• 21 أيلول 2025
  • أقلام مقدسية

 

بقلم : رامي منصور*

 

منذ يومها الأول تعيش إسرائيل حالة إسبرطة، فاقتصادها معسكر، ومجتمعها مُجَيَّش، وجيشها "جيش الشعب"، إلا أن ما قصده بنيامين نتنياهو بخطابه عن إسبرطة العظمى، سوبر إسبرطة، كان يتعلق أساسًا بصناعة الأسلحة في ظل رفض دول غربية عدّة تزويد إسرائيل أسلحة ومركبات تتعلق بصناعة الأسلحة في أعقاب استمرار حرب الإبادة والتهجير في قطاع غزّة، وقد قال في مؤتمر صحافي في اليوم التالي، إن فرض عقوبات على تزويد إسرائيل بالأسلحة نابع من اعتبارات سياسية، ولا تتعلق بقوة الاقتصاد الإسرائيلي.

وغداة تصريحات نتنياهو، نشر "المعهد لإرث بن غوريون" اقتباسًا من تصريحات للأخير بعد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، تطرّق فيه إلى تشبيه إسرائيل بإسبرطة. إذ قال: "ليس هدف إسرائيل أن تصبح إسبرطة جديدة. قوّتنا وقدراتنا ستظهر بمعامل التصنيع، استيعاب الهجرة، وتفوّق الإنسان والمجتمع، بحيث نصبح أُمثولة حيّة لليهود في أنحاء العالم".

وفي العام 1955، قال: "إننا لا نطمح لنكون إسبرطة، شعب يعيش على سيفه، فرؤية السلام هي رؤية يهودية. وفي استعداداتنا العسكرية، وحتى في عملياتنا العسكرية التي تُفرض علينا، لا يجوز لنا أن نَشِذّ عن موقفنا، بأنّ هدفنا النهائي في علاقاتنا مع جيراننا هو السلام والعيش المشترك". وأضاف أن "قوّتنا لا تُقاس فقط بالانتصارات في ساحات المعارك، وإنما بقدرتنا على خلق مجتمع قيمي، ورؤية من أجل السلام، وحياة مشتركة".

كانت هذه أحاديث بن غوريون، الذي فرض الخدمة العسكرية الإلزامية على الإسرائيليين منذ اليوم الأول، وأسس دولة قامت على القتل والتهجير الجماعي، وسخّر كل موارد المجتمع لبناء جيش نظامي ضارب، فاق عدد مقاتليه عدد المقاتلين العرب في حرب 1948، وبعتاد عسكري فاق أسلحة العرب كمًّا ونوعًا. رغم ذلك، تحفّظ على تشبيه إسرائيل بإسبرطة، ربما لإدراكه أيّ قيم فاشية حملتها وربّت عليها تلك الدولة الزائلة.

وذكر كاتب إسرائيلي أن بن غوريون سُئل مرّة: هل إسرائيل أقرب إلى أثينا أم إسبرطة؟ فتحيّر في الإجابة، إلا أن نتنياهو فكّ حيرة بن غوريون في خطاب "سوبر إسبرطة"، بقوله إن إسرائيل ستكون أثينا وسوبر إسبرطة، أي دولة العلم والثقافة والفنون، ودولة الحراب. وهذا ما يُزعج الإسرائيليين ويُقلقهم من حملات المقاطعة الأكاديمية والثقافية، بأنهم نجحوا في الترويج لإسرائيل بأنها دولة الليبرالية والتعدّدية الثقافية، رغم وجهها الآخر كدولة احتلال واستيطان وفصل عنصري، أثينا من وجهة، وإسبرطة من وجهة أخرى، واليوم باتت جرائم الحرب في غزّة تُسقط قناع أثينا عن إسرائيل.

وفي مؤتمره الثاني، قال نتنياهو إنه يريد السلام، لكنه يريد النصر أولًا ثم السلام، وكأن إسرائيل في حرب شاملة، فيما الحقيقة هي أن إسرائيل تشنّ حربًا إقليميّة من طرف واحد، تجاوزت الرد على "طوفان الأقصى"، أو مهاجمة المحور الإيراني. فهي تخوض حربًا تقول فيها لدول المنطقة: أنا إسبرطة العظمى، كبديل أو تطوير لفكرة إسرائيل الكبرى، فلا حدود لها، وقوة بطشها بمقدورها أن تصل إلى كلّ شباك غرفة في المنطقة.

وقد ظهر هذا الشعور بفائض القوة في بروتوكولات الكابينيت الإسرائيلي خلال المواجهة الأخيرة مع إيران، كشفتها القناة 13 الإسرائيلية هذا الأسبوع، يطالب فيها نتنياهو الجيش والأجهزة الأمنية في إحدى الجلسات "برأس خامنئي"، أي استهدافه واغتياله، كما تُظهر البروتوكولات أن الكابينيت اعتقد أن بإمكانه زعزعة استقرار النظام الإيراني وصولًا لإسقاطه، ووصل بهم الأمر إلى إقرار استهداف سجن في طهران لتمكين أسرى معارضين للنظام من الفرار وإحداث فوضى ضد النظام.

لكن إسرائيل، في المحصّلة، ليس بمقدورها أن تكون إسبرطة العظمى في المنطقة، فهذا وهم، وما يتيح لها ممارسة هذه الغطرسة حاليًا هو حالة الهوان العربي وتعلّق النظام العربي بالولايات المتحدة، ودعم الأخيرة المطلق لإسرائيل.

في النهاية، ما يظل مقلقًا وأولوية هو ممارسات التهجير الإسرائيلية في غزّة والقدس والضفة الغربية، فالحديث عن ضمّ الضفة ليس مسألة جغرافية، بل ديمغرافية، تهدف إسرائيل من خلاله إلى جعل حياة الفلسطينيين في الضفة إلى جحيم، سواء من الحرب على مخيمات اللاجئين، أو محاصرة البلدات الفلسطينية بالحواجز العسكرية والمستوطنات والمستوطنين، وهذا ما نفّذته من قبل في القدس المحتلة، ودفعت بالعديد من المقدسيين إلى الضفة الغربية.

لم يُرِد بن غوريون أن تعيش إسرائيل على حدّ السيف، ولم يُرِدها إسبرطة ولا عظمى، لأنه كان يُدرك مخاطر قيمها، لكن ما خلّفه مشروعه اليوم من ظواهر التطرّف القومي الديني والعداء للديمقراطية والليبرالية، أو أيّ مظهر للتعدّدية، يُحوّل إسرائيل إلى دولة ظلامية فعلًا، ستتفوق في تطرّفها القومي الديني على دول المنطقة جمعاء، إذا ما لم تتمكن ما تُسمى "قوى التغيير" المحسوبة ليبرالية وعلمانية من مواجهة التيار الجارف المتطرّف في المجتمع الإسرائيلي. فإسبرطة، في الحقيقة، باتت تُقسَّم داخليًا بين "يهودا" و"إسرائيل"؛ يهودا دولة القوميين الدينيين مثل المستوطنين، وإسرائيل دولة العلمانيين والليبراليين التي أسسها بن غوريون.

باتت أثينا، بعُرف نتنياهو، مُجندة في خدمة إسبرطة، العلم والتكنولوجيا أداة في خدمة آلة الحرب والقتل

ليست المنطقة العربية على مفترق طرق فحسب، بل إسرائيل أيضًا، فظلمها وظلامها الذي يُغطي المنطقة، ينطلق منها ويُغطي داخلها أولًا.

*عن عرب ٤٨