• 10 تشرين الثاني 2025
  • أقلام مقدسية

 

  

بقلم : الباحث الشيخ مازن اهرام 

 

في حديقة بيتنا شجرة كينا عملاقة وارفةٌ ظلالها باسقة أغصانها ينوف عمرها سبعون عاماً ونيف توفر الظل للطيور أعشاشها تحمل الكثير من الخبايا 

يستظلُّ فيها الجمال والإبداع، وتحتضن عصافير التميز وبعض الغربان وتمنح من نهر عطائها المتجدد لوحة إبداعية وهي لغة ذات جذورٍ ممتدة، وأغصانٍ متينة، ترفع هامتها للسماءِ بكلّ ثقة تتلاءم مع جميع فصول السنة وهي بمثابة قوس قزحٍ مبهج، تنتمي إليها كلّ ألوان الجمال، لهذا لها حقّ على أبنائها أن يفهموها ويُحافظوا ويرعونها وتُبهج الحياة وتشعرنا بالهدوء والأمان وتُعتبر بيئة آمنة لمعظم الطيور 

لكن تأتي على الأشجار فترات زمنية تُصبح عديمة الفائدة تتساقط أوراقها لا ظلال وارفة نستظل بها ولا ثمار نأكل منها تأنفها الطيور وتذروها الرياح فهي إلى القطع أقر ومصير حطبها إلى النار أفيد 

كذلك بعض البشر نراه كبعض الشجر منا من يكون كشجرة خضراء مثمرة وارفة ظلالها كثيرة ثمارها تسعد لرؤيتهم وتنعم بمجالستهم وتأمن لصحبتهم تجد منهم نصح وارشاد نستظل بعلمهم شموخاً بالعطاء كالشجر ترميهم بالحجر فيعطونك أطيب الثمر الخير فيهم متأصل ممدودة أيديهم بالخير وعطاءهم بلا انقطاع سألتها ذات يوم لما مصيرك إلى النار؟؟

قالت بخجل ما أخترتُ يوماً أن أميل مع الهوى لكن قلبي قد رأى ما يُوقِعهُ فأضحيت ناراً مستعرة!!!

لننظر إلى أنفسنا ونصلح حالنا ونختار أي نوع من الشجر نكون فلا أجمل من أن نكون كأشجار خضراء باسقات وارفة ظلالها كثيرة ثمارها ممتدة أيدينا بالخير والعطاء نمنح الدفء والأمان وننشر السرور والبهجة للعالم 

كذلك نتعلم من البيئة حولنا كحال شجرتنا وما تحويه أغصانها من طيور

ومن النظرة الثاقبة لشجرة الكينا نجد من خلال فروعها أعشاش الغربان" يقف الإنسان يتأمل ويقول ﴿هَٰذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ ۚ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾

هياكل يصنعها الغراب من المواد المتوفرة في بيئته تعيش طيور الغربان ضمن عائلات كبيرة متماسكة؛ فهي تصطاد معاَ وتتغذى معاَ وتدافع عن موائلها بشراسة وتربي صغارها معاَ ومع اقتراب فصل الشّتاء تتجمع الغربان في مجموعات كبيرة ليلاً، تتراوح أعدادها الكثيرة وكأنها تعزف سيمفونية الصباح ولا يُعرف على وجه الدّقة أسباب هذا التجمّع الموسميّ، إلا أنّ هناك الكثير من الاحتمالات التي تفسّر هذا السّلوك؛ مثل الرّغبة بتبادل المعلومات، أو لحماية نفسها من الحيوانات المفترسة، أو ببساطة طلباَ للدفء. ولمملكة الغربان قوانين وقُضاة ومحكمة!! وتُسقْطُ منها التمر العجاف" فلا تأكل إلا أطيبه  

فمن جميل أمثال العرب، ذلك المثل الدال على دقة ملاحظتهم وتتبعهم لطبائع الحيوان والطيور والطبيعة الصامتة، فضلاً عن السلوك الإنساني. وهذا المثل يُضربُ عادة لكل من عثر على ما يريد ويتمنى من خير أو غنى أو سعادة أو أمنية ما. وذلك لأنهم عرفوا بخبرتهم الحياتية ما عرفوه عن الغراب، من أنه ينتقي أجودَ تمرة ليأكلها، وليس كسواه من الطيور!

جاء عند العرب في أمثالهم  

"وجد تمرة الغراب "أو "أصاب تمرة الغراب "للذي يجد أفضل ما يريد ويحصل على النفيس من الأشياء وذلك لأن الغراب دائما يريد أطيب التمر غير أن هذا المثل مع جمال لفظه وجميل معناه قليل الاستعمال والطرح إذا وجد شيئًا نفيسًا.

ضرب الله مثلا بالغراب يقول المفسرون أن تخصيص الغراب جاء لعدة أمور منها   أن الغراب هو أذكي الطيور وأمكرها على الإطلاق ولا يدانيه في الذكاء والمكر إلا بعض الببغاوات ومن أوضح الأدلة على ذلك أنه يدفن موتاه ولا يتركها نهبا للجوارح من الطيور ولغيرها من الحيوانات المفترسة أو للتعفن  

 الغراب أول جريمة في التاريخ

 قال تعالى: واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قرباناً فتُقبل من أحدهما ولم يُتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين، لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين، إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين، فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين، فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين (المائدة: 27 31).

هذه القصة تقدم أنموذجا لطبيعة الشر والعدوان، وترسم الجريمة المنكرة التي يرتكبها الشر والعدوان الصارخ الذي يثير الضمير، ويثير الشعور بالحاجة إلى شريعة نافذة بالقصاص العادل، تكف الشرير المعتدي عن الاعتداء، وتخوفه وتردعه بالتخويف، عن الإقدام على الجريمة، فإذا ارتكبها وجد الجزاء العادل، والمكافئ للفعلة المنكرة، كما تصون الأنموذج الطيب الخير وتحفظ حرمة دمه.

إن الحادث وقع في فترة طفولة الإنسان، وكان أول حادث قتل عدواني متعمد، ولم يكن الفاعل يعرف طريقة دفن الجثث، وتمثلت له سوأة الجريمة في صورتها الحسية، صورة الجثة التي فارقتها الحياة وباتت لحما يسري فيه العفن، فهي صورة لا تطيقها النفوس وشاءت حكمة الله أن توقفه أمام عجزه وهو الباطش القاتل الفاتك عن أن يواري سوأة أخيه، عجزه عن أن يكون كالغراب في أمة الطير. 

تقول بعض الروايات: إن الغراب قتل غرابا آخر، فجعل يحفر في الأرض، ثم واراه وأهال عليه التراب، فقال القاتل قولته، وفعل مثلما رأى الغراب يفعل. وظاهر أن دفن الغراب لأخيه الغراب قد يكون من عادات الغربان، وقد يكون حدثا خارقا أجراه الله فما أبشع البشر حينما يقتتلون وتُلقى أجسادهم البالية دون أن تُكرم في زمن هانت فيها كل القيم الإنسانية  

  أيها البشر لنتعلم من الغراب   كيف نواري عوراتنا قبل أن نواري الجُثَثْ!!!