• 10 آذار 2023
  • نبض إيلياء

 

  بقلم : خليل العسلي 

  جلس الحاج عبد الله سعيد في ساعات الظهر المتأخرة أمام حانوته الذي ورثها أبا عن جد في سوق حارة النصارى داخل البلدة القديمة يسرح بناظره تارة  في الفضاء الضبابي التي يخيم على هذا السوق  وتارة ينظر الى البلاط الروماني الذي بقي قسم منه في شارع حارة النصارى وكأنه يخاطب تلك الحجارة التي رصفت الشارع :  كم مر عليك من محتل واختفى وبقيت انت صامدة في وجه كل الغزاة كحال اهل المدينة المقدسة الذين يقاومون بصمت من اجل الهوية والبقاء. قائلا بعد أن شعر بوجودي إذا لم يتحسن الوضع في شهر رمضان المبارك القادم بعد عدة اسابيع فان حالي لا يعلم بها الا رب العالمين، فأنا منذ ثلاثة أيام لم يدخل حانوتي لا سائح لا محلي! لذلك  فهو يعلق الكثير من الآمال على هذا الشهر الفضيل بأن يتمكن فيه من تعويض الأشهر العجاف التي يعيشها طيلة العام ، واستطرد سعيد قائلا ان جميع المؤشرات تؤكد ان الاوضاع في القدس الحزينة لن تكون بأفضل حال في الشهر الفضيل… حسبنا الله ونعم الوكيل، فالسلطات الإسرائيلية من أمنية واقتصادية وضريبة تتربص لنا بكل مكان وفي كل دقيقة،  والمستوطنون الذين احتلوا أسطح الأسواق القريبة ينغصون حياتنا ويتصرف هؤلاء المحتلون وكأنهم هو أصحاب البلد. حتى ان العديد من تلاميذ المدرسة الدينية اليهودية التي استولت على سطح الأسواق يقولون لنا انتم سترحلون ذات يوم وهذه الحوانيت هي لنا …!  بات واضحا لنا  ان الهدف هو ترك البلدة القديمة، التي تحولت في ساعات المساء المبكرة الى مدينة اشباح لا يتحرك فيها الا الخفافيش .. والباحثون عن تاريخ متخيل لدى عقول انتهازية كولونية احلالية  .

 إن حكاية عبد الله  سعيد صاحب محل الجلود لا تختلف كثيرا عن حكاية الحوانيت في البلدة القديمة برمتها، فهذا الجزء من القدس والذي هو القلب النابض وهو أصل الحكاية ونهايتها لا يستيقظ باكرا كحال الأسواق المركزية الأخرى ولا يسهر طويلا ، فعدد ساعات عمل الحوانيت فيه لا تتجاوز الخمس ساعات يوميا في فصل الشتاء والبرد وقد تصل الى ست ساعات في الصيف، ناهيك ان ان غالبية الحوانيت مغلقة بشكل شبه يومي ، بل أن هناك أسواقا لا تفتح ابوابها الا ايام الجمعة وجزءا من ايام السبت كحال سوق الخواجات وسوق القطانين وغيرها حتى سوق اللحامين الشهير الغالبية العظمى من المحال فيه مغلقا طيلة ايام الاسبوع .

 ان المشهد العام أزقة البلدة القديمة أصبح استيطانيا بالأساس فبات مشهد المستوطنين وأولادهم يلعبون  في الأزقة ويسرحون ويمرون بدراجاتهم الهوائية  مألوفا بينما اختفى عن ذلك المشهد الاطفال المقدسيين اما تجنبا لهؤلاء الغزاة  ومؤسساتهم الأمنية الداعمة لهم ، واما لان  قسما قد هجر البلدة القديمة، حيث يتضح أن هناك تناقصا في عدد الفلسطينيين داخل البلدة  القديمة من القدس والذي كان قد تجاوز الخمس والثلاثين الف نسمة الى اقل من هذا العدد ببضعة الآلاف خلال الأعوام القليلة الماضية .

 ما علينا 

 المهم ،  أن الحيز العام في البلدة القديمة من القدس يشهد هجمة اسرائيلية غير مسبوقة بهدف فرض الرواية اليهودية وطرد الرواية الأصلية فبعد الاستيلاء على المشهد والرواية في باب الخليل وصل الزحف الى باب الجديد وهو المدخل على حارة النصارى حيث نشهد تحولات كبيرة واستثمارات أكبر من قبل بلدية القدس من أجل جعله جزءا من الرواية الاسرائيلية للمدينة وقد نجحت بذلك بصورة كبيرة فاصبح الزبون شبه الدائم هناك اليهودي الذي يريدون أن يرى بهذا المكان جزءا من حيزه العام الخاص به على حساب اهل المدينة، كما ان الزحف التوراتي  وإحلال الرواية محل الرواية يتسلل شيئا فشيئا نحو الأسواق وفوق الأسواق (  العطارين ، اللحامين،  الخواجات ، صبرة،  وأجزاء  من سوق حارة النصارى) حيث تسعى جمعية يهودية كندية استيطانية لأخذ الموافقات الكاملة من قبل السلطات من اجل اقامة المطاعم والمقاهى فوق أسطح الأسواق في البلدة القديمة ليكتمل الاستيلاء على الحيز والفضاء المقدسي.

 وهكذا فإن ما يجرى من عزوف عربي محلي اسلامي مسيحي عن البلدة القديمة وأسواقها يقابله إقبال كبير من قبل المستوطنين سيؤدي إلى السيطرة على الحيز وخلق هوية جديدة للمدينة وراوية تتناسب مع سياسة الاحلال التي تمارسها اسرائيل وبهدوء وبكل وحشية بحق المدينة وأهلها حيزها وهويتها  .

 وقبل أن نخرج من الحانوت الهادئ الوادع مثل صاحبه الحاج عبد الله سعيد قال رغم هذه الأوضاع الصعبة التي تبدو مستحيلة  الا انني لن اتخلى عن نسمة هواء في البلدة القديمة فعندما اغادرها اشعر بالاختناق،  يا بني هنا عشنا وهناك لعبنا وهنا شهدنا رخاء وسعادة وبالتالي فإننا هناك باقون حتى بعد موتنا ستدفن أجسادنا بمحاذاة أسوار القدس وارواحنا في ازقة البلدة القديمة من القدس .

وللحديث بقية