• 30 تموز 2021
  • أقلام مقدسية

 

بقلم : عزام توفيق أبو السعود

 

أعتقد أن ما سأكتبه في هذه المقالة سيسبب لي بعض المتاعب، وكم أحجمت عن الخوض في هذا الموضوع في السنوات الثلاثين السابقة، لكني أشعر بأنني سأختنق إن لم أكتب في هذا الموضوع، لذلك سأجمع ما تبقى من شجاعتي كي نفتح حوارا معمقا مع مفكرينا وعلمائنا!

لم تكن كتب التفسير للقرآن الكريم ، والمذاهب الدينية الرئيسية ( المالكية والشافعية والحنفية والحنبلية والجعفرية) وكتب السنة الشريفة وكتب الفقه الاسلامي جميعها قد خلقت ما يمكننا أن نسميه إصطلاحا " فكر إسلامي متكامل" .. منذ القرن السابع الميلادي وحتى نهاية القرن الثاني عشر.

في منتصف القرن الثاني عشر برز الفيلسوف والمفكر والعالم العربي إبن رشد، الذي بدأ حياته في الأندلس وأنتهت في المغرب العربي، فقد فتح هذا الشخص المتميز في كتاباته العلمية والفلسفية والدينية الباب لتطوير فكر إسلامي يقوم على تحكيم العقل وإخضاع النصوص الدينية للفكر العقلاني والفلسفي .. فبات ابن رشد مرجعا أساسيا عالميا في الفكر والفلسفة والمنطق حتى اليوم، وأصبحت المراجع العلمية تعترف له بالريادة في هذه العلوم وغيرها وسمته أرسطو العرب... ورغم أنه تعرض للوشاية فسجن وحرقت بعض كتبه، وثبتت برائته بعد عدة سنوات وأعيد له اعتباره قبل وفاته بقليل، إلا أن ما سلم من كتاباته يمكن اعتبارها مفتاحا لتطوير فكر إسلامي يتطور ويتجدد دون المساس بالنصوص الدينية .

في القرن الثالث عشر ظهر مفكر إسلامي آخر هو إبن تيمية، الذي بدأ بتكوين فكر إسلامي جديد قائم على الأصولية، ولعل الفترة التي عاشها كانت فترة الغزو المغولي لبغداد ، وبقايا الحملات الصليبية ومحاولته قيادة حركة جهادية مقاومة للغزاة، لم يكن يتسنى لها أن تقاوم الغزاة وترفع الروح المعنوية لمسلمي الشرق إلا بالرجوع والتركيز على مبدأ الجهاد بالنصوص القرآنية والأحاديث وهي أصول الدين..

لا أريد الخوض في مقارنة فكر إبن رشد الذي استند إلى توسيع المدارك وربط الدين بالعلوم الحياتية والفلسفة والثقافة والمعرفة المتطورة وفكر إبن تيمية الذي رجع إلى النصوص الدينية الأصلية ورفض ربطها بتطور الأمور الحياتية والعلمية أو إعمال العقل فيها.

عشنا عهد العصور الوسطى والإنقسامات السياسية منذ القرن الثالث عشر وحتى القرن التاسع عشر .. ولم يظهر لدينا أي مفكرين أو علماء بارزين يمكن أن نضعهم بمستوى إبن رشد أو ابن تيمية .. إلى أن ظهر محمد عبد الوهاب في القرن التاسع عشر، وكان فكره بالتأكيد أصوليا ومرجعيته الكاملة هو إبن تيمية .. بل لعله كان أكثر تشددا منه.. والمذهب الوهابي ظل سائدا حتى اليوم في الجزيرة العربية .

وفي القرن العشرين برزت جماعة الإخوان المسلمين في مصر بفكر يستند إلى إبن تيمية أيضا كمرجعية شبه مطلقة ..

وعلى ذلك فإن الفكر الإسلامي بقي محصورا في فكرين رئيسيين ، هما إبن رشد  وإبن تيمية. وأما الحركتين الوهابية والإخوان المسلمين فلا يمكن أن نعتبرهما تطويرا للفكر الإسلامي بقدر ما يمكن اعتبارهما تفسيرا سياسيا لفكر ابن تيمية يقود للوصول إلى السلطة .. ومن المؤكد أن الوهابية لم تنتشر خارج الجزيرة العربية وانتهت بتأسيس المملكة العربية السعودية، أما الإخوان المسلمين، فتجربتهم السياسية قمعت في مصر والجزائر وتواجه مصاعب في غزة وفي تونس .. وعموما فالحركة حاولت الوصول إلى السلطة قبل أن تنضج وكانت مستندة إلى رغبة الشعوب في التغيير بعد أن عاشوا في ظل دكتاتوريات قمعية فاسدة فوجدت الشعوب في حركة الاخوان المسلمين، أو الأحزاب الدينية أملا يخلصها من معاناتها، لكن الحركات الاسلامية في العالم لن تنجح في ظل نظام عالمي يحاربها ويصنفها بأنها أحزاب إرهابية. وحتى الوهابية فقد بدأت تتفكك عن الأصولية وفكر ابن تيمية وتسرح وتمرح بالحداثة والإباحة دون ضوابط دينية أومنطقية.      

لقد هوجم إبن رشد ليس فقط من قبل المسلمين التقليديين، ولكن أيضا من الكنيسة الكاثوليكية المتشددة أيام عصر صكوك الغفران ومحاكم التفتيش في القرون الوسطى المتخلفة، ولا أشك أن الحركات الإصلاحية للكنيسة الكاثوليكية التي قامت فيما بعد على يد الراهب لوثر وغيره قد تأثرت إلى حد كبير بأفكار إبن رشد.. بينما تأثرت حركات إسلامية عنيفة في العصر الحديث مثل الدواعش بأفكار ابن تيمية.. وعليه فإن فلسفة إبن رشد قادت إلى حركات اصلاحية، بينما  فلسفة ابن تيمية قادتنا إلى مزيد الرجعية .

أيا ما كان الوضع، فإننا لا زلنا نعيش حتى يومنا هذا ضمن فلسفة دينية تعود للعصور الوسطى، مع محاولة تكفير أي فكر أو مفكر يسعى لتحديث المفاهيم الدينية وربطها بالتطور العالمي سواء في الإقتصاد أو العلوم البحتة ويربطها بالتطورات الاجتماعية للمجتمعات الاسلامية والعربية والعالمية.. ولعل تجربة مفكر مصري مثل الدكتور مصطفى محمود في كتابه " محاولة عصرية لتفسير القرآن الكريم" قبل خمسين عاما، قد قوبلت بالهجوم الحاد عليه من الأزهر ومن تيارات اسلامية أخرى .. علما بأن مصطفى محمود بدأ بفلسفة تربط العلم بالدين، وتوسع أفق الإدراك العام للربط بين روحانية الأديان وواقع الحياة الحديثة وتطورها العلمي السريع، وهو فكر وضع أسسه إبن رشد قبل ثمانية قرون..

لقد مررنا بمراحل تطوير غير شاملة خلال الخمسين عاما السابقة، هذه المراحل شملت جزئيات بسيطة، كإختراع البنوك الإسلامية مثلا لمواجهة إقتصاد يعتمد في أساسه على البنوك.. لكني أعتقد أن منهجية البنوك الاسلامية كانت للإلتفاف على الدين أكثر منها تطويرا حقيقيا للمفاهيم الإقتصادية الاسلامية!

ما أحوجنا اليوم إلى تطوير الفكر الاسلامي ليتماشى أكثر مع العلوم البحتة والإنفتاح الإقتصادي والعولمة ، وعلينا التحرر من أفكار ابن تيمية ، وإعمال العقل والمنطق في بناء فكر إسلامي عميق وملتزم بروحانية الدين وأصوله ويتماشى مع العصر .. فهل سيبرز بيننا من سيكمل مشوار إبن رشد ومصطفى محمود ؟ !!