوقرة/السخنة الجيولوجي) وحفرة الانهدام الأفرور آسيوية (موقع العبيدية في فلسطين) ومن جبال الكرمل والجليل في فلسطين وجبال زاغروس (كهف شانيدر في العراق). وخلال هذه المرحلة التي عاش فيها الإنسان متنقلاً وجامعًا للقوت نجد أنه أقام في الكهوف والملاجئ الصخرية الطبيعية وبعض المواقع في الهواء الطلق.   ولقد عثر العلماء على بعض الهياكل العظمية لإنسان الهومو-إركتوس في بعض المواقع مثل في الندوية في سوريا وإنسان نياندرتال في بعض مغاور فلسطين مثل الطابون والقفزه  .وبقي الحال على ما هو عليه حتى قبل حوالي 000ر20 ألف عام عندما بدأ يقيم مدة طويلة من الوقت في مكان واحد. وأطلق العلماء على هذه الحالة اسم مخيمات أو قرى الصيادين  .

لكن الحال تغير مع تغير الأحوال البيئية خلال الآلف العاشر قبل الميلاد، عندما توصل الإنسان لمعرفة الزراعة أتبعها في مرحلة لاحقة بتدجين الحيوانات، وأخذت المجتمعات الزراعية تبنى لنفسها بيوتًا أقامتها في أماكن استقرار دائمة تركزت على الوجه الأغلب بالقرب من مصادر المياه الدائمة. وانتشرت هذه القرى فوق مناطق شاسعة من بلاد الشرق الأدنى، وفي بيئات مختلفة فأقيم بعضهابالقرب من سواحل البحار أو شواطئ الأنهار أو في حفرة الانهدام الأفرو-أسيوية أو على سفوح وقمم المرتفعات الجبلية. وإذا كان الإنسان قد عرف الزراعة في بداية هذه المرحلة إلاّ أنه لم يتخل نهائيًا عن صيد الحيوانات.  وأصبح اقتصاد المجموعات البشرية مركبًا يعتمد الزراعة والصيد وتربية الحيوانات وأدى هذا بالإنسان أن يطور أدواته لتتلائم ومتطلبات معيشته اليومية.  فكان أن اخترع أدواتاً جديدةً مثل الأواني الفخارية واستخدام تقنيات جديدة ليزيد من عدد أدواته وآلاته، وينوع في أشكالها لتخدم وظائف جديدة طرأت مع طبيعة الحياة الجديدة. فكان لا بد للإنسان في مرحلة لاحقة أن يستخدم مواد خام جديدة ليصنع منها أدواته.  فبالإضافة للحجارة والخشب والجلود توصل الإنسان خلال الألف الخامس قبل الميلاد إلى معرفة صهر وطرق معدن النحاس ليصنع منه أدواتاً  جديدةً. 

لقد أدى استقرار الناس في قرى صغيرة تطورت لاحقًا إلى أخرى أكبر مساحة إلى تطور في الاقتصاد والمجتمع.  وجاء هذا التطور مبنيًا على تطور في الفكر الإنساني. فمثلاً نعتقد أنه وخلال مرحلة القرى الزراعية الأولى أصبحت العائلة الممتدة هي الأساس في بنية المجتمع لأنها هي القادرة على القيام بتنفيذ عمليات حراثة الأرض وبذر الحبوب وحصد المزروعات وغيرها من الأعمال . ولتنفيذ هذه العملية كان لا بد أيضًا من استحداث أدوات جديدة بأشكال مختلفة مصنوعة من عدد من المواد المختلفة وذلك باستخدام تقنيات متعددة.  وقد نتج عن هذا الوضع: 

  1. ظهور الحرف والحرفيين في المجتمع.
  2. أصبح هناك فائض إنتَّاج نتيجة لزيادة الخبرات في عمليات الإنتاج.  

وما كان هذا الأمر ليتحقق إلاّ بوجود الأمان والطمأنينة بين أفراد المجتمع.  ومن نتائج ممارسة الزراعة المكثفة حدث تبادل بين مراكز الاستقرار هذه، خاصة إذا ما علمنا أنها وفي نهاية الألف السابع قبل الميلاد قد جاءت مبنية قريبة من بعضها البعض كما هو الحال في مناطق أعالي الفرات وجنوبي الأردن. ولا بد لنا من ذكر أن بعض المكتشفات الأثرية التي عثر عليها في مواقع تعود بتاريخها لأكثر من عشرة آلاف عام في الأردن، مثل الأدوات المصنوعة من خامات الاوبسديان تشير بكل وضوح إلى وجود نوع من التبادل مع بلاد الأناضول كون هذا النوع من الحجارة لا يوجد إلا هناك. إن مثل هذا الأمر لا بد أن يقتضي وجود سلطات اجتماعية وسياسية، وهذا التحول كان بدوره كافيًا لنشوء المدن في منطقة بلاد الشرق الأدنى القديم. 

ورافق كل هذه التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية والسياسية متغيرات ثقافية. وقد حاول بعض العلماء وضع هذه المتغيرات ضمن إطار زمني، أي ترتيب هذه المتغيرات زمنيًا من الأقدم فالأحدث مما يتطلب دراسة المكتشفات الأثرية من منطقة بلاد الشرق الأدنى القديم وتحليلها اعتمادًا على الوسائل والطرق العلمية الحديثة. لكننا نعتقد أنه ربما يكون في الأمر خطورة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار التباعد والتنوع المكاني للمستقرات البشرية.

على أن ما يسوغ هذه الافتراضات أن مثل هذه المراكز الحضارية كانت على اتصال مع بعضها البعض ولكن ولو بدرجات مختلفة. وكذلك أيضًا يبرز للقارئ مشكلة كيفية تسارع حدوث التطورات الثقافية: هل تمّ التطور الذي حدث بشكل متدرج؟  أم أنه كان تقدمًا بطيئًا دون تدرج؟

إن أقدم الآثار الإنسانية والتي عثر عليها في بلاد الشرق الأدنى القديم قد جاءت حتى الآن من الأردن في منطقة التقاء واديي الزرقاء والضليل  (تشكيل دوقره والسخنة الجيولوجيين) ،ويؤرخ لحوالي 4ر2 مليون سنة.  كذلك عثر على مكتشفات أخرى في مناطق حوض نهر العاصي وسواحل البحر المتوسط ووادي الزرقاء وتؤرخ لحوالي مليون سنة.  بعد ذلك يبدو أن الناس قد تجمعوا حول الأحواض المائية إذ عثر على أدوات صوانية في منطقة الأزرق والشوبك وطبقة فحل في الأردن تؤرخ ما بين حوالي 000ر500  - 000ر250 سنة من الآن، كما عثر على ما يشابهها في سوريا وفلسطين. كذلك وجدت بقايا للمجتمعات البشرية المتنقلة والجامعة للقوت في فترات لاحقة في جبال زاغروس وطوروس، ويبدو أن الإنسان الذي عاش في هذه الفترة قد انتشر على رقعة واسعة من الأرض.

وبعد أن بنى الإنسان لنفسه كوخًا بسيطًا أقام به بعض أيام السنة خلال المرحلة الواقعة بين حوالي 20.00 و 10.500 سنة من الوقت الحاضر، استقر في  الألف العاشر في قرى ثابته كما هو الحال في موقع عين الملاحة في فلسطين.  وربما يعود السبب في هذا الاستقرار إلى تغير بيئي اضطر المجتمعات البشرية أن تستقر قرب موارد المياه الدائمة وأن تشكل مجتمعات اكبر من السابق. هذه المتغيرات الثقافية أدت إلى نشوء المدن ومن ثم الدول. لكن إن كان الإنسان هو صانع الحضارة فإن البيئة هي الدافع الرئيس والذي أدى بالإنسان أن يطور فكرة وصناعاته وطبيعة حياته حتى وصل إلى هذه المرحلة الحضارية المتقدمة. 

يعتبر العلماء وصول المجتمعات البشرية إلى المدنية هي الخطوة الأهم في حياتها، حيث أن تأسيس المدن في بلاد الشرق الأدنى القديم ابتداء من النصف الثاني من الألف الرابع قبل الميلاد يعد الأساس للمدنية.  لقد توفرت شروط كثيرة حتى وصل الإنسان إلى هذه المرحلة الحضارية المتقدمة وكذلك التغير الاجتماعي ومن أهمها فائض الإنتاج الناتج إما عن الزراعة أو التجارة مما أدى إلى غنى الناس.

ومن المعروف أن من شروط الوصول للمدينة ما ذكرناه أعلاه من حيث وجود فائض في الناتج الزراعي يكفي لتزويد مجموعة أخرى من الناس متخصصين في أعمال أخرى مثل الصناعات ولا ينتجون ما يحتاجون من طعام . على أي حال، فلقد تعرضت هذه الفرضية للانتقاد ويرى بعضهم أنه من غير المعقول أن يقوم المزارعون بزيادة إنتاجهم رغبة منهم في إطعام أناس آخرين، بل إن الزيادة قد جاءت تلبية لرغبات المزارعين في تحسين أوضاعهم المعيشية والحصول على أدوات جيدة تتناسب وحاجاتهم إلى الملابس . لكن لو افترضناأن هذا المجتمع كانت تحكمه سلطة دينية أو سياسية، أليس من المفترض أن تقرر هذه السلطة ماذا تفعل بشأن هذا الفائض؟!  إننا لا نقول أن فائض الإنتاج هو كل شيء في الوصول إلى مرحلة المدنية، ولكنه كان أحد العوامل المهمة في ذلك. 

أما بخصوص ظهور المجتمع المتمدن وهو مجتمع مركب (معقد) (Complex Society) نشأ بسبب غنى الناس نتيجة للتجارة.  فلقد اعتمد صاحب هذه الفرضية  على المعلومات المنشورة حول المدن الأولى في جنوبي وادي الرافدين. وتفترض هذه النظرية أن تطور الزراعة البعلية والمروية وتدجين الحيوانات في سهول وادي الرافدين الخصبة أدى إلى فائض الإنتاج وحيث أن منطقة جنوبي الرافدين تخلو من المواد الخام التي يحتاجها سكان مواقع هذه المنطقة لتصنيع أدواتهم وأوانيهم فقد اضطروا للاتصال بالمناطق المحيطة للحصول عليها وهكذا حصل تبادل تجاري وجمع الناس ثروات طائلة. إن تطور العلاقات التجارية بين المجتمعات المتباعدة خاصة كان لا بد وأن يؤدي إلى ظهور المؤسسات الإدارية للإشراف عليها ويرى بعض العلماء أن هذا الأمر أدى إلى نشوء الدول. إننا نرى أيضًا أن التجارة قد لعبت دورًا هامًا في الوصول إلى المدينة، لكن ليس من نفس المنظور الذي يراه الآخرون.  إذ أن التبادل التجاري قد بدأ كما نعلم بين منطقة جنوبي بلاد الشام والأناضول منذ العصور الحجرية الحديثة، أي منذ القرى الزراعية وربما قبل ذلك.

وبالإضافة إلى هذا فإننا نعتقد أن التقدم والتطور الاقتصادي والاجتماعي (Socio-economic) أدى إلى رقع مستوى المقدرة الفكرية والذهنية. وأدى ذلك بالتالي إلى رفع المستوى المعيشي لدى الناس، خاصة في بلاد الشرق الأدنى القديم. إن المكتشفات الأثرية الحديثة تشير إلى معرفة الناس بتقنيات عالية ومتقدمة وإلى وصولهم إلى مرحلة دينية متطورة تدرجت من عصور ما قبل التاريخ وحتى العصور التاريخية.  إن العوامل الاجتماعية والاقتصادية والفكرية مجتمعة هي التي أوصلت الناس إلى مرحلة التمدن وبناء المدن.