- 22 شباط 2023
- أقلام مقدسية
بقلم : د. احمد عبد طرابيك*
أعلنت لجنة التراث العالمي التابعة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "اليونسكو" اختيار المملكة العربية السعودية، رئيساً للجنة التراث العالمي، واستضافة السعودية للدورة الخامسة والأربعين الموسعة للجنة في الرياض، خلال الفترة 10 إلي 25 سبتمبر 2023، وذلك خلال الاجتماع الاستثنائي الثامن عشر للجنة التراث العالمي الذي عُقد في المقر الرئيسي للمنظمة بباريس، وبحضور كافة الدول الأعضاء في اللجنة. حيث يأتي هذا القرار تتويجاً للجهود الكبيرة التي تقودها المملكة العربية السعودية في منظمة اليونسكو في ظل الدعم غير المحدود الذي يحظى به القطاع الثقافي من قِبل خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، والأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز، ولي العهد السعودي رئيس مجلس الوزراء، وفي ظل الدعم والتوجيهات المستمرة من الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان، وزير الثقافة، رئيس اللجنة الوطنية للتربية والثقافة والعلوم، للتراث والثقافة السعودية.
وفي تعليق لها علي هذا الاختيار، قالت الأميرة هيفاء بنت عبد العزيز المندوب الدائم للمملكة لدى اليونسكو، بأن قرار استضافة بلادها للدورة الخامسة والأربعين الموسعة للجنة التراث العالمي في الرياض، ما هو إلا ثمرة الدور السعودي البارز في دعم التراث، ومساعيها الممتدة نحو توثيق الإرث الإنساني المشترك بجانب الدول الأعضاء في اللجنة، وتحقيق أهداف منظمة اليونسكو بشكلٍ عام، وأهداف لجنة التراث العالمي بشكل خاص.
تكمن أهمية لجنة التراث العالمي لليونسكو، المؤلفة من ممثلي 21 دولة منتخبة من قبل الجمعية العمومية، في اختصاصها بدراسة اقتراحات الدول الراغبة في إدراج مواقعها في قائمة التراث العالمي، ومساعدة الخبراء لرفع التقارير حول المواقع، وتقديم التقييم النهائي للحسم في قرار إدراج المواقع المقترحة ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو.
وكان قد تم انتخاب المملكة العربية السعودية خلال انعقاد أعمال الدورة الرابعة والأربعين في مدينة فوجو الصينة، نائباً للرئيس عن المجموعة العربية للفترة ما بين 2021- 2023، حيث بذلت خلال عضويتها جهوداً كبيرة لدعم التراث، وتوثيق الإرث الإنساني المشترك إلي جانب الدول الأعضاء باللجنة، ومن أبرزها إجماع أعضاء اللجنة على اعتماد مشروع القرار المقدم من المملكة لبناء قدرات العاملين في مجال التراث للعشر سنوات القادمة، مما سيسهم في تعزيز التنوع الجغرافي للخبراء، وتمكين الكفاءات الإقليمية، ووضع خطط وتدابير لحماية مواقع التراث الثقافي المهددة بالخطر، إلى جانب رفع الكفاءات التقنية والمهنية للشباب والخبراء في مجال التراث العالمي على حدٍ سواء. وإلي جانب ذلك، فإن السعودية هي عضو المجلس التنفيذي، وعضو اللجنة الدولية الحكومية لصون التراث الثقافي غير المادي، وهذا ما يؤكد علي فاعلية ودور المملكة في صناعة القرار باليونسكو.
لم يأتِ انتخاب المملكة العربية السعودية في هذه المواقع باليونسكو من فراغ، فالمملكة لها تراث ثقافي وحضاري عريق، ومن ثم فهي تقدر أهمية صون التراث الثقافي والحضاري العالمي والحفاظ عليه كإرث عالمي للبشرية كلها، حيث تشهد الآثار والمعالم التاريخية والحضارية الموجودة في مناطق عديدة من الجزيرة العربية، وخاصة في منطقة العلا التاريخية، أن الأراضي التي تقوم عليها المملكة العربية السعودية قد شهدت تعاقب العديد من الحضارات العريقة القوية التي سادت علي تلك البقعة من الأرض، فقد تميزت الجزيرة العربية بموقعها الجغرافي الاستراتيجي والمتميز الذي يتوسط بلاد الشرق الأدنى القديم، ومن ثم فقد كان لها دورها البشري المهم والمؤثر في تكوين السلالات الأكثر عدداً بين سكانه القدماء.
لقد كان لهذه الأرض نصيب وافر من دور الوساطة والتأثير وطرق التواصل والنمو والازدهار، حيث تشير الآثار التاريخية والحضارية التي مازالت باقية عن تلك الحضارات إلي أن الجزيرة العربية قد شهدت حضارات عديدة متعاقبة بداية بما تركه الإنسان البدائي القديم في عصور ما قبل التاريخ الإنساني من أدوات حجرية ورسوم بدائية متفرقة، مروراً بالحضارات القوية المزدهرة التي تدل البيوت التي تم نحتها في الجبال علي مدي القوة والإبداع الحضاري الذي وصلت إليه، وصولاً إلي ما تركته القبائل العربية المتحضرة في عصورها التاريخية القديمة من آثار معمارية قائمة حتي الآن، كبقايا المعابد والأسوار والسدود والحصون والأبراج والمساكن والمقابر، وما عثر عليه من آثار متنوعة لأدوات الاستعمال اليومي وأدوات الزينة وفنون النحت والنقش، في مناطق عديدة.
تظهر الاكتشافات الأثرية عن وجود أقدم الحضارات التاريخية في شبه الجزيرة العربية بمنطقة نجران، أهمهما حضارتا العبيد ودلمون اللتان ازدهرتا في منطقة الاحساء والخليج العربي، فقد تم اكتشاف أقدم آثار الحضارة الإنسانية بها، حيث جاء ذكر دلمون في الكتابات المسمارية القديمة التي تعود إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد، والتي وجدت في بلاد الرافدين وشمال سوريا. كما ازدهرت حضارة قوم عاد الذين سكنوا شبه الجزيرة العربية، في منطقة الأحقاف جنوب الربع الخالي.
جاءت حضارة قوم ثمود، بعد حضارة قوم عاد، فقد تكونت تلك الحضارة في البداية من قبائل وعشائر متعددة، وازدهرت حضارتها، ونمت قوتها حتي بلغت حداً عظيماً من المدنية والازدهار والقوة في شمال الجزيرة العربية، بوادي القرى بين الحجاز والشام، فقد كانوا ينحتون بيوتهم في الجبال، وما زالت تلك البيوت وآثارهم العريقة شامخة في مدينة العلا بين المدينة المنورة وتبوك.
علي الجزيرة العربية أيضاً، ازدهرت حضارة مدين، الذين أرسل الله إليهم نبيه شعيب عليه السلام، ليأمرهم بعبادة الله تعالى، والتي ترجع حضارتهم إلى ما قبل القرن الثالث عشر قبل الميلاد، فقد اشتهروا بالسيطرة علي طرق التجارة، وانتشر وجودهم إلى الشرق والجنوب الشرقي من خليج العقبة، حتي منطقة العلا.
بزغت مملكة معين على ضفتي وادي جوف بين نجران وحضرموت، واشتهرت في فنون العمارة والزخرفة، وبرعوا في الزراعة والصناعة واشتهروا أيضاً بالتجارة، وامتد نفوذهم حتي منطقة العلا بالقرب من وادي القري، ويشير تراثهم الحضاري الذي مازال قائما في منطقة العلا علي ما وصلت إليه هذه المملكة من قوة وازدهار.
نشأت مملكة سبأ وتنامت قوتها حتي غدت واحدة من أهم الحضارات التي شهدتها شبه الجزيرة العربية خلال القرنين العاشر والتاسع قبل الميلاد، فقد امتد نفوذها في اليمن وجنوب السعودية، ثم تمددت إلي شمال الجزيرة العربية وسيطرت على طرق التجارة وخاصة طريقي البخور واللبان. ومن بعدها ظهرت مملكة كندة في نجد جنوب مدينة الرياض، عام 547 قبل الميلاد، واتخذت من قرية الفاو مركزاً لها، واستمر نفوذها حتى القرن السابع الميلادي. كما شهدت الجزيرة العربية بزوغ حضارة دلمون قبل خمسة آلاف عام، والتي تمركزت شرق الجزيرة العربية والبحرين، واشتهرت تاريخياً بمقبرتها العملاقة. كما شهدت الجزيرة العربية ازدهار مدائن صالح، والتي تزامنت مع فترة دعوة نبي الله صالح، وتشهد آثارها الباقية علي تاريخها العريق، حيث تحكي هذه المعالم التاريخية عن ازدهار تلك الفترة التاريخية.
تعد الممالك السعودية القديمة من أهم منابع الحضارة العالمية، وتشير المعالم والآثار التاريخية في المنطقة إلي مدي ازدهار تلك الممالك وتقدمها في فنون العمارة، حيث تشمل تلك الممالك "فيد، الأخدود، تيماء، الجهوة، الشويحطية، ثاج، جرش، صفاقة، خيبر، خيف الزهرة"
أكسبت تلك الحضارات العريقة المتعاقبة سكان المملكة ثقافة متميزة، تشكلت نتيجة لصهر هذه الحضارات في بوتقة واحدة فكان هذا المزيج الثقافي والحضاري الذي تشكل عبر الحقب التاريخية المختلفة متأثراً بالبيئة المحلية، فنتج عنها ثقافة مميزة تمثلت في "السدو، بن جازان، العرضة السعودية، البشت، ورد الطائف، زيتون الجوف، نخيل الإحساء، وانعكست علي العمارة السعودية بشكل عام.
تضم السعودية العديد من المواقع التاريخية والأثرية المهمة التي تم تصنيفها من قبل اليونسكو ضمن "مواقع التراث العالمي"، تشمل "مدائن صالح" والتي تم إدراجها عام 2008، كأول المواقع التراثية السعودية التي تدخل ضمن قائمة اليونسكو للتراث العالمي، "حي الطريف" في الدرعية القديمة، عام 2010، ومنطقة جدة التاريخية، عام 2014، "الفنون الصخرية في منطقة حائل"، وتشمل منطقتي "جبة، الشويمس" عام 2015، "واحة الإحساء" عام 2018، "منطقة حما الثقافيّة" عام 2021.
كما تم إدراج عشرة مواقع تراثية أخري في قائمة اليونسكو الإحتياطية للتراث العالمي، وهي القائمة التي تضم المواقع المرشحة للدخول ضمن قائمة اليونسكة للتراث العالمي، وتشمل "درب زبيدة"، نسبة إلي السيدة زبيدة زوجة هارون الرشيد، أو ما يعرف بطريق الحج من الكوفة إلى مكة، خط حديد الحجاز، طريق الحج الشامي، طريق الحج المصري، قرية الفاو الأثرية، قرية رجال ألمع التراثية، قرية ذي عين التراثية، واحة دومة الجندل التاريخية، محمية عروق بني معارض، محمية جزر فرسان.
تحتضن مدينة العلا التاريخية العديد من الجواهر النفيسة للتراث الحضاري القديم التي تدل علي عبقرية الإنسان القديم وقدرته علي تخليد وجوده في تلك البقعة من الأرض، منها: قصر الفريد، قصر البنت، قصر العجوز، الديوان أو ما يعرف باسم مجلس السلطان، جبل البنات، مدافن الخريمات، محلب الناقة، الخريبة، مقابر الأسود، جبل عكمه، المابيات، المزحم، جبل الحوار، الحويرة.
التراث الإسلامي له مكانة كبيرة أيضاً في التاريخ السعودي، وتعبر عن تلك الحقبة المعالم الأثرية كقلعة الحجر الإسلامية، البلدة القديمة في العلا، قلعة موسى بن نصير "قلعة العلا"، عين تدعل، الساعة الشمسية "الطنطورة"، كسوة الكعبة.
واصلت أسرة آل سعود مسيرة الحضارة السعودية التي تمتد إلي آلاف السنين فبل الميلاد، فشيدت العشرات من القصور والقلاع مستخدمة مواد وخامات البيئة الطبيعية، حتي مازالت تلك المنشآت شامخة شاهدة علي تلك الفترة التاريخية الهامة في تأسيس المملكة العربية السعودية الحديثة.
منحت رؤية المملكة العربية السعودية 2030، التراث التاريخي والثقافي والحضاري في المملكة أهمية كبيرة، حيث وضعت من ضمن أهدافها مضاعفة عدد المواقع السعودية الأثرية المدرجة في قائمة التراث العالمي لليونسكو، إلي جانب اعتبار التراث الثقافي والحضاري السعودي مورداً من موارد الدولة الطبيعية، فالتاريخ الحضاري للدول لم يعد مجرد آثار ومعالم تراثية، بل أصبحت تشكل مورداً اقتصادياً يستقطب السياح من مختلف دول العالم، ومورداً من موارد الدخل القومي، ويشكل علامة خاصة للدولة تنعكس علي كافة القطاعات الاقتصادية الأخري. والتجربة الكورية الجنوبية المعروفة باسم "الموجة الكورية"، خير دليل علي ذلك، ومن ثم فإن السعودية لديها المقومات التاريخية والثقافية والحضارية والاقتصادية لصنع "موجة سعودية" لما تتميز به من تراث ثقافي وحضاري مادي، يتمثل في المعالم التاريخية، وتراث غير مادي كالفلكلور والتراث والمطبخ السعودي المتميز، وكلها جوانب فريدة ومتميزة يمكن لها أن تصنع "موجة سعودية" تحظي بشهرة واسعة لدي كافة شعوب العالم.
*باحث في الشئون الآسيوية

