• 1 حزيران 2024
  • ثقافيات

 

بقلم : جودت مناع 

انتهى به الأمر في السجن بقرار إداري ، وزج به في غرفة ضاقت بنزلائها الأربعين إضافة لمسؤول يسمونه ب "شاويش الغرفة" حيث يقضي ضعف العدد المتاح للسعة الرسمية في غرفة رديئة مساحتها ٢٥ مترا مربعاً تقريباً. 

وبرغم مساحة المدينة الممتدة على تلال يفصل بينها واد سحيق تجابه العواصف والغيوم فتجذب إلى قممها ما بحوزتها من مياه الأمطار ثم تتخلص منها في منطقة "سيل عمان" الذي يمر تحت شارع مسقوف قرب مجمع رغدان القديم.

 هناك وجد المتسول وجامع الخردة من عربات النفاية له ملاذا للنوم بين أكوام من الخردة في مخزن صغير استأجره تاجر الخردوات ليمضي سنوات بلا فراش ولا غطاء للنوم. 

وفي صباح كل يوم يفيق من نومه كلما ارتفع ضجيج محركات المركبات المسرعة في اتجاهين من قلب المدينة وعلى أطرافها.

 وبعد أن تلامس ذيول الشمس التلال المحيطة بالمكان وتضيء سطوعها الوردي شريان البلدة القديمة يبدأ متسول رغدان رحلته الصباحية في الشوارع القريبة من مأواه القسري ، يعلم أماكن الحاويات الصغيرة ، يلتفت في جوف واحدة تلو الأخرى ، ويدرك قيمة النفايات الصلبة التي يرتزق من قيمة أثمانها في كل يوم كعلب المرطبات المعدنية أو بقايا الالمنيوم والحديد والصفائح والمعلبات الجاهزة ، يلتقطها من الحاوية ويضعها في عربة صغيرة يتنقل بها إلى غير مكان.

 وخلافا للمدن في الدول المعاصرة لا تتوفر حاويات إضافية في جميع المناطق تمكن المستهلك أو عمال النفايات من فرز النفايات لإعادة تدويرها والاستفادة منها في التصنيع المحلي.

 ولا تستجيب حالة متسول رغدان لرغبته بالحرية رغم جسامة ظروف حياته التي اعتاد على تطويعها للوقت والأحوال الجوية باختلاف طبيعتها وإدارتها في مكان نومه الضيق كما العشرات من أمثاله في مدينة مكتظة باللاجئين الوافدين من بلدان مجاورة تعتمد الغالبية العظمى منهم على المعونات الدولية غرقت في وحل الصراعات الدامية بفعل الانفصام السياسي العربي ومحيطه المتناقض مع المصالح العليا لشعوب المنطقة . 

وتختلف دوافع التسول من شخص لآخر . وهذه الفئة لا تخضع لدراسات حقيقية تبحث في الدوافع والتداعيات والظروف المعيشية وكيف يمكن التغلب على هذه الظاهرة بوسائل وحوافز لبعض أو جميع الذين وقعوا في معاناتها لا تحبذ لدى بعض المجتمعات .

 منذ اللحظة الأولى التي دلف بها الزائر لغرفة السجن ، التفت نحو شاب طويل القامة ، زنجي الشعر بحلاقة يفضلها جنود المارينز الأمريكيين ذو وجه بلون شوكولاته نوتيلا ويرتدى بيجامة رمادية لا تتسع لضخامة بدنه فيضطر الإمساك ببنطاله ويرفعه إلى أعلى كلما انزلق إلى أسفل خاصرته. سأله:

 منذ متى تقيم في هذا السجن ؟

 يجهل المتسول وجامع الخردة يوم وتاريخ احتجازه في السجن ويجيب:

 - قبل أيام - 

هل تحدد في أي يوم او متى؟

 يتحدث متسول رغدان للزائر دون أن يلتفت إلى وجهه . يفرك اصابع قدمه المطوية إلى فخذه بيده اليمنى. 

- لا اعلم 

لاحظ الزائر أن الأكثر نفوذا في السجن فرضوا على متسول رغدان الالتزام بالجلوس في زاوية الغرفة بجوار الباب الحديدي . وبجانبه يجلس شخصا آخر . يمدد ساقيه إلى أمامه ، و يمسد شعر شاربه الخفيف ذي اللون الأسود وبعضه القليل أبيض بأصابع يده اليمنى ، ويحدق بعينيه في مسطبة الغرفة .

 والسؤال الملح لدى الزائر:

 أين يحتفظ متسول رغدان بقيمة ثمن مبيعاته من مخلفات النفايات والنقد الذي يجمعه يوميا من العابرين ؟!. 

كانت المفاجأة غير متوقعة ، ليتضح أن متسول رغدان وقع ضحية أشخاص كانوا يوما من العقلاء إلا أن انحرافهم جعل من الضحية المصاب بمرض نفسي واحدا من عقلاء المجتمع بينما تحول الجناة الحقيقيون لمجانين اعتادوا على ايذائه جسديا مساء كل يوم لابتزازه ودفعه للتسول وجمع الخردة من الحاويات .

 يتبع ...