- 5 حزيران 2025
- حارات مقدسية
القدس - أخبار البلد - كتب نافذ عسيلة
في تلك الأيام التي سبقت انتشار مواقد الغاز الحديثة وقبل أن تنير الكهرباء كل بيت في القدس أو تصل إلى أطراف القرى، كان موقد الكاز البابور (البريموس) يشكل قلب المطبخ ودفء المجالس، ومع كل عطل يصيبه، كانت الأنظار تتجه إلى شخصية مألوفة في الأحياء والأسواق مصلح البوابير. لم يكن مجرد حرفي يصلح عطلاً، بل كان يحمل على كتفيه عبء الحفاظ على إيقاع الحياة اليومية.
كان ظهوره في سوق خان الزيت وفي باب السلسلة حدثاً معتاداً، لكنه لم يكن عابراً. فقد كانت تلك المهنة التي تكاد تختفي اليوم، رمزاً لقدرة الناس على تدبير شؤونهم بأدوات بسيطة ومهارات يدوية متقنة.
لم يكن المصلح يعمل بمعزل عن محيطه، بل كان جزءاً من شبكة غير مكتوبة من التضامن المجتمعي، حيث تتقاطع الحاجة بالمعرفة وتتحول الأعطال إلى فرص للحوار والتلاقي. ورغم أن الزمن قد تغير، تبقى تلك الوجوه المجهولة حاضرة في الذاكرة، تذكرنا ببساطة العيش وعمق العلاقة بين الإنسان وأدواته وقيمة كل يد خبرت العمل واتقنته.
المصلح في ذاكرة الحارة
كان الرجل الذي يصلح البوابير جزءاً مألوفاً من المشهد اليومي في الحارات، يعرفه الجميع باسمه أو بلقب شعبي مثل أبو شعلة أو أبو شعبان. لم يكن مجرد مصلح، بل شخصية محبوبة ينتظرها الناس، خاصة النساء اللواتي كن يلجأن إلى إشعال الكانون كحل مؤقت حين يتعطل البريموس.
أدواته لم تكن كثيرة أو متطورة مفكات بسيطة وإبرة نحاسية لتنظيف الفتحات المسدودة ومنفاخ لرأس البابور وعلبة كاز صغيرة غالباً ما ترافقه. لكن حضوره كان يملأ المكان، غالباً ما يُستقبل بفنجان قهوة أو كأس شاي وتتحول مهمة الإصلاح إلى جلسة ودية يتبادل فيها الجالسون الأحاديث والهموم، بينما هو يعطي نصائحه العملية مثل كيف تحافظ على البريموس يشتغل بكفاءة ومن دون أن يستهلك كاز أكثر من اللازم.
لم يكن دوره تقنياً فقط بل اجتماعياً أيضاً، كان وجوده يرمز إلى نوع من الطمأنينة، بأن هناك من يعرف ومن يستطيع ومن يساعد في زمن لم تكن فيه الخدمات متاحة بضغطة زر، كان مثل هؤلاء يمثلون حلقة وصل بين الحاجة والحل وبين الأعطال اليومية ودفء الاستمرار.
البوابير أكثر من مجرد موقد
لم تكن البوابير مجرد أداة للطهي، بل كانت جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية ومركزاً صغيراً يدور حوله الكثير من التفاصيل العائلية. كانت تجمع أفراد البيت في المساء حين يهدأ النهار وتبدأ الحكايات بالتدفق ترويها الأمهات والجدات على وقع طقطقة الزيت في المقلاة، بينما البطاطا تتحمر على لهبها الذهبي.
كان ضوء البوابير الخافت يملأ الغرفة بنور دافئ، يرقص على الجدران ويمنح المكان روحاً خاصة وكان الأطفال ينجذبون إليه رغم تحذيرات الكبار. كانوا يعرفون أن ملامستها قد تحرق أصابعهم، لكن ظلها المتراقص في العتمة كان يفتح لهم باباً للدهشة واللعب، حتى رائحة الكاز التي بدت خانقة أحياناً، صارت مع مرور الزمن جزءاً لا يُفصل عن ذاكرة الطفولة، تختلط في الذهن بروائح الطعام والشتاء وصوت المطر على النوافذ.
كانت البوابير أكثر من مجرد أداة منزلية، كانت رمزاً لزمن بسيط فيه تُصنع اللحظات الجميلة من أشياء متواضعة وتتشكل الروابط العائلية حول مصدر نار واحد يجمع لا يفرق ويُنير القلوب قبل الغرف.
اختفاء مصلح البوابير
مع دخول السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، بدأت ملامح الحياة اليومية تتغير شيئاً فشيئاً، واصبحت البوابير نفسها تتراجع أمام صعود مواقد الغاز الحديثة، أصبحت أسطوانات الغاز متوفرة في الأسواق بسهولة وأكثر أماناً وسرعة في الاستخدام، فبدأت النساء يتجنبن الكاز الذي لطالما ارتبط بالدخان والرائحة القوية وأحياناً بالحوادث المؤلمة كالحرائق أو انفجارات البوابير.
لم يعد هناك متسع للبوابير في المطابخ، فتحولت تدريجياً إلى قطع قديمة إما تُركت في زوايا الأسطح أو خُزنت في السقوف وربما بيعت كخردة أو تُركت تعلوها طبقات الغبار، ومعها اختفى وجه مصلح البوابير، ذاك الرجل الذي كان يوماً ما بطلاً صامتاً في حياة الناس اليومية، بات مجرد حكاية يرويها كبار السن لأحفادهم وقد لا يجد الصغار ما يربطهم بها سوى الفضول أو الحنين إلى ما لم يعيشوه.
ومثلما اختفت البوابير، تلاشت مهن بأكملها كانت مرتبطة بها، لم يعد أحد يمر في الأزقة لبيع الكاز أو ينادي على البيض الطازج. تغير الإيقاع وتغيرت الأدوات، لكن ما بقي هو الأثر العميق الذي تركه ذلك الزمن البسيط في ذاكرة المدينة وساكنيها، زمن كانت فيه الأشياء رغم تواضعها تحمل دفئاً لا يمكن استبداله بسهولة.
البوابير في الذاكرة الجماعية
اليوم، لم يعد أحد في البلدة القديمة يستخدم البوابير في حياته اليومية، فقد اختفت من المطابخ لتحل مكانها أدوات الطهي الحديثة، ومع ذلك، لا تزال بعض العائلات تحتفظ ببوابيرها القديمة في أحد الأركان، كذكرى من زمن مضى. تجدها أحياناً في بيت الجد أو في مخزن شبه مهجور يكسوها الغبار وتغطيها آثار الاستخدام الطويل وكأنها تحكى بصمت عن أيام كانت فيها جزءاً من نبض البيت.
أما مصلح البوابير، فقد أصبح شخصية تنتمي إلى الذاكرة الشعبية، لا تُرى في الشوارع، بل تُستحضر في جلسات الحنين، عندما يتحدث الكبار عن زمن كانت فيه الحياة أبطأ والعلاقات أكثر دفئاً والبيوت مفتوحة على بعضها كأنها بيت واحد. لم تكن البوابير مجرد وسيلة للطهي ولم يكن مصلحها مجرد صاحب مهنة، بل كانا نافذتين على نمط حياة قائم على التعاون والتواصل وعلى بساطة لم تعد موجودة.
ربما لو سألت شاباً اليوم عن البوابير، لن يعرف ما تعني وربما يظنها شيئاً من الماضي لا صلة له بالحاضر. لكن الحقيقة أن هذه التفاصيل الصغيرة من أدوات ومهن وعلاقات تشكل جزءاً من هوية المدينة ومن ذاكرتها الحية التي تستحق أن تُوثق قبل أن تندثر نهائياً، كما يتلاشى بخار الكاز في صباحات الشتاء الباردة تاركاً خلفه دفئاً لا يُنسى.