• 28 شباط 2023
  • مقابلة خاصة

 

 

 

 

بقلم : د. زيدان كفافي

 

تحولت المجتمعات في  بلاد الشام للاستقرار وانتاج الطعام قبل أكثر من حوالي تسعة آلاف عام، وشهد هذا تأسيس القرى والزراعة أولاً ، ومن ثم تدجين الحيوانات في مرحلة لاحقة. ويعلم الفلاّحون من قرّاء هذه الخاطرة  أن سنة الفلاح  مقسّمة حسب فصول السنة، وتبدأ بحلول فصل الشتاء فيبذر الحبوب، ومن ثم يتابعها من حيث تعشيب الحقول وإزالة الأعشاب الضارة، ومن ثم يبدأ موسم الحصاد يتبعه هرس القش (التذرية ) وانتقال الناس للبيادر لفترة معينة ، بعدها يطحنون الحبوب ويجمعونه في صوامع ( خوابي/ كواير).  والذي يتابع دورة الحياة هذه يتبادر  لذهنه أن الناس كانوا مشغولين على الدوام، هذا التفكير غير صحيح على الإطلاق. وكنت وأنا صغير السن، وأثناء عيشي في القرية أتابع رجالها وقد تجمعوا في منطقة قريبة للجامع يلعبون ألعاباً مختلفة خاصة أيام الصيف. وكان  كل فريق منهم قد خط على الأرض لعبة يلعبونها مثل ( النقدة/السيجة، وإدريس/بطل إدريس)، إما على شكل حفر  أو على مربعات أو مستطيلات متداخلة ، وفي كلا الحالتين تستخدم الحجارة الصغيرة أدواتاً لهذه الألعاب.   وأذكر أن تجمع اللاعبين كان في منطقة محاذية للجدار الشرقي للجامع (العمري)، حيث تنتشر بعض الحجارة الجيرية (حجارة طرية حسب رأيهم) يتكأ عليها اللاعبون ، أو يتخذها بعضهم وسادة عند القيلولة. 

كنت ترى وجوه اللاعبين وقد غطّاها غبار الأرض،  ودخان الهيشي. إذ يمدُّ أحدهم في جيب "قنبازه" ليخرج علبة معدنية وقد عفى عليها الدهر من كثرة فتحها وغلقها من قبل صاحبها، وتظهر على سطحها ألأواناً متعددة . يفتح أحدهم علبة الدخان  "الهيشي"  يبحث عن ورقة "أوتومان" ليملأها بما يتيسر من الدخان. يبسطها بين إصبعي الإبهام والسبابة، ثم يعبء الورقة بالدخان، وبعدها يأخذ بطيها يميناً وشمالاً  بحركة دائرية حتى يتأكد بأنها أصبحت ملفوفة بشكل صلب، ثم يلعق طرف ورقة أوتومان بلسانه حتى تصبح لزجة وتلصق بالورقة الأخرى، بعدها يتفل من فمه بقايا ورقة الأوتومان التي كان قد قطعها من طرفها، وهكذا تكون السيجارة قد اكتمل صنعها. هنا لا بد من اشعالها،  فيسأل الحاضرين: مين معه قدّاحة؟  يتبرع أحدهم بإعطائه القدّاحة، ينفضها مرة وأثنتين، يفرك عجل القداحة المسنن، والمتصل بحجر القدّاحة ، ليخرج شرارة تشعل الفتيلة المغموسة بالكاز. وبعد أن يتأكد من أن السيجارة اشتعلت، يسحب نفس أو نفسين، وينفخهما بالهواء، ثم يلتفت نحو من أعاره القدّاحة، قائلآ: يكفيك شرّها؛ فيرد عليه: ولا تشوف حرّها (يقصد نار جهنم). وبعد نَفَس عميق (مجّة) يلتفت لمن حوله، ويسأل:- "يا جماعة مين بدّه "يريد" ألفله سيجارة؟".

هذا ما كان عليه حال فلاحي الأردن وفلسطين في خمسينيات القرن العشرين. هناك ألعاب اختفت وأخرى استمرت، لكن يمارسها عدد قليل جداً من أبناء القرى والبلدات ، ومنها لعبة المنقلة التي  لا زال بعض من أهالي محافظتي إربد والبلقاء يمارسونها.

ويظهر أن ممارسة الألعاب الفكرية لم تكن حكراً  على فلاحي العصر الحديث، بل أنها مورست في الأردن من قبل سكان القرى الزراعية منذ العصر الحجري الحديث ما قبل الفخار  (قبل حوالي ثمانية – تسعة آلاف عام).  اللعبة التي هي مجال هذه الخاطرة هي "لعبة المنقلة“،

 وإليكم حكاية كيف تم اكتشافها لأول مرة في موقع عين غزال (قبل حوالي 8000آلاف عام) ، ثم عثر على أدواتها في مواقع أخرى  (أبوطليحة/ باير، ووادي حماراش / غور الصافي) ،  لكن أقدم في تاريخها من موقع عين غزال. 

كان ذاك في صيف عام 1989م  عندما تقرر تدريب طلبة ماجستير الآثار في جامعة اليرموك  على العمل الميداني في حفرية عين غزال والتي يشرف عليها كل من زيدان كفافي وغاري رولفسون. وبعد أن تم توزيع الطلبة على المربعات ، بدأنا عملية التنقيب،  في الحقول الشمالي والمركزي والجنوبي. بعد مرور بعض الأسابيع وإذا بالطالب مأمون بعارة  ، الذي كان يعمل في إحدى مربعات الحقل الجنوبي، يحمل بيده لوحة حجرية به مجموعة من الحفر (الشكل 1 ).  نظر إلي وقال:-"أنظر يا دكتور، كانوا يلعبوا منقلة منذ العصور الحجرية".  تم العثور على حجر المنقلة هذا  في طمم فوق مصطبة  بيت  يعود لحوالي  5870 ± 240 ق.م (تاريخ كربون اشعاعي غير معاير). وتبلع أبعاد اللوحة الحجرية  الجيرية هذه  39 سم طولاً، ويبلغ أقصى عرض لها 23 سم، وأقصره 16سم، وتتراوح سماكة الحجر بين  2 – 4سم. وتتوزع حفر الحجر الأثنتي عشر على صفين، نُقِرت كل ست منها في كل صف، علماً أن قطر الحفرة الواحدة يبلغ 3 سم وعمقها 1سم.

ولم تكن هذه هي المنقلة الوحيدة التي عثر عليها في عين غزال، فقد عثر في موسم 1996م على واحدة أخرى في مبنى يؤرخ للعصر الحجري الحديث ما قبل الفخار ب المتأخر ( LPPNB)  (أي حوالي 6500 – 6000 ق.م. تاريخ غير معاير)، في الجهة الشرقية للموقع (الشكل 2) . وشكل  هذه المنقلة المصنوعة من الحجر الجيري مستدير ، وفيها ثماني حفر  غير عميقة  كما هو حال سابقتها، مما يشير إلى أن  الصانع لم ينتهي من حفرها. لذا قد تكون أنها لم تستخدم للعب.

وإضافة  لمنقلة عين غزال، فقد عثر على مثلها في مواقع أخرى في الأردن،  مثل موقع أبوطليحة الواقع في وادي باير في حوض الجفر. إذ تقوم بعثة أثرية يابانية بالعمل في هذه المنطقة منذ عشرات السنين، بقيادة الباحث سيميو فوجي  (Sumio Fujii).  إذ تم العثور في موقع أبو طليحة في موسم حفريات عام 2008 على عدد من الكسر المحفور فيها حفر صغيرة حفرت في صفين مما يؤكد استعمالها منقلة (الشكل 3) ، أرخها المنقب للألف الثامن قبل الميلاد.  وذكر المنقب أن واحدة منها تحوي عشر حفر  (الشكل 4) ، تتوزع في صفين خمسة في كل منهما ، وبهذا تختلف عن منقلة عين غزال.

كما عثرت  البعثة اليونانية  بقيادة (Admantius Sampson) التي  نقبت في موقع وادي حماراش 1 (Wadi Hamarash 1) الواقع في المنطقة المطلة على غور الصافي بجنوبي الأردن على منقلة أخرى.  ولون الحجر الذي نحتت فيه حفر المنقلة رمادي يميل للإحمرار، وتبلغ أبعادها59 x 36 x 9 cm.  وقطر كل حفرة حوالي 2 سم ، يحيط بكل واحدة منها خطين محفورين ، خط في كل جانب  يتراوح طوله بين 13 و15 سم(الشكل 5  ).  وأرخها المنقب للألف الثامن قبل الميلاد.   وبناء عليه، فإن هذه المنقلة تختلف في عدد حفرها، ولون حجرها، وزخرفتها.

كيف تلعب المنقلة في الوقت الحاضر في الأردن؟

أنا شخصياً لا أعرف كيف تلعب هذه الحفرة، ولم ألعبها على الاطلاق، لذا قررت سؤال السيد رائد  عبدالرحمن حجازي /المتخصص بدراسة التراث (الشكل 6)، ثم ذهبت الويكيبديا. وكانت المعلومات متطابقة بينهما.  ونقدم أدناه الخطوات  التي تتم بها لعبة المنقلة حسب ما وردت في الويكيبديا .

يلعب لعبة المنقلة شخصان، وتوزع الحبات (الحصى) على الأربع عشرة حفرة، سبع حبات في كل حفرة. ثم تجرى قرعة بين اللاعبين لمعرفة اللاعب البادئ باللعبة.

  1. يبدأ اللاعب الأول بأخذ الحبات من إحدى الحفر ، ومن ثم يبدأ توزيعها بوضع حبة في كل حفرة  شريطة أن يكون التوزيع باتجاه عكس عقارب الساعة، فإذا انتهى من الحفر  التي تخصه ينتقل لحفر اللاعب الآخر.
  2. عندما ينتهي اللاعب الأول من توزيع حبات حفرته، يسمح للاعب الآخر بالبدء باللعب بنفس الطريقة.
  3. يصبح عدد الحبات في كل حفرة متفاوتاً ، حيث يقوم كل لاعب  بعد حبات الحفر التي تخصه أثناء لعب اللاعب الآخر لتوزيعها بشكل مناسب وحتى يستطيع معرفة الحفرة التي سيبدأ بتوزيع حباتها من اجل المكسب.
  4. إذا وصل لاعب في نهاية التوزيع إلى حفرة فيها حبة واحدة  حيث لو  أضاف لها آخر  حبة في يده لتواجد في الحفرة حبتان، وبناء عليه يربح الحبتين سواء أكن ذلك في حفرة من حفره أو  في حفرة تخص اللاعب الآخر.
  5. يربح اللاعب أيضاً إذا انتهى إلى حفرة بها ثلاث حبات  بحيث لو أضاف لها حبة في يده تصبح أربعاً (طورة)، فإنه يربح الحبات الأربع.
  6. يربح اللاعب جميع الحبات في حفر متتالية إذا انتهى إليها وأصبح في كل واحدة منها زوجاً من الحبات (طورة).
  7. يشكل كل لاعب بيتاً أو بيتين (البيت هو الحفرة التي يجمع فيها اللاعب أكثر عدداً من الحبات)، ليحسم اللعبة في نهايتها.
  8. يعدُّ اللاعب فائزاً إذا ربح  في نهاية اللعبة أكبر عدداً من الحبات .

هذه هي  لعبة المنقلة التي يلعبها الناس في الأردن قبل أكثر من ثمانية آلاف عام، ومن هنا نرى عمق تراثنا الحضاري المتواصل ، ونعتز به.  لكن هل هذه اللعبة محصورة في الأردن، الجواب لا  فهي تلعب في بعض الأقطار الآسيوية والإغريقية الأخرى، ومنها مصر (الشكل 7).

 

مراجع لمن يرغب 

Fujii, Sumio 2009; Wadi Abu Tulayḥa: A Preliminary Reportof the 2007 Summer Field Season of the Jafr Basin Prehistoric Project, Phase 2. Annual of the Department of Antiquities of Jordan 53: 173-209.

 

Rollefson, Gary 2012; La préhistoire des jeux. Art du Jeu, Jeu dans l’Art. Sommaire. Hors Série 33: 18-21.

Rollefson, Gary 1992; A Neolithic Game Board from ‚Ain Ghazal, Jordan. Bulletin of the American Schools of Oriental Research 266: 1-5.

Rollefson, G. and Kafafi, Z. 1997. The 1996 Season at ‘Ayn Ghazal: Preliminary Report. Annual of the Department of Antiquities of Jordan 41: 27-48.

 

Sampson, Adamantios 2010a; Wadi Ḥamarash: A New MPPNB Site in Jordan. Annual of the Department of Antiquities of Jordan 54:73-84.