- 6 تشرين أول 2025
- أقلام مقدسية
بقلم : د ، علي حسين قليبو *
" هذه المقالة كتبها الدكتور علي حسين قليبو لأحد المواقع الالكتروني،( سين ٤٨) والذس طلب منه الكتابة عن غزة والتي تربطه بها علاقة خاصة تمتد جذورها لعشرات السنين بل هي تمثل علاقة القدس بغزة في وقت من الأوقات . يسعدنا في شبكة " أخبار البلد" المقدسية ان نعيد نشر مقالة الصديق الدكتور علي قليبو لأنه حان الوقت لمواجهة الواقع بعيدا عن الأوهام التي عاشتها الأجيال الماضية ونخشى ان تعيشها الأجيال القادمة .
تُطارِدُنا مَشاهد غزة المُؤلمة بشكلٍ متكرّر تُشير إلى دَمارٍ وأَطلال ورَماد: عائلات مشرَّدة، جُموع أطفالٍ ورجالٍ ونساء متقدّمين في العُمر بلا مَأوى ولا مُعيل يَجوبون الشّوارع بحثًا عن الطعام، وتَهيِّج بنا هذه المَشاهد مختلَف درجات المَشاعر المُرعبة، فلقد زالت الطمأنينة عن إخوانِنا وحلّ محلّها الذُّعر والقَلق، الجوعُ والعطَش، البرْد والحرّ فيَستَعِر السؤال الوجوديّ عن معنى هذه المِحنة وعلاقتها بالمفاهيم الواهِية والضَّلال الفكريّ السياسي الّلتان لطالما رافقتهُما الاتكاليّة المعنويّة والاقتصادية على الشعوب الأخرى لتحلّ قضيّتنا، ويَتَفاقم الشّعور بالشكّ بجديّة القيادة الفلسطينية التي تمثّلها السلطة الوطنية من ناحية وحكومة "حماس" في تولّي القِيادة على الصعيد السياسي، من الناحية الأخرى نتردّد على صفحات التواصُل الاجتماعي فنقرأ الآتي:
لماذا يَحدث لنا ولأهلنا كلّ ذلك في غزة؟
لماذا؟
مِن أجل مَن؟
من أجل ماذا؟!
ملعون أبو كلّ العالم من شرقه حتى غربه..
ومن جنوبه حتى شماله"...
توقِظنا المِحنة في غزة مِن بهتان المَفهوم الشائع عن وحدة العالَم الإسلامي وزَيف خطاب القومية العربية الذي أصبح اعتقادًا راسخًا َيربط الإسلام والتاريخ واللغة العربية بعلاقة وثيقة وعميقة يرافقُه، من الجانب الفلسطيني، اعتمادٌ مُفرِط على الشعوب العربية الإسلامية لتلبية احتياجاتنا العاطفيّة العمليّة -والتي تتعارض مع الواقع- مما أعاقَ استقلالية قراراتنا: فَلَعِبَ الخطاب القومي العربي في الأدب والفن والخطابة دورًا كبيرًا في تضليلنا بَلَغ ذروتَه إبّان الحكم الناصريّ، حيث جَمَع بين العقيدة والقيم والتقاليد في خطاب ثقافي فنّي سياسي عن الوحدة بين الشعوب العربية، استطاع أن يشكّل الوجدان العربيّ وأن يتخطّى الحدود الجغرافية ويربط بين التنوّع الثقافي للشعوب العربية من خلال اللغة العربية من ناحية وتبني الإسلام في خطاب التنظيمات الإسلامية في نهج الإخوان المسلمين من ناحية أخرى.
لقد كان خِطاب «الهُويّة العربية» يعني بأنّ العرب أمَّةٌ واحدة تتألّف من أقطار متعدّدة، لكنّها تشكّل في ما بينها امتدادًا جغرافيًّا واقتصاديا وثقافيًّا وحضاريًّا واحدًا، والمتضرّرين مِن تثبيت هذه «الهُويّة» وتفعيلها هم حتمًا من غير العرب، الذين في الماضي، كما هم في الحاضر، يمنعون توحّد شعوب الأمَّة العربية؛ حفاظًا على مصالحهم الاقتصادية خلال الهيمنة السياسية في المنطقة، وعلى مستقبَل استنزافهم ثرواتِها فلا نَغفَل عن الدّور الذي لعبته بريطانيا في تَشكيل الجامعة العربية.
تَجِد -مِنَ المَنظور الإنثروبولوجي- أن الحُدود الجغرافية التي تفصل البلدان العربية والإسلامية عن بعضها البَعض قد أوجدت حدودًا ثقافية أثّرت في اللغة والدين والتقاليد والعادات والذّاكرة وطريقة العَيش والموقِف من السلطة الحاكمة، كما أن الدول والإمارات العربية التي خَلَقها مؤتمر سايكس بيكو التي رسَمَت الحدود الوطنية مَنعَت تواصل الذاكرة وتَواصل الشعوب، واختلقت خصوصيات شكّلت الهويّة الوطنية المحلية. تَدفعُنا هذه العوامل بمجموعها إلى الحذَر الشديد من مغبّة التعميم، ولا تسمح بالحديث عن هويّة إسلامية أو عربية واضحة المعالم وإنما عن هويّات محلية مثل الهوية الجزائرية والهوية العراقية والهوية الفلسطينية والهوية المصرية والمغربية، ناهيك عن الاختلاف عن الهوية الباكستانية والهوية السنغالية على سبيل المثال وليس الحصر. تصبِح ذاكرتُنا كخريطَة العالَم العربي مليئةً بالحدود والتأْشيرات.
بِغضّ النّظر عن الاختلافات في التفسيرات التي يَطرحها الباحثون فإن التطّرف في الحركات الإسلامية لا يُنظر إليه من زاوية الإيمان أو عدَم الإيمان، بل يُنظر إلى الحركات الدينية السياسيّة بأنها تعبير عن رفضٍ لواقع يعدُّ فاسدًا وفي حاجة إلى تغيير.
على امتداد ما ينيف على المئة عام، مرَّ المسلمون العرب في فلسطين بتحوّلات جذريّة جراء احتلال فلسطين وهيمنة الحُكام الأجانب. ولقد لعبِت هذه التغيّرات دورًا كبيرًا في تشكيل الهوية العامة؛ فقد كانوا في البداية عثمانيين وأصبحوا الآن فلسطينيين. وعلى مدى هذه العقود العَشرة كان ثمة مكوِّنان ثابتان لهذه الهوية، المكوّن العربي والمكوّن الإسلامي. لكن التعّقيدات السياسية العالمية التي قادَت إلى وعد بلفور والاحتلال البريطاني ومن ثم النّكبة عوّقت نموّ هوية فلسطينية وطنية مرتبطة بالأرض بالمعنى السياسي الأنثروبولوجي، بصورة تماثل الشعور والوعي الوطني التاريخي التي نجدها في الدول المجاورة مثل سورية والعراق ومصر. فزَوال الإمبراطورية العثمانية، وما أعقَبَه من فترة الحكم البريطاني، ثم ما كان بعدَها من انهيار بنى المجتمع الفلسطيني برمتّها، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، دفع الفلسطينيين إلى توكيد أولويّة عروبتهم. إلاّ إن الدول والمَمالك والإمارات العربية ظلّت منهمكة في التزاماتها المحلية المتعلّقة بإدارة شؤونها. وقد ظَهَر ذلك، في أَعين الفلسطينيين، بمظهَر الصّفات السلبية، كالتّشرذم والتخلّي عن قضيتهم، كما دَفعهم، بالتالي، إلى توكيد خصوصيّتهم وتميّزهم. لكنّهم لم يتمكنوا لأسباب سياسية عالمية يسودها الفكر الصهيوني من تنفيذ برنامجهم الوطنيّ الخاص بهم وبأرضهم. وقد أفضى ذلك إلى خيبة الأمل بالقيادة التي اعتُبرت مسؤولة عن هذا الإخفاق. في هذا الإطار التفَتوا إلى الحركة الإسلامية. ولم يستوجب ذلك أيّ تغيير في نظرَتهم الخاصّة إلى ما هُم ومَن هُم. فهم لم يتعرّضوا قَبل محرقة غزة، لأَزمة هويّة، من النوع الذي يرافقه انقلاب وجداني، وشكّ وجوديّ في وحدة قومية وطنية سياسية بُنيت أسسها على الدين والتاريخ الإسلامي واللغة العربية. غداةَ مذبحة غزة أمسَت هذه القواسم المشتركة مجرّد خطاب أدبي بلاغي اختزَلَته الأُغنية المَشهورة التي كانت قد شاعِت أثناء الانتفاضة الأولى "وين الملايين؟"
* د. علي حسين قليبو
أستاذ جامِعي، وباحث أنثروبولوجي، وكاتب وفنان تشكيلي مقدسي. له مؤلفات عديدة حَول الهويّة الفلسطينية وجذورها في الحضارة الكنعانية، نَذكُر منها "أرض الأجداد.. من الأزَل إلى الأَبد" و"القدس في القلب" و "المَعالم المِعمارية في القدس المملوكية"، إلى جانب مساهمات أكاديمية في دوريات وصحف باللغة الإنكليزي والعربية ايضا .