• 14 آيار 2021
  • أقلام مقدسية

بقلم : سعادة مصطفى ارشيد

 

مثلت القدس , البداية و النهاية لإحدى أهم عناصر المسالة الفلسطينية عالميا , لما للقدس من قيمة روحية – دينية لدى مليارات من المؤمنين بقداسة المدينة , مسلمين و مسيحيين , كما أنها عند أبناء الوطن لها قيمة مضافة , فهى زهرة المدن و قطعة عزيزة من وطن قومي, في الجانب المعادي كانت أيضا عنصرا جاذبا , عند من يعتبرها حقا ربانيا حصريا له , و إن كان لا يؤمن بالربوبية أصلا .

مع هذه المكانة الرفيعة للقدس , إلا أنها لم تحظى رسميا بأكثر من الفعل الكلامي , و لم تجد العواطف و الإيمانيات  ترجمة لها  , من هنا فقدت الدعم و الإسناد , و عوامل و مستلزمات البقاء و الصمود , فأخذت المدينة تتهود , و عملت الحكومات ( الإسرائيلية)  على تغيير معالمها , و إطلاق أسماء عبرية – توراتية على شوارعها و حواريها , و تسربت بعض عقاراتها إلى ملكيات معادية بطريقة يعرفها عامة الناس , كل ذلك و من يهمة الأمر من جانبنا في حالة خمول و كسل  , فيما الخصم في حالة شغل و مثابرة , برعاية حكوماتهم التي تتسارع في تطرفها حكومة اثر حكومة .

حالة الهزيمة التي سادت اثر الفشل المتراكم , للتجارب القومية و الوطنية و الاشتراكية و الثورية  المتلاحقة منذ عام 1948 , فأنتجت ثقافتها  - ثقافة الهزيمة التي تسربت إلى أعماق نفس من تثقف بها و استسلم لها , و تبناها نظرية و عقيدة , و أصبح لا يرى في فلسطين عموما و القدس خصوصا , إلا قضية خاسرة , لا إمكانية لكسبها , و بالتالي فلا بد من أن يتخفف من أحمالها التي تنغص عليه متعة الحكم و لذة الصداقة مع العدو , فاكتفى اؤلئك بالدعاء و اراجة بعض التصريحات في المناسبات الوطنية , لكنهم كانوا قد تناسوها بالتفاوض و تركوها لمصيرها الذي تصورته عقولهم و نفوسهم , فأهملت المدينة , و كان من نتائج هذه السياسات أن وجد فراغا سعت قوى أخرى إقليمية و محلية لملأه , و لكنه من ناحية ايجابية ساعد في يقظة المقدسيين , الذين شعروا أنهم وحيدون في معركة الدفاع عن مدينتهم , فاخذوا المبادرة , و اسقطوا كل ولاية , و انتزعوا شرعية تمثيل أنفسهم بأنفسهم , و تخففوا بدورهم من أحمال الشرعيات التي لم يروا منها خيرا , فقادوا معركتهم بالشيخ جراح و المسجد الأقصى , و قريبا في سلوان وضاحية  بيت حنينا التي ستبدأ بها اعمال المساحة ( الإسرائيلية ) تمهيدا لإجراء عمليات تسجيل الأراضي من قبل دائرة أراضي ( إسرائيل ) .

توقعات العقل المهزوم لم تكن صائبة – و لن تكون , فما شهدته فلسطين بطولها و عرضها من زحف نحو القدس , كان أمرا يفوق الخيال , فمن الجليل إلى النقب , و من كل مدينة و قرية و مخيم في الضفة الغربية المحتلة  , نفر الفلسطينيون خفافا و ثقالا , بدافع من وجدانهم و حسهم الفطريين , وطنيين و متدينين , بجموعهم التي لا تعد نحو القدس , و لم تستطع الدولة القوية ( إسرائيل ) , وقف هذا النفير , و الحؤول دون وصولهم  لحي الشيخ جراح و المسجد الأقصى, قائلين للمقدسيين : لستم وحدكم , بل معكم كل نفس طيبة كريمة , عصت على الهزيمة و رفضت ثقافتها , معكم كل شعب فلسطين , و بهذا تحقق بفضل القدس إجماع الشعب الفلسطيني و وحدته .

غزة التي حال الحصار دون مشاركة أهلها في الزحف , فكان لها أن تشارك بطريقتها , و أثبتت ذلك بدقة مواعديها , و كثافة صواريخها , و لم يكن بمقدور ( الإسرائيلي )  باحزابة و ملله ونحلة , في الحكم أو في المعارضة على حد سواء , إلا الرد على تحدي المقاومة و صواريخها التي فرضت نفسها في التحامها مع سائر فلسطين عبر معركة القدس .

لم يكن  (الإسرائيلي ) يظن أن بإمكان غزة الالتزام بما تعهدت به لأهل القدس , و بدقة مواعيدها , و بجدوى و مدى صواريخها , أو بما توفر لها من معلومات على قدر كبير من الدقة في جدولة بنك أهدافها , فأصبح ( الإسرائيلي ) أمام أمرين كلاهما مر , إن اعتزل المعركة , و إن خاض المعركة التي لم تترك له المقاومة مجالا للفرار منها , و في هذه الحالة عليه أن يتحمل أعبائها , و مخاطرها على جبهة الداخلية و هو يرى تآكل قدراته الردعية , لذلك يستعمل مقدارا غير مسبوق من القوة و البطش , غير آبه بالمدنيين و ما تنقله وسائل  الإعلام , انه يريد كسر ظهر المقاومة , و لعله يريد إيصال رسائل إلى إيران و حزب الله حول مقدار قوته , و أن لا حدود لجرأته على التدمير و استعداده  للبطش , لكن المقاومة بدورها أوصلت له ما يلزم من رسائل , بتكثيف إطلاق الصواريخ و إيصالها إلى مديات ( آماد ) غير مسبوقة في القدس و شمال تل أبيب و ربما تصل إلى ما هو ابعد , و رسالتها الأخرى التي كانت عبر عدم قبول الوساطة المصرية , فالمقاومة تدرك و لا ريب أنها في معركة وجودية , و أنها إن لم تستطع فك الحصار عنها هذه المرة , فإنها ستبقى في حصارها لوقت قد يطول , لن تجد خلالها ما يبقيها على قيد الحياة إلا القطرات القليلة التي توفرها الحقيبة القطرية , غزة و مقاومتها , تريد إيجاد منافذ لها عبر بوابات غير(  إسرائيلية)  , و جمهورها المستعد للصبر و الصمود يريد هذه المرة ثمنا لصبره و صموده و تضحياته , من هنا يمكن تصور رد المقاومة على المبادرة المصرية , و كأنها تقول للمصريين : لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين , و هي لن تصدقهم بعد أن لم يفوا بوعودهم و تعهداتهم التي قطعوها عام 2014 لغزة .

المعركة طويلة , و لن تكون جولة قصيرة و عابرة , و صواريخ مقابل طائرات , و تكنولوجيا مقابل تكنولوجيا , بعد أن لم تعد التكنولوجيا حكرا على ( الإسرائيلي ) , و ها هي المعركة ,  تأخذ تجليات  جديدة , في مدن الضفة و قراها و مخيماتها , كما في الداخل الفلسطيني , فما نراه في الناصرة و أم الفحم و حيفا و المثلث  سائر قرى و مدن الداخل الفلسطيني لم يكن يوما  في حساب ( الإسرائيلي ) , ثم أن طول المعركة , قد يدخل قوى إقليمية أخرى إلى ساحتها لتتحول إلى حرب شاملة , لا نملك فيها إلا الصدق و الصبر و الصمود و الانتصار .