• 23 كانون الثاني 2023
  • ثقافيات

 

بقلم : تحسين يقين

في ظل ما يثيره الكتاب من مشاعر وأفكار، وتأمل في مجمل التاريخ الفلسطيني، وليس فقط الوجود الفلسطيني في لبنان بشكل خاص، حيث ظهرت الكتيبة الطلابية ونمت نموا لافتا، فإننا كقراء مهما تكن جنسياتنا، أمام نص أدبي مشوق، التقى فيه الذاتي الشخصي والاجتماعي، والوطني؛ حيث سيصعب بعد بضع صفحات عزل سيرة الفرد هنا، عن سيرة الجماعة، وسيرة شعب في أوقات ما زالت تحمل جدلا في النظرة إليها.

لقد استمتعت بالقراءة، لنص تجلى في 338 صفحة، وصفحات مصورة أخرى في آخر الكتاب، كانت بمثابة كتاب بصري لمشهديات ورد ذكرها في الكتاب، خاصة ما كتب بالحبر فيما يتعلق بالعمل الفدائي، وهو إنما كتب بالدم.

من العنوان، تبغ وزيتون: حكايات وصور من زمن مقاوم"، كنا فعلا مع حكايات وصور من ذلك الزمن، حيث انتظمت تلك الحكايات في نص سردي يملك مصداقية عالية، من خلال لغة عادية قريبة من القراء، تخللها لغة متأثرة بالحزن والوجع، ولغة تسمو بالنضال والشهداء بعيدا عن الرثاء، ولغة عسكرية لكن غير معقدة. وفي المجمل كنا مع حكاية شباب ثوريين فلسطينيين وعرب، وآخرين جمعتهم فلسطين، بالإضافة إلى دوافع أخرى لها خصوصية، لكن لا تندرج تحت الخلاص الفردي.

لعلنا نعرفهما معا هذين المنتوجين، فنقول: التبغ والزيتون، أي لبنان وفلسطين، بشكل خاص، لكن لا حصري، حيث تتجاوز رمزية التبغ والزيتون، ربما إلى حياة المقاتلين الذين كانوا يهتمون بالتبغ من جهة، وكذلك رمزية الزيتون، كطعام بسيط.

في الكتاب الذي صدر عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، ضمن سلسلة "ذاكرة فلسطين"، حضر جيش من الأسماء، مرتبطة بكم مكثف من المعلومات الدقيقة والمفصلة، كان يصعب بالنسبة للكاتب المرور عنها بسرعة، وهو الشاهد الناجي بصعوبة، الذي اختار أن يكون وفيا لسرد القصة، في ظل الوفاء لكل تلك الأسماء، التي قضت أو ما زالت، والتي بالرغم من دوره القيادي في أحداثها، وجد نفسه فيها مقاتلا ليس أكثر.

تفاصيل المكان اللبناني والفلسطيني والأردني والسوري، حين يلتزم الأمر. لقد وجدنا أنفسنا نتجول في جنوب لبنان من قرية إلى أخرى. وزمن تفصيلي، بحيث صارت العشرة السنوات أو أكثر سنوات كثيرة.

ووجدنا أنفسنا نموضع أنفسنا مع كل زمن بما فيه من مقاومة حين كنا نسمع الأخبار، كم كان السماع سهلا لأعمال صعبة فعلا. كذلك فإننا وقد عرفنا بعض الأسماء، فإننا الآن نعيد قراءتها من جديد، على وقع التحولات والمواقف بربطها بما كان.

تجربة "الكتيبة الطلابية" (كتيبة الجرمق)، التي سمعنا عنها، والتي قرأنا بعض الأدبيات عنها، أصبحت الآن بين دفتي كتاب، بحيث تقود الرواية الى اكتمال، فكل وما يكتبه، خاصة الكتابة من داخل التجربة الثورية التي امتدت على عقد من السنوات، ما زال يضفي حتى الآن وغدا تأثيراته ليس على مجمل القضية الفلسطينية بل على مستقبلها أيضا.

من ذلك هو السؤال الوطني الوجودي: ما الذي يدفع بطلبة جامعيين يتلقون التعليم العالي في أهم الجامعات، الى الالتحاق بالعمل النضالي، في ظل الخيار الآمن بما ينتظرهم من حياة طبيعية هادئة، عمل ودخل وأسرة ووجود بين الأهل؟ ألم يكن هو نفسه السؤال حول دوافع شباب الانتفاضتين الأولى والثانية، وما سبق من انتفاضات وما نعيش أيضا؟ أفلا يؤشّر ذلك للقاصي والداني على نبل القضية وعدالتها؟ وأخير أليس الخلاص الفردي الحقيقي هو الخلاص الوطني العام؟

لعل هناك صعوبة ما حول تناول الكتاب تناولا يحيط به، لذلك فإننا يمكن أن نركز على أثر الوعي لدى الطلبة المقاتلين على العمل الوطني. من ذلك صراحة هو فهم الطلبة لدورهم الثوري الواعي على التناقض فقط مع الاحتلال، وعدم الانجرار وراء أمور تشغلنا عن المقاومة، وكذلك الوعي على أهمية استحقاقات احتضان الشعب اللبناني للثورة، حيث قرأنا صفحات مشرقة عن نسج علاقة رائعة مع شعب الجنوب اللبناني، الى درجة تقديم الخدمات الطبية وغيرها، كذلك لم نلحظ أي عنصرية طائفية، ولعل ذلك يفسّر محدودية الحديث عن الحرب الأهلية، بمعنى إننا إزاء نقاء ثوري.

من أثر الوعي الطلابي أيضا، وهو في السياق نفسه، الانتباه لسياسة الاحتلال في "فرّق تسد"، حيث أنه في يوم من الأيام، ومن باب استغلال الخلافات المذهبية والعائلية، أغرى الاحتلال بعض القرويين من خلال تسليحهم، فكانت لها كتيبة الوعي بالمرصاد، فارتد السلاح تجاه الاحتلال.

استغل الطلبة ظروف ما بعد اجتياح عام 1978، ووجود قوات الطوارئ الدولية، حيث تم تجنيد بعض أفراد قوات الطوارئ لنقل السلاح ليس الى جنوب لبنان، بل الى فلسطين المحتلة، بالاستفادة من تمكن الطلبة للغات.

من الوعي العسكري أيضا، والذي ضمن وعي فصائل أخرى، هو الوجود على طول الخط الساحلي، من خلال مواقع متحركة، كذلك العمل الفدائي في الجنوب المحتل ظل محاصرة بيروت، ما أربك الاحتلال. وجاء هذا عبر حكايات معين الطاهر، في سياق الرغبة بالعمل الفدائي، وهو ما دفع مقاتلو الكتيبة الى الوصول الى الأرض المحتلة، عبر رحلة من لبنان الى سوريا الى الأردن، فنهر الأردن، ففلسطين الوطن هدف التحرير.

لعل ملحمة "قلعة شقيف" مثلت تتويجا للوعي وتراكم الخبرة العسكرية التي لم يكن أحد يتوقعها أبدا، لا العدو ولا الصديق، فقد تجلت العبقرية فعلا كأروع ما يكون، ومن يقرأ عن التجربة سيصل الى أن تحصين قلعة شقيف كان قرار الكتيبة بشكل خاص، دون أن نغفل عن دعم الحركة الأم فتح لها، حيث بنى هؤلاء المقاتلون منظومة دفاعية وهجومية معا، فاجأت الجيش الذي لا يقهر، حينما قهر ال 30 مقاتلا في القلعة 1200 من الغزاة.

صفحات من النضال، لقادة مثل علي أبو طوق، تستحق التوسع فيها، وجمع معلومات عن هؤلاء الأبطال فعلا، لعل آخرون من الكتيبة يكملون ما نقص أو سها عنه الكاتب.

ترى لم كتب الشهيد علي أبو طوق معلومات عن عمليات الطلبة، وهو الذي كان يتوقع الاستشهاد؟ أليس الجواب بحد ذاته كافيا لبث الأمل دوما، للتأكيد على الاستمرار، من أجل تحقيق الهدف النبيل؟

لقد تميزت صفحات ما بعد أوسلو في هذه الشهادة، بأنه تم النظر إليها ضمن حالة نضالية، تجلت في الانتفاضة الثانية، من شخوص من الكتيبة نفسها.

من أهم دروس الوعي هو الوحدة، فبالرغم من نداءات الطلبة ضد المشاريع السياسية، والتي كانت القيادة تبحث عن مكان لها فيها، والتي كان يسمعها القائد أبو عمار من مكتبه في بيروت، فإن هؤلاء الطلبة كانوا ممن يحملون السلاح للمشاركة في حراسة القائد.

كان الكاتب ذكيا في التركيز على توثيق هذه المرحلة من خلال تمازج سيرته وسيرة رفاقه، وكان ذكيا في الرواية. من غاب هنا ومن حضر، تلك رسائله أيضا التي تتحدث عن مواقف لا يذهب في تفصيلها. وله في النهاية أن يختتم بموقفه من التسوية السياسية، محتفظا باحترام قائده أبو عمار، ورفاق دربه، وكذلك استخلص لنا فكره الثوري القومي اليساري الواعي على الإسلام كطاقة ثورية بعيدا عن التسييس.

الآن، كان ما كان من جهود واجتهادات، لعلنا نصغي للضمير الخلقي الوطني، لتفكر أين نضع أقدامنا في الطريق نحو التحرر القادم لا محالة، نقرأ العصر وخطابه وظروفه، لا ناسخين ولا مقلدين، بل مجددين الفكر أولا، في ظل وحدة، ووعي وطني وإنساني، يعيدنا الى تقوية علاقة الفصائل مع الجماهير، وخدمتها لتقوية بقائها.

كم كان فعل الكتيبة مدهشا..وكم كان الوعي رائعا وملتزما!

وما أحوجنا له وإليه!