• 17 حزيران 2022
  • أقلام مقدسية

 

بقلم : جواد بولس 

 

نقلت الصحافة العبرية، تصريح نائب وزير الشؤون الدينية الإسرائيلية، عضو حزب «يميناه»، عضو الكنيست متان كهانا، الذي أدلى به يوم الاثنين الفائت، أمام طلاب المدرسة الثانوية في مستوطنة «إفرات»، حيث أعلن فيه على الملأ أنه: «لو كان هناك زرّ يمكن الضغط عليه وإخفاء كل العرب من هنا وإرسالهم بقطار أكسبرس لسويسرا كي يعيشوا هناك حياة مدهشة، كنت سأضغط على هذا الزر». لا يكفي توصيف هذا التصريح، بعنصريته المريعة ووقاحته الغليظة؛ فهو علاوة على ذلك ينتمي، من دون شك، إلى عالم الفكر الفاشي، ويكفينا التوقف عند مشهد القطارات، التي يقترحها نائب الوزير كهانا كوسيلة لنقل العرب من موطنهم وإلقائهم هناك في صقيع أوروبا.

اكتفى قلة من اليهود الذين تطرقوا إلى تلك الأقوال بوصفها «بالمؤسفة» أو أنها مجرد كبوة كان يجب ألا تحصل؛ وبالمقابل، تفّهمها بعض العرب من باب «عاديّتها التاريخية»، فهذه هي إسرائيل منذ قيامها وحتى أيامنا؛ بينما تحدّاها عرب آخرون بخفّة، ولسان حالهم يقول: «أعلى ما في خيلك يا متان اركب.. فنحن هنا ولها وعن وطننا ما بنحيد». أمّا أعضاء القائمة الإسلامية الموحدة وزملاؤهم العرب في الأحزاب الصهيونية، الداعمة لحكومة بينيت – شاكيد، وهما زعيما حزب متان كهانا، فبقوا على عهد الولاء لهذه الحكومة، وبلعوا تلك التخرّصات والقماءة، كما بلعوا ما قبلها، وسيبلعون ما بعدها.

ليس أخطر في نظري من مواجهة هذه التصريحات ومثيلاتها، التي بتنا نسمعها من عدة جهات إسرائيلية قيادية رسمية وعسكرية بتواتر مقلق وخطير، وكأنها ظواهر طبيعية لا تستوجب منا، نحن المواطنين العرب في إسرائيل، قدرا كبيرا من التحسّب الجدّي، والتحرّك الفعلي قبل أن تُصفّ طوابيرنا على أرصفة المحطات وتُزج بالقطارات الجاهزة لنقلنا نحو الحدود القريبة، وليس بالضروري نحو سويسرا. قد يكون تصريح نائب الوزير كهانا المذكور، أبرز وأخطر ما جاء في خطبته أمام الطلاب، لكونه يكشف عمّا يهجسون، هو وشركاؤه، لتحقيق «حلّهم النهائي» وتطهير أرض إسرائيل من العرب. ولئن يبقى ذلك الإفصاح مستفزا بحد ذاته، سيصير أخطر إذا ما وضعناه ضمن سياق الخطاب كلّه؛ فعندها سوف نتحقق من مدى جديّته الفعلية وكونه مؤشرا على طبيعة التغيّرات التي جرت داخل الفكر الصهيوني الديني الجديد. فاليوم، بخلاف سنوات خلت، تقود إسرائيل مجموعة من الأحزاب والحركات المتغلغلة أفكارها في جميع مفاصل الدولة، وتتحكم في سياسة المؤسسات الإسرائيلية التي تهدف إلى إقامة المملكة المنتظرة وبناء هيكلها الكبير، الذي لم يعد مبعث إلهام الأمة المجازي وحسب، بل صار هو سدرة المنتهى وتجسيد وعد الرب لشعب الله المختار. حاول متان كهانا إقناع الطلاب بعدم جدوى الحل الداعي إلى إقامة الدولتين، مؤكدا أن «هنالك من يعتقد أنه إذا تراجعنا لحدود عام 1967 سيحل السلام، وستقوم هنا دولتان تعيشان جنبا إلى جنب وسيكون كل شي عال العال»، ثم أضاف، بصوت وصورة مسجلتين: «لا أومن بهذا؛ فأتباع اليمين، بوجه عام، لا يؤمنون بذلك. لقد طردونا من هنا قبل ألفي عام وانتظرنا الفرصة حتى رجعنا إلى دولتنا؛ فنحن نؤمن بأن الله هو الذي أعطانا هذه الدولة، وليس يحق لأحد أن يخبرنا بأننا لا نملك كل شيء هنا». لكن، هكذا أردف «للعرب رواية أخرى يحكونها لأنفسهم، ونحن نعرف أنها مجرد مهاترات وهي غير صحيحة.. ولذلك فأنا أومن بعدم وجود إمكانية لإحلال السلام». قالها وانتقل لاستعارة كبسة الزر ونقل العرب بالقطارات إلى سويسرا.

يردد الكثيرون في قيادات الأحزاب والحركات السياسية ومؤسسات الدولة، ما صرّح به نائب الوزير كهانا؛ بل أصبحنا نسمع، بشكل علني، مثل هذا الكلام من بعض قياديي جيش الاحتلال الاسرائيلي؛ وقد تحدثنا عمّا صرّح بها الجنرال عوزي ديان قبل حوالي الشهر. واليوم لفت انتباهي، بعد اقتحام ميليشيات المستوطنين وكتائب اليمين لحارات القدس أثناء الاحتفالات بما يسمى «يوم العلم الإسرائيلي»، كلام الجنرال احتياط جرشون هكوهن، الذي في معرض إجابته حول تقييم مسألة الهدوء النسبي، الذي انتهت به أحداث ذلك اليوم، قال من على شاشة القناة 13 الاسرائيلية: «إننا إزاء مسألة داخلية إسرائيلية، فجبل الهيكل هو مصدر كل الإلهام للمشروع الصهيوني»، ثم أوضح، أن القضية لا تتوقف عند حائط واحد، بل هي ما نريده نحن من جبل الهيكل الذي يجب أن يحرّكنا بالفعل «فأنا لا يهمني أن نكون مثل دولة الدنمارك كي نعيش يوما آخر من الهدوء. توجد بيننا أقلية هذا ما يهمها، وتتصرف كأنها أكثرية، لكن ما يجب أن يحركنا ما هو أساس المشروع الصهيوني الذي وضع من أجل خلاص إسرائيل وهذا أكبر من مجرد أن تكون الدولة مزدهرة». لم يخفِ هذا الجنرال، مثله مثل الكثيرين الذين سبقوه إلى المعنى نفسه، عدم اكتراثه بتحقيق الهدوء والسلم بين الناس، ولا أن تكون إسرائيل كواحدة من دول اسكندنافيا «المملّة والوسخة»، بل هو راغب بشيء أكبر، أو كما قال: «شيء إلهي، توراتي، بالخلاص الذي كان مصدره ومحرّكه هو جبل الهيكل». هكذا يتكلّم الجنرالات في زمن المصالحات والحسرات، بهدوء وبحزم، ويكرزون كأنهم قادة توراتيون وكورثاء يوشع والأنبياء، ويقفون على تلال بيت-أيل وأريحا والخليل والقدس، ومعهم جميع السياسيين الكاهانيين، ويصلّون من أجل تحقيق أحلامهم ورفعة بيارقهم وبنادقهم.

إنه مشهد خطير وجديد لم نعشه من قبل؛ ولجميع من سيسارعون إلى فتح صفحات تاريخنا ليقنعونا بأننا نقف عند الحافة نفسها، أقول: أنا مثلكم أتذكر جيّدا جميع العنصريين الذين وصفوا المواطنين العرب «كصراصير تتدافع في عنق الزجاجة»، أو أنّهم ليسوا إلا «سرطانا يعيث الفساد في جسد الدولة» وما إلى ذلك من مقولات تزخر بالعنصرية والفاشية الواضحتين. ومثلكم أنا أيضا، لا أنسى كم عانى آباؤنا وواجهوا سياسات القمع والاضطهاد العنصري، في ظروف كنا نشعر فيها دوما بأن إسرائيل الرسمية لم تستسغ بقاءنا على أرضنا، فاستمرت بوضع مخططاتها لمحاصرتنا وتدجيننا وتضيق الخناقات علينا، حتى أن جواريرهم لم تستبعد تهجيرنا. وكذلك لا أنسى موبقات الاحتلال بحق سكان المناطق التي احتلت عام 1967 وكيف تعاظمت وحشية هذا الاحتلال مع كل عام مرّ ويمرّ.

لم ولن ننسى هذه السيرة؛ وعلى الرغم من صراخ الوجع وتنهد الدم يجب أن تبقى الفوارق بين الحقب شاخصة أمامنا؛ ففكرة التخلص منّا كجماعة واحدة صارت اليوم مقبولة عند أكثرية المجتمع اليهودي وباتت أصداؤها مسموعة في جميع دهاليز الدولة وفي أروقتها. لقد خرّجت السياسة الإسرائيلية عددا من عتاة المتطرفين الذين رفعوا الشعارات الفاشية وحاولوا النيل من المواطنين الفلسطينيين، داخل إسرائيل، وفي الأراضي الفلسطينية المحتلة، لكننا نعرف أيضا كيف تصدّت لهم بعض مؤسسات الدولة وقطاعات واسعة من الشعب وحاربوهم إلى حد بعيد. وقد يفيدنا أن نستحضر في هذه العجالة، قصة «كهانا الأصلي» ذلك الراب الدموي العنصري، الذي سبق جميع الكهانيين وأرسى، قبلهم، فقه «القبضة الحديدية» التي تبنّاها شعارا لراية حزبه «كاخ» (هكذا)، لأنه كان مقتنعا بأن العرب لا يفهمون إلا لغة القوة والبطش. لقد سبق ذلك العنصري الذي كان أسمه أيضا مئير كهانا نائب الوزير متان كهانا بثلاثة عقود؛ وعسانا، نستطيع، إذا رجعنا لقراءة تاريخ وأفكار حركته، أن نقف على كيف تغيّرت إسرائيل بين عصري هذين الكهانيين؛ وكيف كانت إسرائيل دولة عنصرية لها مؤسسات وجيش، فصارت كيانا مارقا يزخر بكتائبه الفاشية.

كهانا الأول، هو مواطن يهودي أمريكي بدأ نشاطه في أمريكا، ثم انتقل إلى إسرائيل ليؤسس عدة حركات عنصرية انتهت في بداية السبعينيات بإقامة حزب عنصري يعتمد على تعاليم التوراة الحرفية، سماه «كاخ». خاض حزبه انتخابات الكنيست عام 1973 لكنه فشل بعبور عتبة الحسم. واستمر في استفزازاته ضد العرب وفي محاولاته للدخول إلى الكنيست الإسرائيلية، حيث نجح بذلك عام 1984 وكان شعاره المركزي ساعتها «اعطوني القوة كي أعلّمهم/ أعالجهم». ويُذكر أن لجنة الانتخابات المركزية قررت شطب قائمته، لكن المحكمة العليا الاسرائيلية أجازتها باسم الديمقراطية. ثم تصاعدت حملاته التحريضية الدموية على العرب من الكنيست حتى جاءت انتخابات عام 1988 فقررت لجنة الانتخابات المركزية شطب قائمته ومثلها فعلت المحكمة العليا في قرار وصفه بالعنصري الدموي وبكونه يزرع الفتنة بين مواطني الدولة الواحدة. لقد تظاهر ضده، مرارا، آلاف المواطنين اليهود والعرب وتصدوا له بعناد؛ كما وشبّه الكثيرون مقترحاته التشريعية بقوانين «نيرنبرغ» النازية. لقد انتهى عصر مئير كهانا بمقتله في الخامس من نوفمبر عام 1990 في مدينة نيويورك، بعد أن أُطلقت النيران عليه عندما كان يخطب أمام حشد من اليهود لإقناعهم بالهجرة إلى إسرائيل.

لكن.. «كيف يختلف الرواة على كلام الضوء في حجر؟» كانت حكمة شاعرنا محمود درويش؛ لكننا لم ننتبه لها، فحين قُتل كهانا لم تمت «إسرائيله»، بل كانت تمطرنا سماؤها بجيوش من الكهانيين الذين يتكاثرون بيننا ويقاتلون باسم كل شيء «إلهي، توراتي ومن أجل خلاصهم المبني على حجارة وهيكل» ولأنهم يؤمنون ويعرفون أن «من حجر شحيح الضوء تندلع الحروب».

 القدس العربي