• 18 كانون الثاني 2025
  • حارات مقدسية

  القدس - أخبار البلد - يسعدنا ان يعود لنا الباحث الشيخ  المتواضع "مازن اهرام " الى الكتابة فيما يعشق ويعرف وان يتحفنا بمقالاته وأبحاثه عن القدس وتاريخها ، بعد غياب تفرغ فيه  للمشاركة في احد الاعمال البحثية الاكبر التي جرت في القدس في العقود الاخيرة .

 وهذه المرة  كان الحديث  عن زاوية جديد من زوايا القدس غير المعروفة

 

بقلم : الباحث الشيخ مازن اهرام 

 

الحرملك والسلاملك مصطلحان تاريخيان، ارتبطا بالمنظومة الاجتماعية الشرقية الإسلامية، وعكسا مفهوم الخصوصية وطبيعة التواصل الاجتماعي بأشكاله المتعددة. ولفظ «الحريم» مشتق من كلمة الحَرَم، وحَرَم الرجل ما يُقاتل عنه ويحميه. والحُرمة ما لا يحل انتهاكه من ذمةٍ أو حق، . ولخصوصية وضع المرأة في بيتها أصبح المصطلح علماً عليها؛ وفي الآن نفسه صار يُطلق على الجزء المخصص لمعيشتها وتحركاتها داخل محيط البيت. ومرة أخرى، فإن اللفظة المستخدمة ذات مغزى فاللفظة العربية «حريم» والتركية «حرملك» كلتاهما تشيران ضمنياً إلى منطقة محظورة، ومقدسة، ومعزولة، في حين أن اللفظة الفارسية «ندرون» تعني ببساطة الجزء الداخلي

أما لفظة «سلاملك» في اللغة التركية وتعني حرفياً «مكان التحية»، وأطلق الاصطلاح على قاعات معدة للاستقبال الرسمي، فالمناسبة كانت أكثر أهمية من المكان. كما كانت اللفظة تستخدم لوصف طقوس حضور السلطان صلاة الجمعة. وبصفة عامة صار الاصطلاح مقرونا بالمكان المخصص لاستضافة الرجال الغرباء. وكان لأكبر أعضاء الأسرة سناً الأولوية في استخدام غرفة الـ«سلاملك» التي كانت في أغلب المنازل محاطة بعدد من الغرف المستقلة. وكان الرجال يجتمعون في الجناح الخاص بهم، وكذلك النساء

حكايتنا اليوم عن دار السلملك في القدس

 بينما كنت أسير في حارات القدس القديمة ومن عبق التأريخ استرجع الذاكرة بين أزقة وعقبات المدينة مشهد البيوت يفوح منها عبق الماضي وتراث ما يزال يحافظ على خصوصيته استوقفني أثر في أول عقبة المملوك المتممة لعقبة ريحان على يسار الصاعد في هذه العقبة. ويحدها من الجنوب البائكة الكائنة فوق الشارع الرئيسي، ومن الشرق ساحة المدرسة المولوية، ومن الغرب عقبة المملوك. ومن الشمال العقبة المحمدية، ثم دار الجبرين دار السلملك ومن خلال سجلات القدس الشرعية أن تاريخ إنشاء الطبقة الأولى من دار (سلملك الرجال) تعود إلى أوائل العهد العثماني في مدينة القدس. ويُلاحظ المدقق في الواجهتين الشمالية والجنوبية لهذه الدار وضوح مراحل الإنشاء المختلفة وطُرزها المعمارية، حيث كان السيد خليل بك عقل قد وقف الطبقة السفلية من هذه الدار في سنة 1182 هـ وفق 1768م، ثم جرى تحكيرها في سنة 1218هـ وفق 1803م وسكنها محافظ قلعة القدس سيرزني محمد آغا. وقد تحولت هذه الدار فيما بعد إلى سلملك للرجال، وعُرفت بائكتها باسم قنطرة الأوطسة  فعرفتا معاً بدار " الأوطسة المعدة سلملك للرجال"، ثم سكنها إبراهيم آغا أباظة متسلم القدس وزوجته فاطمة بنت عثمان آغا الألفي متسلم الرملة، ثم اشتراها سليمان آغا المروه لي الشهير بالمملوك في سنة 1258هـ وفق 1842م
لقد أخذت هذه الدار اسميهما التركيين من وظيفة استقبال الرجال والسلام عليهم كما يترجمها الأنسي، أو من إهدائهم السلام والتحية كما يفسّرها الخوري، ومن معنى الأوطسة وهي الغرفة أو (الأودة) عند العوام فيما يبدو أن مبناها كان يشكل إحدى قاعات الاستقبال في القدس. ومن دور السلاملك أيضاً في مدينة القدس، الدار التي خصّصها على جلبي في محلة باب حطة "سلملك للرجال"، وهي الدار نفسها التي نزل فيها الشيخ مصطفى البكري الصديقي وأطلق عليها اسم دار الأودة بعد خروجه من خلوته البيرمية وتؤكد سجلات القدس الشرعية إنشاء قاسم بك جمال الدين متسلم القدس داراً له فوق دار خربة في نحو سنة 1235هـ/1819م. وقد أطلقت السجلات الشرعية على هذه الدار: دار قاسم بك جمال الدين الجديدة. 

وهكذا أصبحت قنطرة الأوطسة ودار السلملك تُعرفان باسمه
لقد وصفت حجة شرعية الدار التي انشأها قاسم بك جمال الدين قبل إنشائه الطابق الثاني بأنها " الدار الخربة التحتية السفلية مع الحوش الملاصق لها الكائن ذلك كله في القدس الشريف بخط باب العامود قرب المولوية ". أما حدودها آنذاك فكانت " قبلة من العلوي – أي الطابق الثاني – دار فاطمة والدة قاسم بك جمال الدين وشمالاً دار البوطة وشرقاً دهليز الدار وغرباً الحوش المشتمل على ساحة ومرتفق واسطبل كبير. 

" في حين ورد وصف قنطرة الأوطسة "المعدة سلملك للرجال التي لها شهرة محلها وحدودها قبلة الدار السفلية وشرقاً الطريق السالك وشمالاً وغرباً ساحة قاسم بك الجديدة “لقد استمر استعمال تسمية "الدار الجديدة " في عددٍ غير قليل من السجلات الشـرعية دلالةً على استمرار تسميتها. ولم تغب صفة "الجديدة " بعد وفاة قاسم بك جمال الدين، رغم أن داره أخذت تعرف بـِ " دار قاسم بك جمال الدين سابقاً "، وهذه العادة كانت متبعة في سجلات القدس الشرعية حيث أن لها من الفوائد ما يجعلنا نتعرف على مساكن أهل القدس في أواخر العصر المملوكي ودخول العهد العثماني
ويبدو أن 6 و2/3 قيراط من هذه الدار دخلت في وقف فاطمة بنت قاسم بك الترجمان، فاستبدل قاسم بك جمال الدين هذه الحصة ليمتلكها بموافقة متولي الوقف الشيخ إبراهيم أفندي بن محمد آغا هندية حفيد فاطمة بنت قاسم بك الترجمان في العام 1423هـ وفق 1827م. وقد آلت هذه الدار الجميلة بعد وفاة قاسم بك جمال الدين إلى إبراهيم آغا أباظة، متسلم القدس، وزوجته فاطمة بنت عثمان آغا الألفي متسلم الرملة. وأشارت حجة شرعية في العام 1258هـ وفق 1842م إلى شراء سليمان آغا بن عبد الله آغا المروه لي المملوك من هذين الأخيرين هذه الدار بستة آلاف غرشٍ أسدي صاغ ميري وصُرّة من الدراهم والدنانير
  لقد كانت عائلة المروه لي الشهيرة بالمملوك من العائلات المروه ليه التي سكنت مدينة القدس بُعيد دخول إبراهيم باشا إلى هذه المدينة في 1247هـ/1830م، حيث عهد إلى سليمان آغا المروه لي بمهمة مالية رفيعة لتنظيم جنود الباشا أثناء حملته العسكرية. وقد أعجب سليمان آغا المروه لي بمدينة القدس، فأرسل إلى أهله في مورة يخبرهم أنه سيقيم في هذه المدينة، وطلب منهم أن يرسلوا إليه بضاعة من بلادهم مثل حرير وشاي وبسطرما ومصاحف مذهبه وتنباك. وتزوج من خانو بنت إسماعيل القباني. وقد أطلق عليه تجار القدس لقب " أبو الذهب "، ثم عادوا وأطلقوا عليه " المملوك " حيث أنه كان أبيض اللون يشبه المماليك. وقد أعجبه اللقب الجديد، وكان أكبر أبنائه الشاب الرشيد المروه لي الذي تزوج من عائشة خانم بنت خليل آغا بن عبد الله آغا رصاص القدسي. ووقف العقارات التي اشتراها والده، وكانت في محلتي باب العمود وباب حطة .
أنشأ قاسم بك جمال الدين هذه الدار فوق دار خربة كان قد وقفها خليل بك عقل سنة 1182 هـ وفق 1768م، لترتبط منذ إنشائها بمصطلح الدار الجديدة. أما الطبقة الثالثة فهي من إنشاء رشيد آغا المملوك بن سليمان آغا المورلي، وهي تتألف من بلكون حجرية محمولة على جسر حجري مطروش بقصارة حمراء، وفيها ثلاث نوافذ: إحداها غربية والأخيرتين جنوبيتين وقد اشتملت هذه الدار بعد إنشاء قاسم بك جمال الدين على " أربعة بيوت وساحة سماوية مبلطة وعلى بيت كبير راكب على القنطرة المعروفة بالأوطسة سابقاً، يصعد لذلك بسلم من حجر المستطرق منه لباب الدار وعلى صهريج ماء ومرتفق واسطبل وبيت ومنافع ومرافق وحقـوق شرعية
الواجهة الرئيسية الغربية للدار تتألف هذه الواجهة من ثلاث طبقات مختلفة الطراز وتاريخ الإنشاء، ومنها مدخل الدار التي يبلغ ارتفاع قوسها المعقود 3.10م، يعلوها إفريز زخرفي حامل للطبقة الثانية من الدار، ومشربيّة خشبية جميلة مفتوحة من جانبيها بشباكين أحدهما غير محكم التثبيت. 

أما عرض قوس المدخل فيبلغ 1.70م؛ في حين أن الباب 1.90م، وعرضه 94 سم، ويعلوه طاقة نصف دائرية قاعدتها نحو الأرض مشبّكة بحديد دائري لقد ألحقت واجهة البناء التي أمر بإنشائها المملوك إلى الجدار الرئيس للدار، وألصقت بواجهة قديمة يُشير طراز بنائها وزخرفتها إلى تأثرها بالعمارة العثمانية المبكرة في القدس؛ ذلك أنها تبعد عن الزاوية الشمالية الغربية للدار بنحو 40 سم مما يؤكد أنها من العناصر التي ألحقت في فترة متأخرة
ويعلو باب الدار أربعة عشر مدماكاً حجرياً وإطار أخدودي ثم ثلاثة مداميك أخرى يرتكز عليها مشربية خشبية معلقة تخرج بنحو 30 سم وتمتد على إطار الشباكين الشمالي والشرقي الواقعين إلى الأسفل. 

وتتألف الطبقة الثالثة من هذه الدار من سبعة مداميك حجرية تحمل إطاراً يحف الغرفة العلوية بارتفاع مدماك واحد مكسلتان/ مسطبتا الباب: يدل وجود مكسلتين صغيرتين على جانبي الباب الرئيس لدار السلم، (دار المملوك اليوم) على تأثرها بنمط العمارة المملوكية والعثمانية المبكرة، وتبرز المكاسل أو المساطب في الغالب على جانبي العمائر العثمانية في القدس التي تعود ملكيتها إلى أثرياء القدس، مثل: شيخ التجار، أو محافظ المدينة، أو متسلمها. ويبدو أن هاتين المسلتين من صُنع قاسم بك جمال الدين حتى يجلس عليهما حُرّاسه أثناء استراحته في داره قوس الباب: يعلو الباب قوس مموجة تُشبه الأقواس المموجة التي ظهرت في العمارة الأيوبية في القدس وازدهرت من جديد في العمارة العثمانية المبكرة. ويبلغ عمق التموج في هذه القوس المحيطة بعقد مدخل الدار نحو 10 سم ويتألف هذا العقد من اثني عشر حجراً، إضافةً إلى الحجر الثالث عشر الواقع في مركز الغلق، والذي يبدو أكثر تموجاً عن غيره.

 وتتشابه قوس الباب بقوس مدخل المسجد العمري المجاور لكنيسة القيامة، وواجهة سبيلي السلطان سليمان القانوني في المسجد الأقصى وفي باب السلسلة الواجهة الشمالية للدار من الخارج: تطل هذه الواجهة على مجمع دار الجبريني اليوم، ويبلغ عرضها تسعة أمتار تقريباً. وهناك حاجز استنادي لرفع الثقل يخرج بعمق 20 سم يساهم في حمل الطبقة الوسطى من الدار. وتتألف الواجهة الشمالية من اثني عشر مدماكاً حجرياً منتظماً ومُهذباً، ويظهر في الواجهة نفسها شقوق تدل على فتحة لعلها شكلّت في الزمان الماضي شبابيكاً شمالية، وقد سُدّ أوسع هذه الفتحات بحاجز حديدي يأكله الصدأ ويعلو الطبقة الأولى طبقة ثانية مؤلفة من عددٍ من المداميك الحجرية غير المنتظمة، تحتوي على أربعة شبابيك دائرية يتوسط كل إثنين منها مداميك حجرية بارزة بشكل رأسي منظم، في حين ترتفع الغرفة العلوية فوق الوسطى ويخرج منها بلكون حجرية من الطراز العثماني المتأخر ذات اللون الأحمر. ويُفتح منها شباك شمالي وشبّاكين غربيين، ثم يعلو النافذة خمسة مداميك أخرى تحمل قرميداً أحمر اللون
الواجهة الجنوبية للبائكة من الخارج
لا يكاد طراز إنشاء الواجهة الجنوبية من هذه البائكة يختلف كثيراً عن طرز واجهات البوائك الشعبية في مدينة القدس؛ فهي تتألف من طبقة واحدة يوسطها شباك، وترتفع نحو أربعة أمتار تقريباً، على عكس الواجهة الشمالية للبائكة نفسها والتي يبلغ ارتفاعها أكثر من عشرة أمتار تقريباً. ويبدو من خلال التحليل الأثري والمعماري لهذه الواجهة أنها قد تعرّضت للخراب فأُعيد بناؤها على نحو شعبي لا يليق بتاريخ هذه البائكة أو الدار التي تناوب في سكنها عدد من أثرياء أهل القدس في العهد العثماني
الواجهة الشمالية للبائكة من الخارج
تشير السجلات الشرعية إلى أن إنشاء البائكة يسبق إنشاء الطبقة الوسطى من دار السلم، وتتألف الواجهة الشمالية للبائكة من صفيّن من الأقواس تحمل عقد البائكة لتوزيع الثقل على الركبتين وحمل البناء، ويتوسط شبّاكان يقعان في الطبقة الوسطى من الواجهة الشمالية للأوطسة، ويعلوهما طاقة أو مشكاة دائرية يحيطها عدد من الأخاديد الغائرة داخل إطار مربع في أركانه الأربعة في داخلها زهرة سداسية التوريق؛ في حين يحيط بالشباكين إطار نصف دائري في داخله أخاديد غائرة تصل حجر الغلق، بينما ينقسم حجر الغلق الأوسط فوق مركز الشبّاك إلى عدد آخر من الأخاديد الغائرة المتوجة بثلاثة مثلّثات معكوسة. وفي الطبقة الثالثة شبّاكان شبيهان بشبّاكي وطاقة الطبقة الوسطى. ولا يكاد يختلف شكل وطراز الواجهة الجنوبية للبائكة عن مثيلاتها من بوائك القدس ذات العمارة الشعبية ساحة الدار والغرف التي تحيطها: بعد الدخول مباشرة من باب يفتح إلى الغرب، ويُصعد إليه عبر استطراق من سلم حجري، يصل المرء إلى ساحة دار المملوك التي يوسطها شاذروان جميلة عليها أعلام السلطنة العثمانية وزخارف هندسية حلزونية تمثل فن الأرابسك العثماني المتأخر. وهناك توصل إلى بائكة المملوك (الأوطسة سابقاً) صالة قبلية مفتوحة على الساحة السماوية بينما تتوزع غرف شرقية يسكنها اليوم الحاج علي المملوك، متولي وقف المملوك. أما الطبقة الثالثة، فهي غربية يصعد إليها بسلم حجري من الساحة السماوية، وبناؤها جميل ومزخرف بالألوان الذهبية لم نتمكن من دخولها بسبب غياب أصحابها.
لقد شكلت دار المملوك نموذجاً جميلاً من العمارة العثمانية في مدينة القدس، حيث أن طبقاتها الثلاث تشكل مستويات أثرية وتاريخية متكاملة لمختلف فترات العهد العثماني، وشكلت كذلك دار سكن لعدد من الأسر الثرية التي سكنت القدس في مراحل مختلفة، إضافة إلى أنها تقع في موقع عُرف في أواخر العصر العثماني باسم محلة القناصل. وعادةً ما يكون الشارع أو الحي الذي تتزاحم فيه قناصل الدول المهمة من أرقى أحياء المدينة
الفستقية العثمانية: تتوسط فستقية عثمانية جميلة الشكل والتكوين ساحة الدار السماوية، وهي عبارة عن مثمن يرتكز على قاعدة حجرية ترتفع نحو 30 سم عن أرضية الساحة، وتعلوها قاعدة حجرية أخرى تتألف من مدماك حجري واحد؛ حيث يقوم على أطرافها ستة عشر عموداً رخامياً مظفرة، ولها تيجان متنامية تحمل إفريزاً رخامياً وكأنها أوراق الأرضي شوكي. وقد استعملت الفستقية اليوم حوضاً لزراعة الزهور بدلاً من وظيفتها السابقة
وتتوسط ثمانية أعلام كل ضلع من أضلاع المثمن ترمز إلى علم السلطنة العثمانية وهي عبارة عن النجمة والهلال. ومما يذكر أن الهلال أصبح رمزاً إسلامياً قبل قدوم العثمانيين؛ ويحيط الساحة السماوية عددٌ من الغرف أبرزها البيت المحمول على بائكة المملوك إضافة إلى البيت العلوي الذي زُيّنت الحائط بلون الذهب واشكال الأرابيسك الجميلة، ويُصعد إليه بسلم حجري يتجه صوب الشمال، بينما يوجد أسفله فسقية أخرى مغطاة ببعض حوائج الدار مما منع من التدقيق في طرازها الذي يتوقع ألا يختلف عن طراز سابقته.