• 3 كانون أول 2025
  • أقلام مقدسية

 

بقلم : الباحث الشيخ مازن اهرام 

 

يُعْرَف الأصيل بكتمانه الأسرار ويقال: «قلوب الأحرار قبور الأسرار»،

 وتأملوا مَن يفشون الأسرار تجدوهم غير راشدين ولو بلغوا

مثل شعبي عربي فصيح، قاله ناس زمان للدلالة على عظم تلك الخصال التي يبينها كتمان السر الذي هو في حد ذاته من الخصال الحميدة والصفات الفاضلة التي يتمتع بها الرجال الأحرار الشرفاء وأصحاب المروءة، ولهذا يقال 

“أدنى صفات الشريف كتم السر، وأعلاها نسيان ما أسرَّ به إليه”، 

وفي مثلنا 

(قبور السرار) أي أنها ستدفن تماما وتنسى، وهنا دلالة قاطعة على وجوب كتمان السر في العديد من الأمور، حتى وإن لم نطالب بها لأنها إن أفشيت ستودي بالضرر للآخر، وهناك العديد من الوظائف ما يجد فيها الموظف نفسه أمام الوظيفة لا يبوح بأي عمل يقوم به للآخرين، حينها سيكون من أصحاب المروءة، ولُقْمته ُمن الحلال التام.

نقل الإمام أبو حامد الغزالي (ت 505هـ/1111م) في تحفة إحياء علوم الدين عن الإمام علي بن أبي طالب قوله:

الأمانة جميع ما أتُمِن عليه العبد من الأمانات في الدين والدنيا وأمانات الناس. والأمانة شأنها عظيم، وخطبها جسيم، نأت عن حملها السماوات والأرض والجبال، وأشفقن من حملها، خوفا من ضياعها وعظيم تبعتها، كما قال عز وجل 

(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) 

 ولبيان الصورة نضرب أمثالاً

 أسرار عُشُ الزوجية من أعظم الأسرار: ما يجرى بين المرء وزوجه، ولذا حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من إفشاء أسرار المعاشرة بين الزوجين بقوله 

(إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلَ يُفْضِى إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِى إِلَيْهِ) 

ويدخل في حفظ الأسرار أيضا حفظ أسرار المرضى من قبل الأطباء والممرضين وغيرهم ممن لهم صلة بالمرضى، وكذلك أسرار الموتى وما يظهر منهم عند التغسيل والدفن،  

وكتمان السر كما يقول الماوردي من أقوى أسباب النجاح، وأدوم لأحوال الصلاح، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول (استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان)

وقال بعض الأدباء

 (من كتم سره كان الخيار إليه، ومن أفشاه كان الخيار عليه)  

للبيوت أسرار لا ينبغي أن تُفشى وإذا أغلق الناس أبواب بيوتهم تساوَوا، فلا يعلم بالذي يجري في البيوت إلا أصحابها، فكم من بيوت جميلة البناء وفي داخلها تأوه مريض، أو دمعة مبتلى، أو أحزان يتيم، والعاقل من يحرص جاهداً على أن يجعل مشكلات بيته في بيته، فلا ينقلها معه خارج المنزل، فمن السلوكيات المرفوضة إفشاء أسرار البيوت ونشرها بين الناس، عندما تصبح خصوصيات الرجل عموميات، يحدث شرخ كبير في جدران بيت الزوجية، ولذلك لو طبق الناس في حياتهم القاعدة النبوية في قوله صلى الله عليه وسلم

(من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) 

الجوال وأسرار البيوت استخدام التقنية الحديثة في تتبع عورات الناس من جملة الأخطار التي هزت أرض القيم والأخلاق وعصفت برواسخ الثبات في كل ضروب الحياة، وأحدثت صدعا قويا في سلوكيات المجتمع يأخذ بالألباب إلى منعطف من الذعر والفزع، حيث تتابعت حلقات التشهير بأعراض الناس واستغلال صورهم وتتبع عوراتهم بآلات التصوير المتنوعة حتى استطارت الأفئدة منها خوفاً وقلقاً، فأشكال تتبع العورات في ظل القفزة التقنية الحديثة كثيرة لا تحصى.

ومنها أيضا تصوير الموائد المنزلية والمناسبات والحفلات والنزهات وما يحصل فيها من إسراف وتبذير وتلاعب بنعم الله تعالى، مما يجر إلى الفخر والخيلاء والرياء، والسمعة، واستجلاب النقم، والعقوبات الدنيوية، والأخروية، وكذلك نشر ما يحصل بين الأسرة الواحدة داخل أروقة المنازل من خصوصيات تضر بالسمعة والدين، وكم من أسرة أصيبت بألوان الحسد الممرض والقاتل، فانقلبت حياتها جحيما لا يطاق من جراء تصرفات غير محسوبة العواقب.

وكم من فقير جُرِحت نفسه لما يرى من تلاعب بنعم الله من بعض المسرفين وأهل الرياء، فيتألم ألماً يبلغ عنان السماء، والله جل وعلا قد مقت الإسراف وأهله وجعلهم إخوان الشياطين في هذا الجرم الكبير 

(إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) 

"إن حضن الأحرار مقبرة للأسرار "جوهر الجملة أعلاه هو أن أفكار العديد من الحكماء والفلاسفة والصوفيين محفوظة أو مخفية في أعماق قلوبهم، ككنوزٍ ثمينة في القبور. إنهم يدركون أن أفكارهم وكلماتهم غالبًا ما يصعب على عامة الناس فهمها. ولو عبّروا عنها علانيةً، لَخَلَقَ ذلك مشاكل خطيرة تُقلق العقول وتُزعزع استقرار المجتمع.

عجيبة هي دنيانا التي نحياها؛ أمناء الأسرار فيها أقل وجودًا من أمناء الأموال، وحفظ الأموال فيها أيسر من كتمان الأسرار؛ لأن حفظ الأموال فيها منيعة بالأبواب والأقفال، بينما عجزت النفوس والقلوب والألسن عن حمل الأسرار، والأغرب أن الأموال كلما كثر خزانها كان أوثق لها، أما الأسرار فكلما كثر خزانها كان أضيع لها!؟

في عالم الضوضاء والانكشاف وتعاظُم سطوة وسائل التمزّق الاجتماعي، باتت خصوصيّات الناس مشاعًا، وبتنا نجد أنفسنا نختصر المسافات وندخل البيوت دونما استئذان، نطّلع على أدقّ تفاصيل الأسرة وحياتها اليوميّة، نعرف فطورها وغداءها وعشاءها، نتابع رحلاتها خطوة خطوة، لباسها ومقتنياتها، تكتظّ الصفحات بالصور، بعضها يخدش الحياء، فضلًا عن مقاطع الفيديو الّتي توثّق بالتفصيل مسار هؤلاء في المحلّات التجاريّة والسيّارات والأفراح، بل وحتّى أدقّ تفاصيل حياتهم الشخصيّة والخاصّة، فلا تجد سرًّا يُحفَظ بين المرأة وزوجها

إلى متى الاستهتار وتتبع عورات الناس - يا مَعْشَرَ مَن آمن بلسانِه ولم يَدْخُلِ الإيمانُ قلبَه   لا تغتابوا المسلمينَ   ولا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِم، فإنه مَن تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيه المسلمِ، تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَه، ...

قال الشاعر:

إذا المرء أفشى سرّه بلسانه ** * ولامه عليه غيره فهو أحمقُ

إذا ضاق صدر المرء عن سرِّ نفسه *** فصدر الذي استودعه السرّ أضيق

نسأل الله تعالى أن يجعلنا جميعا هداة مهتدين، وأن يجنبنا مزالق الردى، ويقينا شر الفتن ما ظهر منها وما بطن.