• 2 آب 2021
  • أقلام مقدسية

 

بقلم :  عصام نعمان

اللبنانيون منشغلون هذه الأيام بإحياء ذكرى 4 آب/اغسطس. ففي ذلك اليوم المشؤوم قبل 12 شهراً تمّ تفجير مخزون نترات الأمونيوم في أحد عنابر مرفأ بيروت ما أدى إلى تدميره بالكامل ومعه الأحياء المجاورة التي تشكّل ثلث العاصمة ، بالإضافة إلى مقتل أكثر من 200 وجرح أكثر من أربعة الآف .
منظمو إحياء الذكرى أطلقوا على برنامجهم عنوان «برنامج التحركات». لكن إمعان النظر في المضمون يكشف أن معظمها ينطوي على إثارة. نعم، من حق أهالي الشهداء والجرحى والمتضررين أن يتوخوا إثارة الرأي العام وتعبئته لكشف ملابسات هذه الجريمة النكراء التي قيل في وصفها إنها ثاني أكبر تفجير غير نووي في تاريخ العالم المعاصر.
بعد مرور سنة كاملة على التفجير الإجرامي الهائل لم يحقق قاضي التحقيق الأول ولا الثاني أي تقدم حاسم في مسألة الغاية من وراء نقل أكثر من 2700 طن من نترات الأمونيوم إلى مرفأ بيروت واستبقائها هناك أكثر من سبع سنوات، ومن هي الجهة التي قامت بنقل أو تهريب أكثر من ثلاثة ارباع هذه الكمية بدليل أن مكتب التحقيق الفيدرالي الأمريكي يجزم في تقريره الأخير بأن 500 طن فقط جرى تفجيرها في 4 آب/اغسطس 2020، فما مصير الـ 2200 طن الأصلية؟ وإلى أين جرى تهريبها ؟ ومن هو الفاعل؟

هذه الأسئلة وغيرها تكشف مدى فساد نظام المحاصصة الطوائفية اللبناني وعجز منظومته الحاكمة عن إدارته على جميع المستويات. مع ذلك فإن هذا النظام الذي استولدته دول أوروبا الست بالتعاون مع السلطنة العثمانية وأطلقت عليه «نظام متصرفية جبل لبنان» سنة 1864 استطاع تجاوز الكثير من العقبات والتحديات الداخلية والإقليمية وأهمها مآسي الحرب العالمية الأولى 1914- 1918 ليصبح مرتكز سياسة فرنسا وترتيباتها الاستعمارية في المشرق العربي بعد هزيمة السلطنة العثمانية في الحرب وإنكفائها إلى بر الأناضول.
الفرنسيون اعتمدوا نظام متصرفية جبل لبنان الطائفي أساساً لإنشاء ما سمّوه «دولة لبنان الكبير» سنة 1920 بعد ان ضمّوا إلى نظام المتصرفية مناطق في شمال لبنان وأخرى في جنوبه وشرقه كانت تابعة لولايتي بيروت ودمشق فأصبح للنظام الطائفي كيان سياسي قابل للحياة نسبياً.
إدارة الكيان – النظام أسندها الفرنسيون لأمراء الطوائف ووكلائهم. هؤلاء حافظوا على «الوديعة» بأمانة فما سمحوا طيلة الفترة التي أعقبت جلاء الفرنسيين سنة 1946 بأي مساس بطبيعة النظام ومرتكزاته الأساسية إلى أن واجه لبنان، كما سائر أقطار المشرق، أحداثاً تاريخية ادت إلى إحداث تغييرات في موازين القوى الإقليمية سنة 1958 أهمها اتحاد مصر وسوريا في الجمهورية العربية المتحدة وسقوط حلف بغداد بانهيار النظام الملكي في العراق، إذ آلت السلطة إلى قائد الجيش اللبناني فحاول اللواء فؤاد شهاب تمتين النظام السياسي المترهل بإقامة مجموعة من المؤسسات الأساسية (البنك المركزي، مجلس الخدمة المدنية، التفتيش المركزي) إلاّ أن زخم هذه المحاولة تبدّد بعد انتهاء ولاية خلفه شارل حلو وعودة العناصر الأكثر محافظة إلى مراكز الدولة العليا. ومع هزيمة 1967 وانكفاء المقاومة الفلسطينية في الأردن أخذ الفلسطينيون يتدفقون على لبنان بفصائلهم المسلحة وأنصارها ما تسبّب باحتككات ومناوشات مع القوى السياسية المسيحية المناوئة للمقاومة. وإذ تأذّت «إسرائيل» من عمليات المقاومة عبر الحدود وهددت باجتياح جنوب لبنان، هرع قادة القوى المسيحية إلى دمشق طالبين تدخلها لكبح نشاط الفلسطينيين تفاديا لتدخل «اسرائيل».
دمشق وافقت على التدخل بعد استحصالها على قرار من جامعة الدول العربية صيف 1976 بإنشاء قوة ردع عربية لتنظيم الوجود الفلسطيني في لبنان. لكن «إسرائيل» المصممة على طرد فصائل المقاومة الفلسطينية ما لبثت أن قامت مطلع شهر حزيران/يونيو 1982 بشنّ الحرب على لبنان وتمكّنت من إكراه فصائل المقاومة الفلسطينية على المغادرة.
منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي وأمراء طوائف لبنان يتعاركون ويتصارعون على السلطة والنفوذ لدرجة أدت إلى اندلاع حرب أهلية داخل فئة من المسيحيين الموارنة ما حمل سوريا والسعودية ، بالتفاهم مع الولايات المتحدة، على محاولة إنقاذ المتقاتلين جمعياً من أنفسهم بعقد مؤتمر للوفاق الوطني في الطائف سنة 1989 أفضى إلى توافق ما تبقّى من أعضاء مجلس النواب اللبناني على وثيقة إصلاحات سياسية وإدارية واقتصادية وأمنية.
لإعطاء إصلاحات وثيقة الطائف طابعاً جديّاً قامت حكومة سليم الحص بوضع مشروع قانون جرى بموجبه إدخال أهم هذه الإصلاحات في متن الدستور سنة 1990. غير أن ذلك كله لم يترك أثراً في نفوس أمراء الطوائف وأركان المنظومة الحاكمة الذين ثابروا على التعارك والتصارع على السلطة والمكاسب والنفوذ لدرجة أتاحوا للقوى الخارجية ، خصوصاً تلك المعادية لبقاء القوات السورية في لبنان، الفرصة لتدبير اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري واتهام حكومة دمشق بأنها وراءه، والتواطؤ مع الولايات المتحدة لإقامة محكمة دولية خاصة بلبنان لمحاكمة الفاعلين. صحيح أن المحكمة الدولية نفسها برّأت الضباط اللبنانيين المتهمين بتدبير عملية الاغتيال، ثم عجزت لاحقاً عن اتهام حزب الله بأنه وراء تنفيذها، لكن تداعيات هذه الأجواء العدائية انعكست على البلاد الأمر الذي أحبط محاولة إصلاحية حاولت القيام بها قوى وطنية مستنيرة كان على رأسها سليم الحص ورفاقه.
يتحصّل من هذه السردية المختصرة أن نظام المحاصصة الطوائفية ومنظومته الحاكمة شكّلا على مرّ التاريخ ظاهرة اجتماعية وسياسية فريدة، وأن هذا النظام العجيب الغريب تعرّض لأزمات وعانى حروباً وواجه تحديات عجّلت في شيخوخته، ومع ذلك تراه يتجاوز كل هذه المخاطر ولا يموت!
أليس عجيباً وغريباً حقاً أن يعاني هذا النظام حربين عالميتين خلال القرن الماضي، وحربين إسرائيليتين خلال القرن الحالي بكل ما انطوت عليه من مآسٍ وفواجع ولا تترك فيه أثراً أو حافزاً للتغيير أو التطوير؟ أليس عجيباً وغريباً ان تتشكّل في لبنان انتفاضة شعبية عابرة للطوائف والمناطق ( 17 تشرين/الاول 2019) فتضطر معها حكومة سعد الحريري إلى الإستقالة ومع ذلك لا تترك أثراً محفزاً للتغيير في سلوكية الحاكمبن بدليل عجز ثلاثة من المكلفين منهم عن تأليف حكومة جديدة خلال سنة كاملة ؟ أليس عجيباً وغريباً أن يعاني لبنان كارثة ماحقة كتفجير مرفأ بيروت في4 أغسطس/آب 2020، وانهياراً مالياً واقتصادياً كاملاً بعد ذلك، وأن يفتقد شعبه أهم ضروريات المعيشة كالأغذية والأدوية والوقود (البنزين والمازوت والغاز والطاقة الكهربائية ) ولا يترك ذلك كله حافزاً للتغيير والتطوير لدى الحاكمين؟ أليس عجيباً وغريباً أن تشبّ حرائق واسعة في أحراج عكار والهرمل فلا يرتفع صوت واحد بين الحاكمين يدعو إلى المساءلة والمحاسبة ؟ أليس عجيباً وغريباً أن يعاني لبنان كل هذه الكوارث والمآسي والأزمات فلا تنجح قواه الوطنية والتقدمية في بناء جبهة وطنية ببرنامج سياسي واقتصادي واجتماعي متكامل لتجاوز نظام المحاصصة الطوائفية ومنظومته الحاكمة، سلمياً وديمقراطياً، ووضع البلاد على سكة التوجّه إلى الدولة المدنية الديمقراطية ؟
عشيةَ إحياء ذكر 4 آب/اغسطس ، يؤسفني ألاّ أكتم خيبتي وإحباطي من إمكانية وجود خيارات واقعية لتجاوز نظام المحاصصة الطوائفية ومنظومته الحاكمة. يؤسفني أن لا أجد حاليّاً ما يمكن أن يؤدي إلى خلاص اللبنانيين من نظامهم الشائخ (عمره 157 سنة !) إلاّ المزيد من الشيء نفسه: استمرار الانهيار المالي والاقتصادي والاجتماعي وبالتالي السياسي ليصبح من الممكن في الأيام المقبلة البناء على أنقاض النظام المتداعي.

القدس العربي