- 1 أيلول 2025
- أقلام مقدسية
بقلم : تحسين يقين
كنت ابن ست سنوات حين سمعت اسمه مرتبطا باحترام قرويي بيت دقو شمال غرب القدس، وحين زارنا في أول شتاء 1973، تتبعت مكان تواجده بين المزارعين، فوجدت رجلا أنيقا طويلا، يلبس قميصا وبنطلونا. ثم تتبعنا مع أطفال القرية تنقله الى مكان آخر، على جبل "بريطة". كان عمي أبو صالح يدخل الأربعين من عمره.
عرفنا في مرحلة مبكرة من عمرنا كقرويين أطفال، أن هذا “المدني” جاء ليشجعنا ليس فقط على حماية الأراضي الزراعية، بل تعمير الأراضي البور. كنا نتلقى ذلك فطريا، ذلك أن الأرض "المعمرة" أجمل؛ ففيها الشجر وظله، ونمشي فيها براحة وحرية بدون أشواك. في ذلك الوقت صرنا نعرف أن الاحتلال يريدنا بعيدا عن الأرض، وان عمي أبو صالح، يريدنا قريبين منها.
ولم تمرّ سوى بضعة أشهر حتى علمنا من أحاديث الأهل في بيت دقو ان الاحتلال "نفى" عبد الجواد صالح، ولم يطل كثيرا بحثنا عن دلالة "النفي"، ووقتها تعلمنا بأن الاحتلال يكره من يعمّر الأرض ويزرعها، لذلك لم نكن ننظر بعين الرضا للعمال الذين بدأوا بالعمل في الورش والمصانع الإسرائيلية، كوننا رغم عمرنا الصغير عرفنا انه من الممكن العيش بعيدا عن الاحتلال.
إذن كان العم أبو صالح من المؤمنين والعاملين من أجل تقوية بقاء الفلسطيني على أرضه، ولم نكن نعرف عن لجنة التوجيه الوطني التي سعت بذكاء وحكمة الى تأسيس الكيانية الفلسطينية في الأرض المحتلة عام 1967.
نبع الفهم العميق لدى لجنة التوجيه الوطني من أهمية إنهاء الاحتلال ومقاومة الاستيطان، وبناء كيان وطني هنا، تاركين أمر فلسطين المحتلة عام 1948، الى تسوية سياسية تعيد اللاجئين الى الوطن، بحيث تمثلت الرؤية بتحقيق حاجة عملية وهي إقامة دولة فلسطينية على الأرض المحتلة عام 1967، وحاجة استراتيجية تتعلق بفلسطين التاريخية، بما يخص الحقوق الوطنية لشعبنا.
لم تكن دولة الاحتلال يوما ناوية إنهاء الاحتلال؛ فأقصى ما يمكنها تحمله هو منح "المدن والأماكن ذات الكثافة السكانية حكما ذاتيا. فلم يكن في الوارد الانسحاب، ولعل مفردة "إعادة الانتشار" التي واكبت أوسلو خير دليل. لم يكن في البال الانسحاب من الغور، ولا الانسحاب من القدس، ولا غرب الضفة الغربية فيما بعد، بمعنى ان الحلول الاحتلالية انطلقت جميعا من عباءة إيغال ألون. وقد كان ذلك مبكرا بعد احتلال الضفة الغربية، ما يعني أن التخطيط الصهيوني كان سابقا للاحتلال عام 1967.
لقد سبقنا عدد من الكتاب لذكر سيرة عبد الجواد صالح، أكان ذلك في طفولته حين كان يصاحب والدته لبعث الطعام والشراب لخاله المطارد في ثورة 1936، حيث لم يكن قد تجاوز بضع سنوات من العمر، وانخراطه في العمل الوطني والقومي، ودراسته في الجامعة الأمريكية في القاهرة، ووقوفه مع شخصيات وطنية لإعادة فلسطينيين الى بيوتهم بعد أيام من حرب عام 1967 حتى لا تتكرر مأساة عام 1948. ثم كان لنا أن نشهد في طفولتنا وقوفه الى جانب القرويين، حيث تحدى حاكم الاحتلال العسكري الذي هدده بعدم التدخل خارج نطاق بلدية البيرة. ثم مشاركته الفاعلة مع خيرة الشخصيات الوطنية في لجنة التوجيه الوطني- الجبهة الوطنية الفلسطينية. ثم ترأسه لبلدية البيرة، فالنفي، ثم صرنا نتابع ما تيسّر من معلومات عن تأسيسه "مركز القدس للدراسات التنموية" في عمّان، ثم الانتقال الى بيروت، حيث كانت له بصمة في تأسيس الملاجئ لحماية اللاجئين من القصف. استشهد ابنه ماهر في تدريبات عسكرية كان يجريها في لبنان في العام 1974. فذاق مرارة الفقد لكنه صبر صبرا جميلا وواصل النضال.
تشكل لجنة التوجيه الوطني- الجبهة الوطنية الفلسطينية أحد أهم مفاتيح شخصية عبد الجواد صالح، ذلك أنها كانت البداية الفعلية الواقعية والعملية مع لإنهاء الاحتلال.
ولما كانت أهداف اللجنة-الجبهة أهداف واقعية يتقبلها المجتمع استنادا إلى قرارات الشرعية الدولية لحل الصراع الفلسطيني والعربي الإسرائيلي، رافعة بعد حرب تشرين شعار إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية وقطاع غزة، وحق العودة للاجئين الفلسطينيين بحسب القرار الأممي 194، فإن ذلك لم يكن ليرضي الاحتلال، فراح يحاصر ويضيّق على الشخصيات الوطنية.
ان تأسيس الجهة الوطنية كان لقطع الطريق على دولة الاحتلال التي ترفض التعامل مع منظمة التحرير، فالمهم وقتها إنهاء الاحتلال.
طارد الاحتلال الشخصيات الوطنية، ورفضها، كما رفض بالطبع منظمة التحرير، والتي حتى ولو وقع معها اتفاقية أوسلو 1993، فإنه ما زال يرفض جوهرها، وما حديثه عن رفض وجود السلطة الوطنية (ذراع منظمة التحرير) في قطاع غزة، إلا دليلا على ذلك.
وبالطبع فإن الاحتلال منذ حزيران 1967، وهو يبحث عمن يقبل بكيان منقوص لنا، حتى لا تظهر دولة فلسطين، وهذا ما رفضته لجنة التوجيه الوطني. لقد مرت 58 عاما ودولة الاحتلال ترفض فلسطين، حتى مجرد الاسم تعتبره تحريضا! حيث أنها تستخدم "الفلسطينيين" وليس فلسطين.
لقد اخترت الحديث عما أجمعنا عليه، لا ما تجادلنا حوله منذ مؤتمر مدريد واتفاقية أوسلو، وإقامة السلطة والجدلية التي ما زالت تصاحب التأسيس والوجود والمستقبل، والتي شكّل عبد الجواد صالح حالة جدلية-إشكالية، في الرؤية، ولا نجد اليوم ضرورة للتركيز على الخلاف، بقدر ما نحتاج الى استلهام تجربة الجبهة الوطنية.
لذلك، فإنه عندما يترجل عبد الجواد صالح الفارس، فهناك ما نستلهمه من الفعل الوطني الذي قاد نضال شعبنا في الأرض المحتلة بشجاعة وتضحية كواجب وطني لا كوظيفة لها امتيازات. لعل الاستخلاص والعبرة هي في ضرورة وجود القيادات الوطنية بين شعبنا، فذلك يمنح الأمل والفعل.
كنت دوما ككثير من القرويين، والمدنيين، نتذكر عمي أبو صالح، كل حسب عمره وما اختبره من حياته الوطنية، دخلن العشرين والثلاثين والأربعين (كان في عمرنا أوائل السبعينيات) والخمسين، واليوم أعود طفلا ابن ست سنوات يصاحب والده وهو يحرث الأرض لتظل خضراء. أتذكر رشاقة والدي الخمسيني وقتها، حين جاء من يناديه للاجتماع بعبد الجواد صالح مع فلاحي بيت دقو. واليوم أجدني في عمر والدي الذي كانه، أتجول في جبال بيت دقو، التي حميناها من المستوطنات، فكان فكان ان التهم الجدار جزءا منها، فكان أول ما فعل الغزاة الاستيطان، ولم يكن الجدار العنصري الا وسيلة لمصادرة الأرض.
حينما شاهدته قبل بضع سنوات، دهشت لتذكره تفاصيل ما كان، كان يسير بعصاه في قرب دوار المنارة، بنبله ونظارته. لقد أحبّ العم أبو صالح وطنه ومدينته البيرة وتوأمها رام الله، وظل عاشقا للوطن الى آخر نبض.