• 16 كانون الثاني 2023
  • مقابلة خاصة

 

 القدس - أخبار البلد - نشر موقع  "حبر" الأردني المعروف مقالة للصحفي "هاني حوراني" حول الإرث الذي تركه ابن القدس وعاشقها حتى اخر نبض في قلبه إلا وهو المهندس "هشام الخطيب" والذي أمضى حياته مقتنيا كل من يخص المدينة التي ابعده عنها الاحتلال وبقيت هذه غصة حياته .

 ويسعدنا في "أخبار البلد" ان نعيد نشر تلك المقالة الرائعة إحياءا لذكرى ابن القدس هشام الخطيب : 

للمرة الثالثة، تحتفي دارة الفنون في عمّان بهشام الخطيب ومجموعة مقتنياته الخاصة، والتي تضم مئات اللوحات الفنية وآلاف الأعمال المطبوعة والمحفورة والصور الفوتوغرافية والخرائط والأطالس والكتب المصورة القديمة، وهي مجموعة تعود إلى الفترة الزمنية ما بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر. وبخلاف المرتين السابقتين، في العام 2005 والعام 2017، يأتي المعرض الحالي بعنوان «طبوغرافيّة المكان، فلسطين والأردن: تحية إلى الدكتور هشام الخطيب» بعد وفاته مطلع حزيران الماضي.

يضم المعرض مختارات من مقتنيات الخطيب الفنية ذات القيمة التاريخية والتي تتعلق بفلسطين والأردن، ومنها لوحات مائية وزيتية أصلية لفنانين أوروبيين، وخرائط وكتب مصورة، بالإضافة لمؤلفاته التي تعرف ببعض أجناس مقتنياته الفنية والتاريخية. وتسجل المجموعة، التي غطت قاعات المبنى الرئيسي الثلاث في دارة الفنون، أجزاءً من تاريخ «الديار المقدسة» ومصر.[1]

وبحسب الدارة، فإن أهمية مجموعة هشام الخطيب الفنية التي يستمر عرضها حتى نهاية شباط 2023، تعود إلى «غناها وتنوعها النادر، وحجمها الكبير، وقيمتها الفنية والحضارية والتاريخية». وهي بهذا المعنى تعتبر «وثائق نوعية في مجالها تؤكد خصوبة المكان ببشره وعمرانه وحياته اليومية الحافلة بالحركة عبر الزمان».[2]

ولد الخطيب في عكا عام 1936، وكان والده الشيخ محمد هاشم الخطيب قاضي نابلس الشرعي، أما والدته، فهي ابنة موسى الطبري، الذي كان بدوره قاضي منطقة عكا. وقد تنقلت عائلته ما بين عدة مدن فلسطينية إلى أن استقرت في القدس، حيث درس في المدرسة الرشيدية فيها. وبعد تخرجه، درس الهندسة الكهربائية في مصر، ثم عاد في مطلع الستينيات للعمل في مؤسسات مختلفة في القدس. وخلال تواجده في بريطانيا في السبعينيات لاستكمال دراساته العليا، حيث حصل على درجتي الماجستير والدكتوراه في الهندسة الكهربائية والاقتصادية، بدأ اهتمامه باقتناء الأعمال الفنية ذات الصلة بالقدس والأراضي الفلسطينية، وقد بدأ هواية الاقتناء بإمكاناته المالية المحدودة كطالب، مستفيدًا من معرفته الواسعة والدقيقة بطبوغرافية المكان في القدس والأراضي الفلسطينية، في اكتشاف أعمال فنية مهمة «يتعذر على المقتنين الآخرين إدراك قيمتها».[3]

وخلال السنوات الأربعين الماضية، تعاقب الخطيب على العديد من المناصب الحكومية، أبرزها المدير العام لسلطة الكهرباء الأردنية، ومناصب وزارية عدة، مثل وزير الطاقة والثروة المعدنية، والمياه والري، والأشغال العامة، وأخيرًا وزير التخطيط. كما اختير عضوًا في مجلس الأعيان الأردني، وفي عدد من المؤسسات الفكرية والعلمية المحلية والعربية والدولية. وبينما غلبت السمة التكنوقراطية على عمل الخطيب خلال هذه الحقبة الطويلة، فإن الجانب الآخر من شخصيته، أي اهتمامه بالتاريخ واقتناء الأعمال الفنية، لم يكن بارزًا بالقدر نفسه، ولعل هذا يعود إلى شخصيته التي تنزع إلى العزلة والمحافظة.

خلال أربعة عقود، راكم الخطيب خبرةً واسعة في تقصي لوحات المستشرقين والخرائط والأطالس الأصلية القديمة، ومثلها من الكتب التاريخية النادرة التي وضعها الرحالة القدماء، الذين جالوا في الربوع العربية، إضافة إلى الصور الفوتوغرافية المبكرة للقدس والكرك والبترا وجرش. وبعد أن بدأ بتكوين مجموعته عبر الشراء المباشر أثناء تواجده في بريطانيا، استمر الخطيب بالاقتناء عن طريق المزادات العالمية للكتب والمواد التاريخية والفنية، ومؤخرًا عبر شبكات الإنترنت التي باتت القنوات الرئيسية للمؤسسات العاملة في مجال المزادات.[4]

تتوزع مجموعة الخطيب على مجموعات فرعية من المقتنيات أبزرها اللوحات والرسوم، والتي يصل عددها إلى عدة مئات من رسوم القدس والديار المقدسة ومصر، ومعظمها منفذ بالألوان المائية والقليل منها بالألوان الزيتية. وتعود غالبية هذه الأعمال الفنية إلى القرن التاسع عشر، فيما يرجع القليل منها إلى نهاية العهد العثماني، أي العقدين الأول والثاني من القرن العشرين. كما أن السمة المشتركة بينها هي كونها «رسومًا طبوغرافية» بحسب تعبير الخطيب، أي أنها تمثل مشاهد طبيعية عامة (Landscape)، خاصة لمدينة القدس.

ومع أن معظم أعمال المجموعة تعود لفنانين بريطانيين، إلا أنها ضمت عددًا من اللوحات التي  رسمها فنانون من ألمانيا وفرنسا والسويد وإيرلندا وبلجيكا وإيطاليا والولايات المتحدة وغيرها. ويلفت النظر أن عددًا هامًا من اللوحات والرسوم في المجموعة قد أنجز على يد قباطنة سفن وقادة أساطيل وبحارة ممن كانوا يجوبون البحر المتوسط ويبحرون إلى الهند عبر البحر الأحمر، كما هو حال الأسطول البريطاني.

وكما هو حال نتاجات الفنانين المستشرقين الآخرين، فإن العديد من فناني مجموعة هشام الخطيب استلهموا موضوعاتهم واختاروا أماكن لوحاتهم من الكتاب المقدس، الذي كان الدافع الأول للاهتمام بزيارة الديار المقدسة من قبل الرحالة والفنانين.[5] وضمت المجموعة أعمالًا فنية لرسامين حققوا شهرة واسعة، من أبرزهم الفنان الاسكتلندي ديفيد روبرتس (1796-1864) الذي وثق أماكن هامة في مصر وفلسطين والأردن ولبنان، وكذلك وليم سيمبسون (2823-1899،) فنان مجلة «أخبار لندن المصورة»، ووليام هولمان هنت (1827-1910)، وهو فنان بريطاني زار القدس أكثر من مرة لرسمها.

أما الفئة الثانية من المجموعة فهي اللوحات الحفرية أو الليثوغرافية، وهي طبعات أصلية تصور القدس والديار المقدسة، ونفّذت خلال القرن التاسع عشر أو قبله، وهي منفذة بعدة تقنيات حفر. وتضم هذه الفئة طبعات قيمة للقدس، تعود أقدمها إلى عام 1600، إضافة إلى طبعات ليثوغرافية أخرى للمدينة المقدسة نفذت على يد فنانين حفارين من دول أوروبية عدة، أشهرهم البريطاني ديفيد روبرتس. وقد ضمت مجموعة هشام الخطيب لوحات ليثوغرافية أصلية لروبرتس، تصور مشاهد مختلفة من القدس، وطبريا، وسبسطية، وأريحا، ونابلس، وغزة، وعين جدي، وبيت لحم، وخليج العقبة، وسيناء، إضافة إلى لوحات عديدة للبترا.

كما ضمت المجموعة نسخًا نادرة من الكتب المصورة القديمة عن القدس والديار المقدسة، وتعود لعدد من الفنانين والرحالة، وهي كتب تضمنت رسومًا بالأبيض والأسود أو لوحات ملونة طبعت بأساليب الحفر المختلفة (على لوحات معدنية أو خشبية أو حجرية)، ومعظمها يعود إلى النصف الأول من القرن التاسع عشر. كذلك ضمت المجموعة ملصقات أكثر معاصرة، تعود إلى النصف الأول من القرن العشرين، أهمها الملصق الشهير الذي يحمل عبارة «زوروا القدس» بالإنجليزية، وهو يعود لعام 1935.

تشكل الصور الفوتوغرافية الفئة الثالثة الأكثر أهمية من بين مقتنيات هشام الخطيب، حيث يقدر عددها بحوالي ثلاثة آلاف صورة فوتوغرافية أصلية تعود إلى القرن التاسع عشر، منها حوالي ألف صورة للقدس والبلاد المقدسة، حسب صاحب المجموعة.

تنسب العديد هذه الصور إلى بعض أشهر المصورين الغربيين الذين عاشوا في القدس أو زاروا الديار المقدسة، مثل جون ميندل دينس، وجيمس جراهام أول مصور محلي في القدس الذي أقام في المدينة المقدسة لبعض السنوات، وفرانسيس فيرث الذي ربط التصوير الفوتوغرافي بالسياحة إلى الشرق الأوسط، وفيليكس بونفيس صاحب الاستوديو الشهير في بيروت، وفرانك ميسون جوود، وجيمس فيليبس، أحد أبرز مصوري صندوق استكشاف فلسطين (PEF)، وأفضل من صور مدينة القدس، ويعود أقدم هذه الصور إلى عام 1857. 

كذلك، تشكل الأطالس جزءًا هامًا من مجموعة الخطيب، ومن بينها أطلس فلسطين الذي اعتمد على مسوح «صندوق استكشاف فلسطين» لعام 1865، وطبع عام 1880. إضافة إلى أطلس جاكوتين (1799-1803) الذي يعد أول أطلس دقيق لمصر وفلسطين، وقد صدر باللغتين الفرنسية والعربية، حيث تم تنفيذه أثناء حملة نابليون على فلسطين، عام 1799. كما وتحتوي مجموعة الخطيب على عدد كبير من الخرائط القديمة للديار المقدسة، أعد معظمها قبل نهاية القرن الثامن عشر، منها خارطة أورتيليوس للديار المقدسة، والتي ظهرت في أطلس العالم، عام 1584.

هذا وقد حظيت البترا باهتمام خاص من هشام الخطيب، حيث ضمت مجموعته عدة لوحات ليثوغرافية أصلية ملونة باليد للبتراء، تعود إلى دافيد روبرتس، خلال الأعوام 1842-1844. وهناك ثلاث صور فوتوغرافية أصلية من تصوير فرانسيس فريث، وثلاث لوحات مائية لمنطقة البترا نفذت على يد الفنان شرانز، حوالي عام 1840.

كما تضم مجموعة البتراء كتبًا نادرة عنها، أهمها كتاب بيركهارت «رحلات في سورية والديار المقدسة» الصادر عام 1828، والذي يتحدث فيها عن زيارته للبترا، عام 1812. كذلك كتاب الرحالة الفرنسي لابوردي، في طبعته الثانية عام 1838، وهو أول كتاب ألف بصورة رئيسية عن البتراء باللغة الفرنسية. وبحسب الخطيب، فإن من أهم مقتنياته عن البتراء خارطة أصلية رسمت باليد لمنطقة البترا عام 1830، من قبل لابوردي، وظهرت في الترجمة الإنجليزية لكتابه المشهور عن البتراء.[6]

عكف الخطيب خلال العقدين الأخيرين على التعريف بمجموعته الفنية من خلال عدة كتب وكراسات، تتضمن إضاءات وتحاليل للفئات المختلفة من مقتنياته، من بينها «الكتب القيمة والمخطوطات المتعلقة بالأراضي المقدسة والشرق الأدنى»، و«الزهور البرية في فلسطين والأردن»، و«القدس: مشاهد بانورامية»، و«رحلة إلى القدس»، و«القدس، فلسطين، والأردن في أراشيف هشام الخطيب»، و«القدس وبيت لحم والديار المقدسة ومصر في رسومات كارل فيرنير». وقد صدرت جميعها باللغة الإنجليزية. وبطبيعة الحال، فإن مؤلفات الخطيب عن مجموعته الفنية جاءت حافلة بصور اللوحات والرسوم والخرائط التي دأب على جمعها على مدار أربعة عقود من الزمن.

المثير للاستغراب أن القاعة الخاصة بعرض المؤلفات خلت من أهم كتبه ذات الصلة بمجموعته الفنية والتاريخية الخاصة، ونعني هنا كتابه «فلسطين ومصر تحت الحكم العثماني»، الصادر باللغة الإنجليزية، عام 2003. فهذا الكتاب بقطعه الكبير وصفحاته الـ300 يتضمن توثيقًا إضافيًا لمجموعة الخطيب، تسبقه قراءته الخاصة لتاريخ فلسطين والقدس إبان الحقبة العثمانية، وثبت بأسماء الرحالة والمستكشفين والرسامين والمصورين الذين وثقوا للبلاد المقدسة ومصر. ويلي ذلك ستة فصول إضافية تعرض لأصناف مجموعته من اللوحات الفنية والحفرية والصور الفوتوغرافية وكتب الرحلات والأطالس والخرائط والمخطوطات. ومما زاد من قيمة هذا الكتاب المعرفية أنه تضمن ملاحق إرشادية حول هذه المقتنيات، وقوائم بألبومات الصور الفوتوغرافية المبكرة لفلسطين ومصر، وأسماء عدد لا يستهان به من الرسامين المستشرقين الذين زاروا مصر وفلسطين وعادوا بمشاهد تعكس رؤيتهم للحياة المشرقية في هاتين البقعتين الهامتين، خلال القرن التاسع عشر.

أخيرًا، وبخلاف المقتنين الأفراد في العالم العربي الذين كانوا غالبًا مصرفيين كبار، أو رجال أعمال، أو فاحشي الثراء، فإن هشام الخطيب قاده شغف الاقتناء المبكر إلى جمع مجموعة فنية قيمة تتمحور، رغم تنوع أجناسها، حول فلسطين أو الأراضي المقدسة، ومصر، معتمدًا على خبرته المتنامية عامًا بعد آخر بعالم الاستشراق والتاريخ والمؤسسات الراعية للمزادات الخاصة بالأعمال الفنية الاستشراقية والكتب والمطبوعات القديمة، أكثر مما اعتمد على قدراته المالية، التي لا تقارن بغيره من المقتنين العرب.

وبعد رحيل هشام الخطيب، الذي كان يقوم بنفسه بالاعتناء بمجموعته الفنية وحفظها وتصنيفها والتعريف بمحتوياتها، آن الأوان بأن تجد هذه المجموعة نفسها في متحف يحمل اسم صاحبها، بما يسمح للجمهور المعني (من الباحثين ودارسي الفنون وعلوم التاريخ والجغرافيا والأنثروبولوجيا وغيرهم) الاطلاع على محتوياتها والتعرف على قيمتها الفنية والمعرفية الثمينة.