• 29 حزيران 2024
  • أقلام مقدسية

 

 

بقلم : الباحث المقدسي فـــــوّاز إبراهيــــــم نــــزار عطيـــــة

 

لم ولن أتردد في كتابة مقال يدحض خرافة شراء عقار في القدس الشريف من عيال سموتريتش، خاصة إذا كان العقار من النوع الوقف الذُرّي، فحكاية يوم أمس أضحكتني بشدة، ضمن مشهد غير مُحكم التمثيل جراء محاولة دخول بعض المستوطنين بعدد غير مقنع من حيث التجمهر والحشد، فضلا عن عدد المرافقة القليل، بل القليل جدا من الشرطة الإسرائيلية، في ظرف استثنائي تعيشه المدينة المقدسة منذ السابع من تشرين أول من عام 2023.

فزعم بعض عيال سموتريتش شراء جزء من وقف المرحوم مفخر الفضلاء الكرام زبدة السادات الفخام خالدي زادة السيد محمد أفندي نجل عمدة العلماء والمدرسين العظام موالنا سيدي علي أفندي الخالدي...

هذه المصطلحات وردت في حجة وقف المرحوم محمد علي الخالدي المحفوظة في سجل المحكمة الشرعية رقم 295 ص 82- 84 غرة محرم الحرام عام 1227 هجري، أذ أفصحت عن أصل الحقيقة للعقار محل الاعتداء، وهتكت ستر زمرة فاسدة من المستوطنين التي لا تكل ولا تمل في استفزاز أهل القدس وسكانها في ظل منظومة مدعومة من سموتريتش، الذي أنفق ملايين الشواقل منذ توليه خزانة المال في دولة الاحتلال، في سبيل تشجيع شراء العقارات في القدس القديمة، بحيث أنفق وفق ما سربته بعض الصحف المحلية ما لا يقل عن 112 مليون شيقل لهذه الغاية في اللحظات الأولى من جلوسه على كرسي الخزانة، ولا يزال ينفق الملايين في سبيل ليّ أيدي أهل القدس واتهامهم ببيع عقاراتهم، بهدف زعزعة الثقة العامة بين أبناء البلد الواحد ولنشر التململ والنميمة بين أهل القدس وسكانها.

نعم الآن لآن كما في الغد وبعده، سيكون هذا المشهد محل تكرار وبأساليب مختلفة – ولا يخالجني الشك أنه محل إخراج أحد أسلاك أجهزة الامن الإسرائيلي – لكن هذا الاسلوب تقهقر امام عتبات الأوقاف الذُرية لأجدادنا، لاسيما وأن الاحتلال ذُهل من خلال الدراسات التي أظهرتها جمعية المحافظة على الوقف والتراث المقدسي

 " وقفنا"، التي أنبأت عن نسبة عالية جدا ضمن تصنيف الوقف الإسلامي من مجموع عقارات القدس القديمة، بحيث لم تكن في الخاطر ولم تكن ضمن حسابات أية دولة أجنبية محتلة أو استعمارية، بأن تشكل نسبة الأوقاف الإسلامية في القدس القديمة ضمن تصنيف الوقف الذُري والخيري ما نسبته 70% من مجموع عقارات البلدة القديمة.

وهذا الرقم حقيقة شكل صدمة لدولة الاحتلال، مما دفع ببعض خيوطه لرسم سيناريوهات متعددة، ضمن فصول ومشاهد مختلفة، لعل أحدها يؤدي إلى زعزعة الثقة العامة بين أهل القدس ولزحزحة رباطهم من بيت المقدس وأكنافه.

وعودة إلى مسرح الإخفاق في الاستيلاء على وقف المرحوم محمد علي الخالدي يوم أمس وهو يوم مشهود، المُنشأ في 1 محرم من العام 1227 هجري الموافق ل 16/1/1812 ميلادي، جدير ببيانه لا بل جدير بإظهاره وتوضيحه بصورة جلية لا لبس أو غموض فيها، أن الوقف الذُري هدفه حبس العين من التصرف في بعض أوجه التصرفات القانونية كالبيع والرهن، مما تعتبر المنفعة فيه منفعة لأفراد معينين من ذُرية الواقف(الأولاد والأحفاد وفي كثير من الحالات الأسباط)، ويقوم على أساس حبس العين والتصدق بريعها على الواقف نفسه وذُريته من بعده بشروط يحددها، وعادة ما يشترط الواقف أن يؤول إلى جهة بر بعد انقطاع الموقوف عليهم، وفي هذه الحالة يعتبر وقفا أهليا ابتداءً خيريا مآلا.

ومن هنا، وبعد أن أجريت اتصالا مكثفا مع أحد المتولين واستطلاعا وافيا عن واقع أمر التولية للوقف المذكور، فقد ثبت لدي أن حيدر كامل الخالدي كان المتولي على وقف جده المرحوم محمد علي الخالدي بعد حرب عام 1967 حتى نهاية الثمانينات من القرن الماضي، بحيث تنازل عن اعمال التولية لابنه كامل المقيم في الأردن، والأخير وكّل شقيقته هيفاء لتحل محله في إدارة الوقف عام 2008، لكن احد المستحقين في الوقف اقام دعوى امام القضاء الشرعي المختص، موضوعها محاسبة وعزل المتولي كامل المذكور، بحيث استمرت إجراءات المحاكمة حتى العام 2012، إلى أن صدر بذات العام حكم قضائي شرعي، يفيد عزل كامل المذكور عن تولية وقف المرحوم محمد علي الخالدي لوحده، وتم تعيينه مع 3 متولين آخرين وهم: د.عاصم الخالدي ورجا الخالدي وخليل الخالدي وكامل الخالدي، وبوفاة كامل المذكور انحصرت التولية فقط بأيدي المتولين الثلاثة المذكورين عاصم ورجا وخليل مجتمعين، ليكونوا متولين على وقف جدهم المرحوم محمد علي الخالدي وأوقاف ذُرية أخرى منها أوقاف كل من: الشيخ محمد صنع الله الخالدي والشيخ موسى الخالدي بالإضافة إلى المكتبة الخالدية.

وبناء على ما تقدم، فإن لكل مستحق في الوقف الذُري أن ينتفع بإحدى عقارات الوقف مقابل بدل معلوم سنوي، ليتم توزيع ريع الوقف على المستحقين في كل عام، بعد اجراء المحاسبة الشرعية امام القاضي الشرعي المختص، وبالتالي لا يملك من كان ينتفع بالعقار ضمن حقوق الاجارة سواء أكانت محمية أو غير ذلك أن ينقل حق الانتفاع للغير سواء أكان مقابل بدل خلو أو دون ذلك، بغياب المتولي أو دون الحصول على موافقته.

ومن هنا تكمن حل الإشكالية محل مسرح أضحوكة أمس، فلو افترضنا - بالفرض الساقط - أن هيفاء الخالدي باعت أو نقلت حق المنفعة لأي جهة كانت، ولو افترضنا كذلك أن ارادتها كانت حرة تامة دون إكراه يمس عيب من عيوب الإرادة المعتبرة شرعا وقانونا، فإنه ودون الحصول على موافقة المتولين مجتمعين المعينين من المحكمة الشرعية التابعة لوزارة القضاء الإسرائيلي، فلا قيمة ولا فائدة ولا أهمية لواقع النقل في حق المنفعة، لأن محور واساس عملية النقل في حقوق المنفعة مرهونة بموافقة المتولين الثلاثة.

كما وأن عملية البيع التي زعم عيال سموتريتش وقوعها بينهم وبين هيفاء الخالدي، أشكك في مصداقيتها، لسبب واحد ووحيد، لأنهم لا يعلمون عن واقع الاتفاق المعقود بين هيفاء ولجنة متولي وقف محمد علي الخالدي، امام المحكمة الإسرائيلية عام 2021، بأن حق هيفاء محصور في الانتفاع بالعقار حتى مماتها وبعد مماتها يعود العقار إلى لجنة متولي الوقف لإدارته وفق شروط الواقف.

فكيف لغباء هذه الزمرة الادعاء بشراء حق المنفعة في يوم وفاتها أو قبل يوم وفاتها بسويعات، وقد توفاها الله قبل شهرين تقريبا، وكيف سيتصرفون مع واقع حكم المحكمة ضمن شروط الاتفاق المبرم قبل 3 سنوات بين هيفاء المذكورة وبين لجنة متولي وقف محمد علي الخالدي في ظل البيع المزور؟ وكيف سيبرر الأمن الإسرائيلي فشله في مساندة قصة غير محبوكة بشدة واتقان؟ وكيف سيتعاطى الأخير مع واقع الفشل في الاستيلاء على عقار يعتبر من وجهة نظره شديد الحساسية، وضمن تصنيف أمني عالي الخطورة بالنظر إلى موقعه الاستراتيجي المطل على ساحة البراق (ساحة المبكى)، لاسيما وأن مساحته 200 متر مربع مشمولا بما لا يقل عن 7 نوافذ تطل على الساحة المذكورة.

اعتقد جازما أن الإخراج المسرحي الفاشل الذي وقع فيه عيال سموترتش، لا تطال فطنة وذكاء أهل القدس، مؤكدا أن الله تعالى لهم بالمرصاد وأن مكر بعض المستوطنين لا يضاهي مكر الله، مع ضرورة أخذ الحيطة والحذر من الساعة ومستقبلا، لأن هذا الفشل العميق لتلك الزمرة البائسة، لن تقف عند هذا الحد، وسنكون في المستقبل القريب ضمن مشاهد ومحاولات أشد حُبكا لتدارك الإخفاق في عملية سطو غير دقيقة لعقار مقدسي موقوفا وقفا ذُريا بامتياز منذ ما يزيد عن 230 عاما، حيث هذا الوقف شأنه شأن المئات من الأوقاف الذُرية والخيرية الإسلامية التي ما زالت شامخة وحصنا وسدا منيعا في منع تهويد المدينة المقدسة، دأبها دأب الوقف المسيحي بنوعيه الخيري والذُري.

وإن غدا لناظره قريب.