- 9 أيلول 2025
- أقلام مقدسية
بقلم : د. حسين الديك
بعد الاعلان عن انطلاق عملية مركبات جدعون 2 في قطاع غزة عمل الجيش الاسرائيلي على استهداف الأبراج السكنية وتدميرها بشكل ممنهج وفقا للرواية التي تقول ان الابراج تستخدم خلايا للطاقة الشمسية لتزويد البنية التحتية لحركات حماس بالطاقة والكهرباء، واحيانا اخرى انها تستخدم كأبراج المراقبة و الكاميرات التي ترصد حركة الجيش الاسرائيلي في غزة، وبناء على ذلك بدأ الجيش الاسرائيلي باستهداف تلك الأبراج من خلال إرسال نداءات الإخلاء للسكان لاخلائها لتجنب وقوع ضحايا من المدنيين قبل البدء بعمليات القصف والتدمير.
أصبحت عمليات استهداف الأبراج السكنية في مدينة غزة ظاهرة مستمرة ينفذها الجيش الإسرائيلي لتحقيق أهداف غير معلنة، علما بأن "مدينة غزة وحدها تضم نحو 914 ألفا و556 نسمة، ويبلغ عدد الأبراج والعمارات السكنية متعددة الطوابق فيها حوالي 51 ألفا و544 مبنى ، وهذا التدمير المنظم يهدف الى إحداث ضغط ديموغرافي ونفسي على السكان، وتهجيرهم قسريا، وإعادة تشكيل السيطرة الميدانية ومن أهم تلك الأهداف هو إحداث الصدمة النفسية لدى المواطنين في غزة واجبارهم على النزوح نحو جنوب القطاع وإخلاء المدينة ، اذ ان تواجد المدنيين في غزة يعيق العمليات العسكرية التي ينفذها الجيش الاسرائيلي ، وبذلك فان اسرائيل تعمل على إعادة هندسة الوعي وزرع الخوف والرعب لدى المواطنين واجبارهم على مغادرة المدينة، ومن جانب آخر تريد أن ترسل رسالة للمواطنين بأن مدينة غزة سوف يتم تدميرها ولا عودة مستقبلية إليها ولن تصبح صالحة للسكن مستقبلا بعد كل هذا الدمار والاستهداف المنظم للمباني والأبراج السكنية في المدينة.
وفقا لنظريات العلوم الاجتماعية والسلوكية فإن مفهوم هندسة الوعي تتلخص في تشكيل حالة عقلية للفرد مؤداها أن يكون لديه أفكار وخطط وصور وإحساسات وادراكات ومشاعر وانفعالات تستجيب للواقع والظروف المحيطة به وبالتالي هو مرحلة انتقالية من العقل المنفعل إلى الفاعل ، ووظيفته تمييز السلوك عن النشاط الفسيولوجي، وهو يتشكل بفعل قوة داخلية و خارجية مؤثرة على الإنسان وعند الحديث عن هندسة الوعي في غزة لا نستطيع تجاوز الظرف الراهن وما يحدث من عمليات تدمير وإبادة وقتل وتجويع وحصار وإغلاق مما يشكل حالة حاضنة في هندسة الوعي نحو الخلاص الفردي بالمغادرة والرحيل.
ان استمرار استهداف الأعيان المدنية وقصفها بالقنابل والقذائف وتدمير مدن وقرى بأكملها أدى إلى تشريد مئات الالف من المدنيين، وهذا يشكل أيضا نوع من الصدمة النفسية للمواطنين في العلاقة ما بين المسكن والإنسان ، إذ يشكل البيت والمسكن تتويجًا لجهود طويلة وهو فخر الأسر بأكملها، وعندما يرى مالك المنزل كيف يتمّ تدمير بيته في غضون ثوانٍ قليلة وتحويله إلى أنقاض فهذا يشكل صدمة نفسية كبيرة ، ولا يقتصر التدمير على تدمير المنزل بحدّ ذاته، بل يشمل أيضًا القضاء على مدخرات أسر بأكملها وعلى الذكريات وعلى الراحة التي يولّدها الشعور بالانتماء، كما يتسبب تدمير المباني والأبراج السكنية بصدمات اجتماعية ونفسية من الصعب وصفها.
ان استهداف الأبراج السكنية والمباني يشكل انتهاكا جسيما للقانون الدولي الإنساني لاسيما المادة (53) من اتفاقية جنيف الرابعة التي تحظر تدمير الممتلكات الخاصة الثابتة والمنقولة، كما تشكل انتهاكاً جسيماً لنص المادة (51) من البروتوكول الأول الملحق باتفاقيات جنيف التي تحظر الهجمات العشوائية، أي الهجمات غير الموجهة لهدف محدد أو لا يمكن حصر آثارها، وانتهاكا لنص المادة (33) من اتفاقية جنيف الرابعة التي تؤكد على أنه "لا يجوز معاقبة أي شخص محمي عن مخالفة لم يقترفها هو شخصيا، وتحظر العقوبات الجماعية وبالمثل جميع تدابير التهديد أو الإرهاب ... تحظر تدابير الاقتصاص من الأشخاص المحميين وممتلكاتهم، " كما تشدد المادة (52) من البروتوكول الإضافي الملحق في اتفاقيات جنيف الأربعة على أنه "إذا ثار شك حول ما إذا كانت عين ما تكرّس عادةً لأغراض مدنية مثل مكان العبادة أو منزل أو أي مسكن آخر أو مدرسة، إنما تستخدم في تقديم مساهمة فعالة للعمل العسكري، فإنه يفترض أنها لا تستخدم كذلك".