• 4 تموز 2024
  • أقلام مقدسية

 

 

 

 

بقلم: الباحث الشيخ مازن اهرام

 

  الخُبز كلمة أصلها فارسية وتعني مستدير ومعنى اسم (خُبزُ) أو فعل (خُبزَ)

(الخُبز) من فعل (خَبز) في اللغة العربية ويعني ضرب نقول خبزه خبزاً ضربه ضرباً يطلق اسم (خبز) أو (عيش) على الرغيف المصنوع من دقيق القمح أو غيره ونقول خبز البعير الأرض بيديه أي ضرب الأرض. وسمي (خبزاً) لأن الخباز يضرب الدقيق بيديه عند صُنعه والخُبزيات اسم يطلق على كل الحبوب مثل القمح والشعير أو الذرة. ثم أطلق اسم الخُبز على أي دقيق يصنع من هذه الحبوب

الخُبْزَةُ: الطُّلْمَةُ، وهي عجين يوضع في المَلَّةِ حت يَنْضَجَ، والمَلَّة: الرَّماد والتراب الذي   خَبْزُ: ضَرْبُ البعيرِ بيَدِهِ الأرضَ، والسَّوْقُ الشديدُ، والضَّرْبُ، ومَصْدَ

 والخبز قطعة العجين التي ترتفع مثل جبل وتصبح حكايات لا تُنسى 

 خاصة عندما تكون الدول المتحاربة تستغل لقمة العيش وتمنع الزاد والطعام والماء ضمن حرب التجويع والإبادة 

 الأمر الذي نشهد اليوم بعد عدة أ شهر من اندلاع الحرب على غزة حيث تصاعدت التحذيرات غرباً وشرقاَ من أزمة في توفير رغيف الخبز الذي هو أبسط مقومات الحياة وأن الحروب تُؤثُر تأثيراً مباشراً على كسرة خبز تَسدُ رمق بطنٍ جائعٍ ويشهد التاريخ قديماً وحديثاً على أن الحروب تؤثر على الإنسان في حياته  

يحتاج الإنسان إلى غذاء مادي ويحتاج إلى  غذاء معنوي أيضاً، غذاء ينمي البدن ويمنح الطاقة وآخر يغذي الروح والوجدان اليوم بضع لقيمات من الصعوبة الحصول عليها لعلها كافيةُ لملء بطنه فلا ينبغي بحال أن نغفل حاجته الماسة لعناصر العدل والخير والحرية والجمال والحب والحنان والأمن والأمان فتحقيق التوازن بين الروح والجسد يحقق استواء الشخصية وتكاملها ويقي المجتمع من أعراض مرضية تهدد أمنه وسلامته وتعرقل مسيرته إلى الأمام فالخبز ليس أكبر من مجرد رغيف يحفظ كرامة الإنسان مصداقاً لحديث الرسول صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم (من أصبحَ معافًى في بدنِه آمنًا في سِربِه عندَه قوتُ يومِه فَكأنَّما حيزت لَهُ الدُّنيا بحذافيرِها يا ابنَ جُعشُمٍ يَكفيكَ منها ما سدَّ جوعَك ووارى عورتَكَ وإن كانَ بيتًا يواريكَ فذاكَ فلقُ الخبزِ وماءُ الجرِّ وما فوقَ ذلِك حسابٌ)

يرفع أهل غزة العزة الآباء لواء اللهاث خلف لقمة العيش فلا فائض من عملات يستبدلون بها كيلو حب وحنان أو زوج سلام ووئام! 

 فهل يستطيع الإنسان أن يبدع ويبتكر ويخترع في ظل مناخ يفتقد فيه للأمان وينعدم الأمل ويسوده القبح والكراهية والبغض والأحقاد والضغائن

وشعب أضحى يبحث عن بعض حُبيْبات قمح أو شعير بين روث السوائم

لأطفال تسمرت عيونهم وضُرب على آذانهم من صوت القنابل والدمار 

﴿ أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ ۚ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ﴾  

والعالم اليوم كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ۚ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ 

والنتيجة البادية للعيان بون شاسع بيننا وبين تلك البلدان، رغم كون الإنسان هنا هو الإنسان هناك بلا مراء ولا جدال ألسنا جميعاً أبناء آدم وحواء! 

ومصداقاً لذلك قول ألبرت أنشتاين أن أكثر ما يثير الدهشة هو كون هذا الكون مفهوماً بكل تفاصيله البديهية لكن الرواية المحببة للأنفس ستكون الرواية العربية الإسلامية، حيث لم يحصر الخبز على طبقة ما فكان يأكله الفقير والغني مع الفرق في المكونات بين كل طبقة. وكان ولا يزال الخبز مقدراً عند العرب فيُذكُر أن هاشم بن عبد مناف جد الرسول صلى الله عليه وسلم كان اسمه عمرو لكن تم تسميته هاشم لهشمه الخبز لعمل الثريد سنة المجاعة حيث قال الشاعر 

عمرو الذي هشم الثريـد لقومه ………. قـوم بـمكـة مسنتــيـن عجــاف

ولا تختلف رمزية الخبز وتقديره بين الأمم عند العرب، فيرى العرب أن الخبز سبب في صفاء العقل حيث أنهم يستشهدون بما يُروى أن كسرى مدح أثر الخبز لما رأى حُسن حديث هودة بن علي الحنفي ورجاحة عقله وذكائه، فسأله: 

ما غذاؤك ببلدك؟ فقال الخبز، فرد كسرى هذا عقل الخبز لا عقل اللبن والتمر 

والأهم فيما يخص التاريخ الإسلامي العربي فيما يتعلق بالخبز هو ما رواه ابن كثير في البداية والنهاية عن عبد الله بن عباس

 ” إن أول طعام أكله آدم في الأرض أن جاءه جبريل بسبع حبات من حنطة، فقال ما هذا؟ قال: هذا من الشجرة التي نهيت عنها فأكلت منها. قال: وما اصنع بها؟ فقال: ابذره في الأرض، فبذره، فكانت كل حبة أزيد من مائة ألف، فنبتت، فحصده ثم درسه، ثم ذراه، ثم طحنه، ثم عجنه، ثم خبزه فأكله بعد جهد عظيم وتعب ونكد، وذلك قول الله تعالى: ” فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى”.  

في المسيحية الأمر يتجاوز الذكر ويُسْتخدمُ في بعض العبادات وفي صلواتهم ودعاؤهم وقدْاسهم حيث يُنظر للخبز بأنه هديةُ إلهيةُ حين أطعمه موسى لقومه بعدما أنزل من السماء كذلك خلال العشاء الأخير للمسيح عندما قام المسيح بتوزيع الخبز للحشود أصبح بعدها الخبز رمزاً للمشاركة في الثقافة الكنسية.

 ويقام حتى الآن احتفال القربان المقدس ” سر الفارستين ” وهو احتفال يتم فيه تناول الخبز المقدس الذي يمثل جسد المسيح ويتم في بعض الآحيان تغميسه بقليل من الخمر الذي يرمز إلى دم المسيح حسب اعتقادهم

 ويذهب فلاسفة اليونان القدامى إلى أن الخبز الذي يُغذينا يحتوي فعلاً على أشكال لا حصر لها من المكونات التي تشكّل جسد الإنسان! حاول المترجم الروماني لهذا النص القديم توضيح المعنى هنا فقال: «انتقل الفيلسوف من الخبز إلى الحبوب ومن الحبوب إلى الأرض ومن كليهما إلى الماء والنار نزولاً إلى المبادئ والعناصر الأولية ومن ثم يمكن ربط الجسد والطعام بالحالة المزاجية إما متفائل وإما سريع الغضب، إما هادئ وإما حزين». ويخطو بعضهم خطوة أوسع في النظر للعلاقة بين الجسد والخبز قائلاً: 

«عندما يرى الإنسان رغيف الخبز فهو يرى نموذجاً لجسده وأن الخبز الذي يدخل الجسد يصبح الجسد نفسه»

  وكثيراً ما يقال إن الجسد والخبز أحدهما الآخر لأن الخبز ينخرط في حواسنا كافة، وأكثر ما يُذكر في هذا السياق هو رائحة الخبز اللذيذة، فعند وصولها إلى الأنف تدخل الجسد وتنخرط بداخله، إذ يمتزج الأثر الذي تتركه تلك الرائحة بذكريات الطفولة والشباب وأجواء المنزل والعائلة. 

كما يرتبط طعم الخبز ارتباطاً وثيقاً بالذكريات القديمة فيجعلك تسأل نفسك هل ذلك الطعم هو الذي اعتدته؟ أم أنه تغير؟ وإذ تغير فهل أصبح أفضل أم أسوأ؟ ولا يمكن أن نغفل ملمس الخبز، فهل هو ناعم أم هش وهل له قلب طري أم لا؟ وكيف تشعر راحة اليد والأصابع عند الإمساك به وكسره؟ ولمن نقدمه وكيف ومتى وأين؟

نقطة الانطلاق لدى الباحث هي أن الخبز هو نتاج الطبيعة والثقافة، وكان بمنزلة شرط للسلام، كما كان سببًا للحرب، ووعدًا بالأمل، وسببًا لليأس، وقد باركته الأديان، وأقسم الناس به. والبلدان التي ليس لديها ما يكفي من الخبز تعاني تمرّد سكانها، لكن ذلك لا يمنع أن البلدان التي ليس لديها شيء سوى الخبز من أن تُعاني هي الأخرى، الأمر الذي يعيد إلى الأذهان القول المأثور "لا يُمكن للمرء أن يعيش على الخُبز وحده"، والتي وردت في الكتاب المقدس بصيغة "ليس بالخبز وحده يحياها الإنسان"،

 وتردَّد صداها عبر القرون.يرى الباحث أن قصص الخبز مبعثرة كالحب

والمكان، وعبر البلدان والشعوب، وفي الحياة اليومية، لكن الخبز يكشف عن نفسه في الشعر والنثر والرسم، فهو حاضر عند الحلم والاستيقاظ، نحمله داخل أنفسنا، نعرفه وننساه في الوقت نفسه. ومنذ زمن سحيق، كان الشعراء والفلاسفة والعلماء كذلك يكتبون عن ملحمة الخبز، كل واحد منهم يلهم الآخر، فقصيدة جلجامش الملحمية المكتوبة بالخط المسماري قرابة عام 1800 قبل الميلاد

الخلاصة الخبز المغمس بالدم أرغفة ظلت في مكانها تُخبرُ ما كان عليه الحال قبل دقائق قليلة، وكيف أن ثانية واحدة كانت كفيلة بقلب الحياة إلى موت مرعب أرغفة خبز كان يمكن أن تكون لمالكها ترفا في ظل الوضع المتأزم، لكن حتى حلم الاستمتاع بهذا «الترف» تحول إلى كابوس، فغادر الجائعون على عجل .... قَالَ هُمْ أُوْلَآءِ علىٰ أَثَرِى وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ

 

المصادر

الراوي أبو الدرداء | المحدث أبو نعيم | المصدر: حلية الأولياء | الصفحة أو الرقم: 5/283 | خلاصة حكم المحدث: غريب من حديث إبراهيم تفرد به ابن أخيه عنه | التخريج: أخرجه ابن حبان (671)، والقضاعي في ((مسند الشهاب)) (539) مختصراً، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (5/249) واللفظ له

البقرة آية19

البقرة آية 171

طه آية   117)

طه آية  84]

الباحث الكرواتي، البوسني الأصل، بدراج ما تفليج يتفتيش، في كتابه "الخبز: الأهمية الثقافية والرمزية لدى حضارات العالم المختلفة" (ترجمة ندى نادر، العربي للنشر والتوزيع، القاهرة ـ 2022

اصدارات هيئة أشراف بيت المقدس